منتدى ادارة المستشفيات

مرحبا بكم فى منتداكم
وفقنا الله الى ما يحبه ويرضاه

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتدى ادارة المستشفيات

مرحبا بكم فى منتداكم
وفقنا الله الى ما يحبه ويرضاه

منتدى ادارة المستشفيات

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى ادارة المستشفيات

منتدى خاص بطلاب دبلومة ادارة المستشفيات جامعة عين شمس

 

 

 

مرحبا بالزائر رقم

المواضيع الأخيرة

» د حاتم البيطار محاضرات مكافحة العدوى
رواية.. أنت لي I_icon_minitimeالخميس 12 أبريل 2018 - 11:43 من طرف دحاتم البيطار

» د حاتم البيطار محاضرات ادارة مستشفبات
رواية.. أنت لي I_icon_minitimeالخميس 12 أبريل 2018 - 11:39 من طرف دحاتم البيطار

» محاضر طبي مستعد لتدريس ادارة مستشفيات ومكافحة عدوى 01005684344
رواية.. أنت لي I_icon_minitimeالخميس 12 أبريل 2018 - 11:14 من طرف دحاتم البيطار

» د حاتم البيطار استشاري وجراح الاسنان
رواية.. أنت لي I_icon_minitimeالإثنين 19 مارس 2018 - 0:31 من طرف د حاتم البيطار

» د حاتم البيطار د حاتم البيطار محاضرات صوتية
رواية.. أنت لي I_icon_minitimeالإثنين 19 مارس 2018 - 0:25 من طرف د حاتم البيطار

» عضو جديد ولى بعض الاستفسارات
رواية.. أنت لي I_icon_minitimeالجمعة 28 أكتوبر 2016 - 1:13 من طرف zima

» يوم علمي جديد
رواية.. أنت لي I_icon_minitimeالجمعة 21 أكتوبر 2016 - 10:29 من طرف د حاتم البيطار

» تسحيل دبلومة ادارة مستشفيات
رواية.. أنت لي I_icon_minitimeالأحد 14 فبراير 2016 - 15:02 من طرف زائر

» د حاتم البيطار د حاتم البيطار محاضرات ادارة مستشفيات ومكافحةعدوى د حاتم البيطار
رواية.. أنت لي I_icon_minitimeالخميس 12 مارس 2015 - 19:06 من طرف د حاتم البيطار


3 مشترك

    رواية.. أنت لي

    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty رواية.. أنت لي

    مُساهمة  littledoctor الخميس 30 يونيو 2011 - 11:10

    السلام عليكم و رحمة الله
    قرأت مؤخرا رواية أعجبتني, و قررت مشاركتها معكم و هي رواية : "أنت لي" للدكتورة/ منى المرشود, و اعتبرها من اجمل ما قرأت, ساكتب لكم منها كل يوم فصل لانها طويلة شوية بس ممتعة جدا... تابعونا و في انتظار آرائكم


    رواية.. أنت لي Ouo_uu10

    بسم الله نبدأ...




    مخلوقة إقتحمت حياتي !





    توفي عمي و زوجته في حادث مؤسف قبل شهرين ، و تركا طفلتهما الوحيدة ( رغد ) و التي تقترب من الثالثة من عمرها ... لتعيش يتيمة مدى الحياة .

    في البداية ، بقيت الصغيرة في بيت خالتها لترعاها ، و لكن ، و نظرا لظروف خالتها العائلية ، اتفق الجميع على أن يضمها والدي إلينا و يتولى رعايتها
    من الآن فصاعدا .

    أنا و أخوتي لا نزال صغارا ، و لأنني أكبرهم سنا فقد تحولت فجأة إلى
    ( رجل راشد و مسؤول ) بعد حضور رغد إلى بيتنا .

    كنا ننتظر عودة أبي بالصغيرة ، (سامر) و ( دانة ) كانا في قمة السعادة لأن عضوا جديدا سينضم إليهما و يشاركهما اللعب !

    أما والدتي فكانت متوترة و قلقة

    أنا لم يعن ِ لي الأمر الكثير

    أو هكذا كنت أظن !


    وصل أبي أخيرا ..

    قبل أن يدخل الغرفة حيث كنا نجلس وصلنا صوت صراخ رغد !

    سامر و دانة قفزا فرحا و ذهبا نحو الباب راكضين


    " بابا بابا ... أخيرا ! "


    قالت دانه و هي تقفز نحو أبي ، و الذي كان يحمل رغد على ذراعه و يحاول تهدئتها لكن رغد عندما رأتنا ازدادت صرخاتها و دوت المنزل بصوتها الحاد !


    تنهدت و قلت في نفسي :


    " أوه ! ها قد بدأنا ! "


    أخذت أمي الصغيرة و جعلت تداعبها و تقدم إليها الحلوى علها تسكت !

    في الواقع ، لقد قضينا وقتا عصيبا و مزعجا مع هذه الصغيرة ذلك اليوم .




    " أين ستنام الطفلة ؟ "


    سأل والدي والدتي مساء ذلك اليوم .


    " مع سامر و دانه في غرفتهما ! "


    دانه قفزت فرحا لهذا الأمر ، إلا أن أبي قال :


    " لا يمكن يا أم وليد ! دعينا نبقيها معنا بضع ليال إلى أن تعتاد أجواء المنزل، أخشى أن تستيقظ ليلا و تفزع و نحن بعيدان عنها ! "


    و يبدو أن أمي استساغت الفكرة ، فقالت :


    " معك حق ، إذن دعنا ننقل السرير إلى غرفتنا "


    ثم التفتت إلي :


    " وليد ،انقل سرير رغد إلى غرفتنا "


    اعترض والدي :

    " سأنقله أنا ، إنه ثقيل ! "


    قالت أمي :

    " لكن وليد رجل قوي ! إنه من وضعه في غرفة الصغيرين على أية حال ! "


    (( رجل قوي )) هو وصف يعجبني كثيرا !


    أمي أصبحت تعتبرني رجلا و أنا في الحادية عشرة من عمري ! هذا رائع !

    قمت بكل زهو و ذهبت إلى غرفة شقيقي و نقلت السرير الصغير إلى غرفة والدي .

    عندما عدتُ إلى حيث كان البقية يجلسون ، وجدتُ الصغيرة نائمة بسلام !

    لابد أنها تعبت كثيرا بعد ساعات الصراخ و البكاء التي عاشتها هذا اليوم !

    أنا أيضا أحسست بالتعب، و لذلك أويت إلى فراشي باكرا .




    ~~~~~~~~~



    نهضت في ساعة مبكرة من اليوم التالي على صوت صراخ اخترق جدران الغرفة من حدته !

    إنها رغد المزعجة

    خرجت من غرفتي متذمرا ، و ذهبت إلى المطبخ المنبعثة منه صرخات ابنة عمي هذه


    " أمي ! أسكتي هذه المخلوقة فأنا أريد أن أنام ! "


    تأوهت أمي و قالت بضيق :

    " أو تظنني لا أحاول ذلك ! إنها فتاة ٌصعبة ٌ جدا ! لم تدعنا ننام غير ساعتين أو ثلاث والدك ذهب للعمل دون نوم ! "


    كانت رغد تصرخ و تصرخ بلا توقف .

    حاولت أن أداعبها قليلا و أسألها :

    " ماذا تريدين يا صغيرتي ؟ "


    لم تجب !

    حاولت أن أحملها و أهزها ... فهاجمتني بأظافرها الحادة !

    و أخيرا أحضرت إليها بعض ألعاب دانه فرمتني بها !

    إنها طفلة مشاكسة ، هل ستظل في بيتنا دائما ؟؟؟ ليتهم يعيدوها من حيث جاءت !


    في وقت لاحق ، كان والداي يتناقشان بشأنها .

    " إن استمرت بهذه الحال يا أبا وليد فسوف تمرض ! ماذا يمكنني أن أفعل من أجلها ؟ "

    " صبرا يا أم وليد ، حتى تألف العيش بيننا "

    قاطعتهما قائلا :

    " و لماذا لا تعيدها إلى خالتها لترعاها ؟ ربما هي تفضل ذلك ! "

    أزعجت جملتي هذه والدي فقال :

    " كلا يا وليد ، إنها ابنة أخي و أنا المسؤول عن رعايتها من الآن فصاعدا . مسألة وقت و تعتاد على بيتنا "


    و يبدو أن هذا الوقت لن ينتهي ...

    مرت عدة أيام و الصغيرة على هذه الحال ، و إن تحسنت بعض الشيء و صارت تلعب مع دانه و سامر بمرح نوعا ما

    كانت أمي غاية في الصبر معها ، كنت أراقبها و هي تعتني بها ، تطعمها ، تنظفها ، تلبسها ملابسها ، تسرح شعرها الخفيف الناعم !

    مع الأيام ، تقبلت الصغيرة عائلتها الجديدة ، و لم تعد تستيقظ بصراخ و كان على وليد ( الرجل القوي ) أن ينقل سرير هذه المخلوقة إلى غرفة الطفلين !

    بعد أن نامت بهدوء ، حملتها أمي إلى سريرها في موضعه الجديد . كان أخواي قد خلدا للنوم منذ ساعة أو يزيد .

    أودعت الطفلة سريرها بهدوء .

    تركت والدتي الباب مفتوحا حتى يصلها صوت رغد فيما لو نهضت و بدأت بالصراخ

    قلت :

    " لا داعي يا أمي ! فصوت هذه المخلوقة يخترق الجدران ! أبقه مغلقا ! "

    ابتسمت والدتي براحة ، و قبلتني و قالت :

    " هيا إلى فراشك يا وليد البطل ! تصبح على خير "

    كم أحب سماع المدح الجميل من أمي !

    إنني أصبحت بطلا في نظرها ! هذا شيء رائع ... رائع جدا !

    و نمت بسرعة قرير العين مرتاح البال .

    الشيء الذي أنهضني و أقض مضجعي كان صوتا تعودت سماعه مؤخرا

    إنه بكاء رغد !

    حاولت تجاهله لكن دون جدوى !

    يا لهذه الـ رغد ... ! متى تسكتيها يا أمي !

    طال الأمر ، لم أعد أحتمل ، خرجت من غرفتي غاضبا و في نيتي أن أتذمر بشدة لدى والدتي ، إلا أنني لاحظت أن الصوت منبعث من غرفة شقيقي ّ
    نعم ، فأنا البارحة نقلت سريرها إلى هناك !

    ذهبت إلى غرفة شقيقي ّ ، و كان الباب شبه مغلق ، فوجدت الطفلة في سريرها تبكي دون أن ينتبه لها أحد منهما !

    لم تكن والدتي موجودة معها .

    اقتربت منها و أخذتها من فوق السرير ، و حملتها على كتفي و بدأت أطبطب عليها و أحاول تهدئتها .

    و لأنها استمرت في البكاء ، خرجت بها من الغرفة و تجولت بها قليلا في المنزل

    لم يبد ُ أنها عازمة على السكوت !

    يجب أن أوقظ أمي حتى تتصرف ...

    كنت في طريقي إلى غرفة أمي لإيقاظها ، و لكن ...

    توقفت في منتصف الطريق ، و عدت أدراجي ... و دخلت غرفتي و أغلقت الباب .

    والدتي لم تذق للراحة طعما منذ أتت هذه الصغيرة إلينا .

    و والدي لا ينام كفايته بسببها .

    لن أفسد عليهما النوم هذه المرة !

    جلست على سريري و أخذت أداعب الصغيرة المزعجة و ألهيها بطريقة أو بأخرى حتى تعبت ، و نامت ، بعد جهد طويل !

    أدركت أنها ستنهض فيما لو حاولت تحريكها ، لذا تركتها نائمة ببساطة على سريري و لا أدري ، كيف نمت ُ بعدها !

    هذه المرة استيقظت على صوت أمي !

    " وليد ! ما الذي حدث ؟ "

    " آه أمي ! "

    ألقيت نظرة من حولي فوجدتني أنام إلى جانب الصغيرة رغد ، و التي تغط في نوم عميق و هادىء !

    " لقد نهضت ليلا و كانت تبكي .. لم أشأ إزعاجك لذا أحضرتها إلى هنا ! "

    ابتسمت والدتي ، إذن فهي راضية عن تصرفي ، و مدت يدها لتحمل رغد فاعترضت :

    " أرجوك لا ! أخشى أن تنهض ، نامت بصعوبة ! "

    و نهضت عن سريري و أنا أتثاءب بكسل .

    " أدي الصلاة ثم تابع نومك في غرفة الضيوف . سأبقى معها "

    ألقيت نظرة على الصغيرة قبل نهوضي !

    يا للهدوء العجيب الذي يحيط بها الآن!

    بعد ساعات ، و عندما عدت إلى غرفتي ، وجدت دانه تجلس على سريري بمفردها . ما أن رأتني حتى بادرت بقول :

    " أنا أيضا سأنام هنا الليلة ! "

    أصبح سريري الخاص حضانة أطفال !

    فدانه ، و البالغة من العمر 5 سنوات ، أقامت الدنيا و أقعدتها من أجل المبيت على سريري الجذاب هذه الليلة ، مثل رغد !

    ليس هذا الأمر فقط ، بل ابتدأت سلسلة لا نهائية من ( مثل رغد ) ...

    ففي كل شيء ، تود أن تحظى بما حظيت به رغد . و كلما حملت أمي رغد على كتفيها لسبب أو لآخر ، مدت دانه ذراعيها لأمها مطالبة بحملها (مثل رغد ) .

    أظن أن هذا المصطلح يسمى ( الغيرة ) !

    يا لهؤلاء الأطفال !

    كم هي عقولهم صغيرة و تافهة !




    ~~~~~~



    كانت المرة الأولي و لكنها لم تكن الأخيرة ... فبعد أيام ، تكرر نفس الموقف ، و سمعت رغد تبكي فأحضرتها إلى غرفتي و أخذت ألاعبها .

    هذه المرة استجابت لملاعبتي و هدأت ، بل و ضحكت !

    و كم كانت ضحكتها جميلة ! أسمعها للمرة الأولى !

    فرحت بهذا الإنجاز العظيم ! فأنا جعلت رغد الباكية تضحك أخيرا !

    و الآن سأجعلها تتعلم مناداتي باسمي !

    " أيتها الصغيرة الجميلة ! هل تعرفين ما اسمي ؟ "

    نظرت إلي باندهاش و كأنها لم تفهم لغتي . إنها تستطيع النطق بكلمات مبعثرة ، و لكن ( وليد ) ليس من ضمنها !


    " أنا وليد ! "

    لازالت تنظر إلى باستغراب !

    " اسمي وليد ! هيا قولي : وليد ! "

    لم يبد ُ الأمر سهلا ! كيف يتعلم الأطفال الأسماء ؟

    أشرت إلى عدة أشياء ، كالعين و الفم و الأنف و غيرها ، كلها أسماء تنطق بها و تعرفها . حتى حين أسألها :


    " أين رغد ؟ "


    فإنها تشير إلى نفسها .

    " و الآن يا صغيرتي ، أين وليد ؟ "

    أخذت أشير إلى نفسي و أكرر :

    " وليد ! وليـــد ! أنا وليد !

    أنت ِ رغد ، و أنا وليد !

    من أنتِ ؟ "

    " رغد "

    " عظيم ! أنتِ رغد ! أنا وليد ! هيا قولي وليد ! قولي أنت َ وليد ! "


    كانت تراقب حركات شفتيّ و لساني ، إنها طفلة نبيهة على ما أظن .

    و كنت مصرا جدا على جعلها تنطق باسمي !


    " قولي : أنــت ولـيـــد ! ولــيـــــــد ...

    قولي : وليد ... أنت ولـــــيـــــــــــــــــــــد ! "




    " أنت َ لــــــــــــــــــــي " !!





    كانت هذه هي الكلمة التي نطقت بها رغد !

    ( أنت َ لي ! )

    للحظة ، بقيت اتأملها باستغراب و دهشة و عجب !

    فقد بترت اسمي الجميل من الطرفين و حوّلته إلى ( لي ) بدلا من
    ( وليد ) !

    ابتسمت ، و قلت مصححا :


    " أنت َ وليـــــــــــــد ! "

    " أنت َ لــــــــــــــــــي "


    كررت جملتها ببساطة و براءة !

    لم أتمالك نفسي ، وانفجرت ضحكا ....

    و لأنني ضحكت بشكل غريب فإن رغد أخذت تضحك هي الأخرى !

    و كلما سمعت ضحكاتها الجميلة ازدادت ضحكاتي !

    سألتها مرة أخرى :


    " من أنا ؟ "

    " أنت َ لـــــــــــــي " !


    يا لهذه الصغيرة المضحكة !

    حملتها و أخذت أؤرجحها في الهواء بسرور ...

    منذ ذلك اليوم ، بدأت الصغيرة تألفني ، و أصبحت أكبر المسؤولين عن تهدئتها متى ما قررت زعزعة الجدران بصوتها الحاد ....




    ~~~~~~



    انتهت العطلة الصيفية و عدنا للمدارس .

    كنت كلما عدت من المدرسة ، استقبلتني الصغيرة رغد استقبالا حارا !

    كانت تركض نحوي و تمد ذراعيها نحوي ، طالبة أن أحملها و أؤرجحها في الهواء !

    كان ذلك يفرحها كثيرا جدا ، و تنطلق ضحكاتها الرائعة لتدغدغ جداران المنزل !

    و من الناحية الأخرى ، كانت دانة تطلق صرخات الاعتراض و الغضب ، ثم تهجم على رجلي بسيل من الضربات و اللكمات آمرة إياي بأن أحملها ( مثل رغد ) .

    و شيئا فشيا أصبح الوضع لا يطاق ! و بعد أن كانت شديدة الفرح لقدوم الصغيرة إلينا أصبحت تلاحقها لتؤذيها بشكل أو بآخر ...

    في أحد الأيام كنت مشغولا بتأدية واجباتي المدرسية حين سمعت صوت بكاء رغد الشهير !

    لم أعر الأمر اهتماما فقد أصبح عاديا و متوقعا كل لحظة .

    تابعت عملي و تجاهلت البكاء الذي كان يزداد و يقترب !

    انقطع الصوت ، فتوقعت أن تكون أمي قد اهتمت بالأمر .

    لحظات ، وسمعت طرقات خفيفة على باب غرفتي .

    " أدخل ! "

    ألا أن أحدا لم يدخل .

    انتظرت قليلا ، ثم نهضت استطلع الأمر ...

    و كم كانت دهشتي حين رأيت رغد واقفة خلف الباب !

    لقد كانت الدموع تنهمر من عينيها بغزارة ، و وجهها عابس و كئيب ، و بكاؤها مكبوت في صدرها ، تتنهد بألم ... و بعض الخدوش الدامية ترتسم عشوائيا على وجهها البريء ، و كدمة محمرة تنتصف جبينها الأبيض !

    أحسست بقبضة مؤلمة في قلبي ....

    " رغد ! ما الذي حدث ؟؟؟ "

    انفجرت الصغيرة ببكاء قوي ، كانت تحبسه في صدرها

    مددت يدي و رفعتها إلى حضني و جعلت أطبطب عليها و أحاول تهدئتها .

    هذه المرة كانت تبكي من الألم .

    " أهي دانة ؟ هل هي من هاجمك ؟ "

    لابد أنها دانة الشقية !

    شعرت بالغضب ، و توجهت إلى حيث دانة ، و رغد فوق ذراعي .

    كانت دانة في غرفتها تجلس بين مجموعة من الألعاب .

    عندما رأتني وقفت ، و لم تأت إلي طالبة حملها ( مثل رغد ) كالعادة ، بل ظلت واقفة تنظر إلى الغضب المشتعل على وجهي .

    " دانة أأنت من ضرب رغد الصغيرة ؟ "

    لم تجب ، فعاودت السؤال بصوت أعلى :

    " ألست من ضرب رغد ؟ أيتها الشقية ؟ "

    " إنها تأخذ ألعابي ! لا أريدها أن تلمس ألعابي "

    اقتربت من دانة و أمسكت بيدها و ضربتها ضربة خفيفة على راحتها و أنا أقول :

    " إياك أن تكرري ذلك أيها الشقية و إلا ألقيت بألعابك من النافذة "

    لم تكن الضربة مؤلمة إلا أن دانة بدأت بالبكاء !

    أما رغد فقد توقفت عنه ، بينما ظلت آخر دمعتين معلقتين على خديها المشوهين بالخدوش .

    نظرت إليها و مسحت دمعتيها .

    ما كان من الصغيرة إلا أن طبعت قبلة مليئة باللعاب على خدي امتنانا !

    ابتسمت ، لقد كانت المرة الأولى التي تقبلني فيها هذه المخلوقة ! إلا أنها لم تكن الأخيرة ....




    ~~~~~~



    توالت الأيام و نحن على نفس هذه الحال ...

    إلا أن رغد مع مرور الوقت أصبحت غاية في المرح ...

    أصبحت بهجة تملأ المنزل ... و تعلق الجميع بها و أحبوها كثيرا ...

    إنها طفلة يتمنى أي شخص أن تعيش في منزله ...

    و لأن الغيرة كبرت بين رغد و دانة مع كبرهما ، فإنه كان لابد من فصل الفتاتين في غرفتين بعيدا عن بعضهما ، و كان علي نقل ذلك السرير و للمرة الثالثة إلى مكان آخر ...

    و هذا المكان كان غرفة وليد !

    ظلت رغد تنام في غرفتي لحين إشعار آخر .

    في الواقع لم يزعجني الأمر ، فهي لم تعد تنهض مفزوعة و تصرخ في الليل إلا نادرا ...

    كنت أقرأ إحدى المجلات و أنا مضطجع على سريري ، و كانت الساعة العاشرة ليلا و كانت رغد تغط في نوم هادئ

    و يبدو أنها رأت حلما مزعجا لأنها نهضت فجأة و أخذت تبكي بفزع ...

    أسرعت إليها و انتشلتها من على السرير و أخذت أهدئ من روعها

    كان بكاؤها غريبا ... و حزينا ...

    " اهدئي يا صغيرتي ... هيا عودي للنوم ! "

    و بين أناتها و بكاؤها قالت :

    " ماما "

    نظرت إلى الصغيرة و شعرت بالحزن ...

    ربما تكون قد رأت والدتها في الحلم

    " أتريدين الـ ماما أيتها الصغيرة ؟ "

    " ماما "

    ضممتها إلى صدري بعطف ، فهذه اليتيمة فقدت أغلى من في الكون قبل أن تفهم معناهما ...

    جعلت أطبطب عليها ، و أهزها في حجري و أغني لها إلى أنا استسلمت للنوم .

    تأملت وجهها البريء الجميل ... و شعرت بالأسى من أجلها .

    تمنيت لحظتها لو كان باستطاعتي أن أتحول إلى أمها أو أبيها لأعوضها عما فقدت .

    صممت في قرارة نفسي أن أرعى هذه اليتيمة و أفعل كل ما يمكن من أجلها ...

    و قد فعلت الكثير ...

    و الأيام .... أثبتت ذلك ...




    ~~~~~~



    ذهبنا ذات يوم إلى الشاطئ في رحلة ممتعة ، و لكوننا أنا و أبي و سامر الصغير ( 8 سنوات ) نجيد السباحة ، فقد قضينا معظم الوقت وسط الماء .

    أما والدتي ، فقد لاقت وقتا شاقا و مزعجا مع دانة و رغد !

    كانت رغد تلهو و تلعب بالرمال المبللة ببراءة ، و تلوح باتجاهي أنا و سامر ، أما دانة فكانت لا تفتأ تضايقها ، تضربها أو ترميها بالرمال !

    " وليد ، تعال إلى هنا "

    نادتني والدتي ، فيما كنت أسبح بمرح .

    " نعم أمي ؟ ماذا تريدين ؟ "

    و اقتربت منها شيئا فشيئا . قالت :

    " خذ رغد لبعض الوقت ! "

    " ماذا ؟؟؟ لا أمي ! "

    لم أكن أريد أن أقطع متعتي في السباحة من أجل رعاية هذه المخلوقة ! اعترضت :

    " أريد أن أسبح ! "

    " هيا يا وليد ! لبعض الوقت ! لأرتاح قليلا "

    أذعنت للأمر كارها ... و توجهت للصغيرة و هي تعبث بالرمال ، و ناديتها :

    " هيا يا رغد ! تعالي إلي ! "

    ابتهجت كثيرا و أسرعت نحوي و عانقت رجي المبللة بذراعيها العالقة بهما حبيبات الرمل الرطب ، و بكل سرور !

    جلست إلى جانبها و أخذت أحفر حفرة معها . كانت تبدو غاية في السعادة أما أنا فكنت متضايقا لحرماني من السباحة !

    اقتربت أكثر من الساحل ، و رغد إلى جانبي ، و جعلتها تجلس عند طرفه و تبلل نفسها بمياه البحر المالحة الباردة

    رغد تكاد تطير من السعادة ، تلعب هنا و هناك ، ربما تكون المرة الأولى بحياتها التي تقابل فيها البحر !

    أثناء لعبها تعثرت و وقعت في الماء على وجهها ...

    " أوه كلا ! "

    أسرعت إليها و انتشلتها من الماء ، كانت قد شربت كميه منه ، و بدأت بالسعال و البكاء معا .

    غضبت مني والدتي لأنني لم أراقبها جيدا

    " وليد كيف تركتها تغرق ؟ "

    " أمي ! إنها لم تغرق ، وقعت لثوان لا أكثر "

    " ماذا لو حدث شيء لا سمح الله ؟ يجب أن تنتبه أكثر . ابتعد عن الساحل . "

    غضبت ، فأنا جئت إلى هنا كي استمتع بالسباحة ، لا لكي أراقب الأطفال !

    " أمي اهتمي بها و أنا سأعود للبحر "

    و حملتها إلى أمي و وضعتها في حجرها ، و استدرت مولّيا .

    في نفس اللحظة صرخت دانة معترضة و دفعت برغد جانبا ، قاصدة إبعادها عن أمي

    رغد ، و التي لم تكد تتوقف عن البكاء عاودته من جديد .

    " أرأيت ؟ "

    استدرت إلى أمي ، فوجدت الطفلة البكاءة تمد يديها إلي ...

    كأنها تستنجد بي و تطلب مني أخذها بعيدا .

    عدت فحملتها على ذراعي فتوقفت عن البكاء ، و أطلقت ضحكة جميلة !

    يا لخبث هؤلاء الأطفال !

    نظرت إلى أمي ، فابتسمت هي الأخرى و قالت :

    " إنها تحبك أنت َ يا وليد ! "



    قبيل عودتنا من هذه الرحلة ، أخذت أمي تنظف الأغراض ، و الأطفال .


    " وليد ، نظف أطراف الصغيرة و ألبسها هذه الملابس "


    تفاجأت من هذا الطلب ، فأنا لم أعتد على تنظيف الأطفال أو إلباسهم الملابس !

    ربما أكون قد سمعت شيئا خطا !

    " ماذا أمي ؟؟؟ "

    " هيا يا وليد ، نظف الرمال عنها و ألبسها هذه ، فيما اهتم أنا بدانة و بقية الأشياء "

    كنت أظن أنني أصبحت رجلا ، في نظر أمي على الأقل ...

    و لكن الظاهر أنني أصبحت أما !

    أما جديدة لرغد !

    نعم ... لقد كنت أما لهذه المخلوقة ...

    فأنا من كان يطعمها في كثير من الأحيان ، و ينيمها في سريره ، و يغني لها ، و يلعب معها ، و يتحمل صراخها ، و يستبدل لها ملابسها في أحيان أخرى !

    و في الواقع ...

    كنت أستمتع بهذا الدور الجديد ...

    و في المساء ، كنت أغني لها و أتعمد أن أجعلها تنام في سريري ، و أبقى أتأمل وجهها الملائكي البريء الرائع ... و أشعر بسعادة لا توصف !


    هكذا ، مرت الأيام ...

    و كبرنا ... شيئا فشيئا ...

    و أنا بمثابة الأم أو المربية الخاصة بالمدللة رغد ، و التي دون أن أدرك ... أو يدرك أحد ... أصبحت تعني لي ...

    أكثر من مجرد مخلوقة مزعجة اقتحمت حياتي منذ الصغر ! ....



    انتهت الحلقة الأولى و انتظروني غدا ان شاء الله بالحلقة الثانية
    و مستنية رأيكم


    عدل سابقا من قبل littledoctor في السبت 2 يوليو 2011 - 22:47 عدل 3 مرات
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty الحلقة الثانية

    مُساهمة  littledoctor الخميس 30 يونيو 2011 - 21:15

    الحلقةالثانية

    في كل ليلة أقرأ قصة قصيرة لصغيرتي رغد قبل النوم . و هذه هي آخر ليلة تباتها رغد في غرفتي بعد ثلاث سنوات من قدومها للمنزل .
    ثلاث سنوات من الرعاية و الدلال و المحبة أوليتها جميعا لصغيرتي ، كأي أم أو أب !

    إنها الآن في السادسة و قد ألحقناها بالمدرسة هذا العام و كانت في غاية السعادة !

    في كل يوم عندما تعود تخبرني بعشرات الأشياء التي شاهدتها أو تعلمتها في المدرسة . و في كل يوم بعد تناولها الغذاء أتولى أنا تعليمها دروسها البسيطة
    و قد كانت تلميذة نجيبة !

    بعد الانتهاء من الدروس تأخذ صغيرتي دفتر التلوين الخاص بها و علبة الألوان ، و تجلس على سريرها و تبدأ بالتلوين بهدوء

    تقريبا بهدوء !

    " وليد لوّن معي ! "

    لقد كنت شارذا و أنا أتأملها و أتخيل أنني و منذ الغد لن أجد سريرها في تلك الزاوية و أستمع إلى ( هذيانها ) و تحدثها إلى نفسها قبل النوم !

    " و ليــــــــــــــــد لوّن معي ! "

    هذه المرة انتبهت إلى صوتها الحاد ، نظرت إليها و ابتسمت ! لقد كنت ُ كثيرا ما ألوّن معها في هذا الدفتر أو غيره ! و هي تحلق سعادة حينما تراقبني و أنا ألون !

    أطفال ... فقط أطفال !

    " حسنا "

    قلت ذلك و هممت بالنهوض من على سريري و التوجه إليها ، و لكنها و بسرعة قفزت هي و دفترها و علبة ألوانها و هبطت فوق سريري في ثانيتين !

    بدأت كالعادة تختار لي الصفحة التي تريد مني تلوينها و قد كانت رسمة لفتاة صغيرة تحمل حقيبة المدرسة !

    " صغيرتي ... لم لا تلونين هذه ؟ فهي تشبهك ! "

    قلت لها ذلك ، فابتسمت و أخذت تقلب دفترها بحثا عن شيء ما ، ثم قالت :

    " لا يوجد ولد يشبهك ! سأرسمك ! "

    و أمسكت بالقلم و أخذت ( ترسمني ) في إحدى الصفحات ... و كم كانت الرسمة مضحكة ، و لاحظت أنها رسمت خطا طويلا أسفل الأنف !

    " ما هذا ؟؟ "

    " شارب ! "

    " ماذا !؟ و لكن أنا لا شارب لدي ! "

    " عندما تكبر مثل أبي سيكون لديك شارب طويل هكذا لأنك طويل ! "

    ضحكت ُ كثيرا كما ضحكت هي الأخرى !

    إن طولي قد أزداد بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة ، و يبدو أنني سأصبح أطول من والدي !

    قمنا بعد ذلك بتلوين الصورتين ( رغد الصغيرة ، و وليد ذي الشارب الطويل ) !

    من كان منا يتوقع ... أن هاتين الصورتين ستعيشان معنا ... كل ذلك العمر ...؟؟؟

    عندما حل الظلام ، قمت بنقل سرير رغد و أشيائها الأخرى إلى غرفتها الجديدة . و كانت صغيرة و مجاورة لغرفتي .

    الصغيرة كانت مسرورة للغاية ، فقد أصبح لها غرفتها الخاصة مثل دانة و لم يعد بمقدور دانة أن ( تعيّرها ) كما كانت تفعل دائما .

    العلاقة بين هاتين الفتاتين كانت سيئة !

    بالنسبة لي ، كنت ُ حزينا بهذا الحدث ... فأنا أرغب في أن تبقى الصغيرة معي و تحت رعايتي أكثر من ذلك ... إنها تعني لي الكثير ...

    انتهينا أنا و أمي من ترتيب الأشياء في الغرفة ، و رغد تساعدنا . قالت أمي بعد ذلك :

    " و الآن يا رغد ... هاقد أصبح لديك غرفة خاصة ! اعتني بها جيدا ! "

    " حسنا ماما "

    و جاء صوت دانة من مكان ما قائلة :

    " لكن غرفتي هي الأجمل . هذه صغيرة و وحيدة مثلك "

    جميعنا استدرنا نحو دانة ، و بعين الغضب . فهي لا تترك فرصة لمضايقة رغد إلا و استغلتها .

    " لكنني لست ُ وحيدة ، و لن أشعر بالخوف لأن وليد قريب مني "

    " لكن وليد ليس أمك و لا أباك و لا أخاك ! إذن أنت وحيدة "

    هذه المرة والدتي زجرت دانة بعنف و أمرتها بالانصراف . لقد كانت لدي رغبة في صفع هذه الفتاة الخبيثة لكنني لم أشأ أن أزيد الأمر تعقيدا .
    إنني أدرك أن الأمور تزداد سوءا بين دانة و رغد ، و لا أدري إن كان الوضع سيتغير حالما تكبران ...

    اعتقدت أن الأمر قد انتهى في وقته ، إلا أنه لم ينته ...

    بينما كنت غاطا في نومي ، سمعت صوتا أيقظني من النوم بفزع ...

    عندما فتحت عيني رأيت خيال شخص ما يقف إلى جانبي ... كان الظلام شديدا و كنت ُ بين النوم و الصحوة ... استيقظت فجأة و استطاعت طبلة أذني التقاط الصوت و تمييزه ...

    كانت رغد !

    نهضت ، و أنرت ُ المصباح المجاور ، و من خلال إنارته الخفيفة لمحت ُ ومض دموع تسيل على خد الصغيرة ...

    مددت ُ يدي و تحسست وجهها الصغير فبللتني الدموع ...

    " رغد ! ما بك عزيزتي ؟ "

    قفزت رغد إلى حضني و أطلقت صرخات بكاء قوية و حزينة ... إنني لم أر َ دموع غاليتي هذه منذ أمد بعيد ... فكيف لي برؤيتها بهذه الحال ؟؟

    " رغد ... أخبريني ماذا حدث ؟ هل رأيت حلما مزعجا ؟؟ "

    اندفعت و هي تقول كلماتها هذه بشكل مبعثر و مضطرب ... و بمرارة و حزن عميقين :

    " لماذا ليس لدي أم ؟
    لماذا مات أبي ؟
    هل الله لا يحبني لذلك لم يعطني أما و لا أبا ؟
    هل صحيح أن هذا ليس بيتي ؟
    أين بيتي إذن فأنا أريد أن يصبح لدي غرفة كبيرة و جميلة مثل غرفة دانة "

    طوقت الصغيرة بذراعي و جعلت أمسح رأسها و دموعها و أهدئ من حالتها

    لم أكن أتخيل أن مثل هذه التساؤلات تدور في رأس طفلة صغيرة في السادسة من العمر ...
    بل إنها لم تذكر لي شيئا كهذا من قبل رغم ثرثرتها التي لا تكاد تنتهي حين تبدأ ...

    " صغيرتي رغد ! ما هذا الكلام ! من قال لك ذلك ؟ "

    " دانة دائما تقول هذا ... هي لا تحبني ... لا أحد يحبني "

    شعرت بالغيظ من أختي الشقية ، في الغد سوف أوبخها بعنف . قلت محاولا تهدئة الصغيرة المهمومة :

    " رغد يا حلوتي ... دعك ِ من دانة فهي لا تعرف ما تقول ، سوف أوقفها عند حدها . أبي و أمي هما أبوك و أمك "

    قاطعتني :

    " غير صحيح ! لا أم و لا أب لدي و لا أحد يحبني "

    " ماذا عني أنا وليد ؟ ألا أحبك ؟ اعتبريني أمك و أباك و كل شيء "

    توقفت رغد عن البكاء و نظرت إلي قليلا ثم قالت :

    " و لكن ليس لديك شارب ! "

    ضحكت ! فأفكار هذه الصغيرة غاية في البساطة و العفوية ! أما هي فقد ابتسمت و مسحت دموعها ...

    قلت :

    " حين أكبر قليلا بعد فسيصبح لدي شاربان طويلان كما رسمت ِ ! أ نسيت !؟ "

    ابتسمت أكثر و قالت :

    " و هل ستشتري لي بيتا كبيرا فيه غرفة كبيرة و جميلة تخصني ؟ "

    ضحكت مجددا ... و قلت :

    " نعم بالتأكيد ! و تصبحين أنت سيدة المنزل ! "

    الصغيرة ابتسمت برضا و عانقتني بسرور :

    " أنا أحبك كثيرا يا وليد ! و حين أكبر سآخذك معي إلى بيتي الجديد ! "




    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~



    اللعب هو هواية الأطفال المفضلة على الإطلاق ، و لأنني ( وليد الكبير ) و لأن دانة هي ( الطرف المعادي ) فإن رغد لم تجد من تلعب معه في بيتنا هذا غير سامر !

    كثيرا ما كانا يقضيان الساعات الطوال باللهو معا ، ربما كان هذا متنفسا جيدا للصغيرة .

    عندما كانت رغد تسكن غرفتي ، كانت كلما بقيت ُ في الغرفة لسبب أو لآخر،أتت هي الأخرى و عكفت على دفتر تلوينها بسكون ...

    كنت ُ أستذكر دروسي و ألقي عليها نظرة من حين لآخر ... و كان ذلك يسعدني ...

    بعد أن استقلت في غرفتها ، لم أعد أراها معي ...

    كانت كثيرا ما تقضي الوقت الآن مع سامر في اللعب !

    في أحد الأيام ، عدت ُ من المدرسة ، و حين دخلت ُ البيت وجدت ُ الصغيرة تشاهد التلفاز ...

    " رغد ! لقد عدت ! "

    و فتحت ذراعي ، فهي معتادة أن تأتي لحضني كلما عدت من المدرسة ، كأنها تعبر عن شوقها و افتقادها لي ...

    ابتسمت الصغيرة ثم قفزت قاصدة الحضور إلي ، و في نفس اللحظة دخل شقيقي سامر إلى نفس الغرفة و هو يقول :

    " أصلحته يا رغد ! هيا بنا "

    و بشكل فاجأني و لم أتوقعه ، استدارت ْ إلى سامر و ركضت نحوه ، و غادرا الغرفة سويا ...

    ذراعاي كانتا لا تزالان معلقتين في الهواء ... بانتظار الصغيرة ...

    نظرت من حولي أتأكد من أن أحدا لم ير َ هذا ... قد يكون موقفا عاديا لكنني شعرت ُ بغيط و خيبة لحظتها ... ما الذي يشغل رغد عني ؟؟

    لحقت بالاثنين ، فرأيتهما يركبان دراجة سامر التي يبدو أن خللا كان قد أصابها مؤخرا و أصلحه سامر قبل قليل ...

    كانت رغد في غاية السرور و هي تجلس على مقعد خلفي ، و سامر ينطلق بدراجته الهوائية مسرعا ...

    ذهبت إلى غرفتي و استلقيت على سريري و أخذت أفكر ...

    مؤخرا ، ظهرت أمور ٌ عدة تشغل الصغيرة ... كالمدرسة و الواجبات المدرسية و صديقاتها الجدد ... و دفاتر تلوينها الكثيرة ... و اللعب مع سامر !

    طردت الأفكار التي استتفهتها فورا من رأسي و انصرفت إلى أمور أخرى ...

    إنها السنة الأخيرة لي في المدرسة الإعدادية و والدتي تعمدت إبعاد رغد عني قدر الإمكان لأتفرغ لدراستي .

    رغد ... رغد ... رغد !

    لماذا لا أستطيع طردها الآن من رأسي ؟؟ إنها طفلة مزعجة لا تحب غير اللعب و العناية بها كانت مسؤولة كبيرة و مضجرة ألقيت على عاتقي و ها أنا حر أخيرا !

    في الواقع ، ظل التفكير بهذه الصغيرة يشغلني طوال ذلك اليوم ... لم أستطع التركيز في الدراسة ، و قبيل غروب الشمس قررت القيام بجولة في الشارع على الأقدام ، علني أطرد رغد من دماغي ...

    الجو كان لطيفا و نسماته عليلة و قد استمتعت بنزهتي الصغيرة ...

    التقيت في طريقي بشخص أبغضه كثيرا ! إنه عمّار ...

    عمار هذا هو الابن الوحيد لأحد الأثرياء ، و هو زميلي في المدرسة ، ولد بغيض مستهتر سيئ الخلق ، معروف و مشهور بين الجميع بانحرافه و فساده ... و كان آخر شيء أتمنى أن ألتقي به و أنا في مزاجي العكر هذا اليوم !

    " وليد ؟ تتسكع في الشوارع عوضا عن الدراسة !؟ لسوف أفضحك غدا في المدرسة "

    قال لي هذا و أطلق ضحكة قوية و بغيضة ، أوليته ظهري و ابتعدت متجاهلا إياه

    قال :

    " انتظر ! لم لا تأت ِ معي نلهو قليلا ؟ و أعدك بأن تنجح رغم أنف الجميع ! مثلي "

    استدرت إلى عمّار و قلت بغضب :

    " حلّ عني أيها البغيض ! لا يشرفني التحدث إلى شخص مثلك ! أيها المنحرف الفاسد "

    لا أدري ما الذي دفعني لقول ذلك ، فأنا لم أعتد توجيه مثل هذا الكلام لأي كان ...

    و لكني كنت مستاءا ...

    عمار شعر بغيظ ، و سدد نحوي لكمة قوية موجعة و تعاركنا !

    منذ ذلك اليوم ، و أنا و هو في خصام مستمر ، هو لا يفتأ يستفزني كلما وجد الفرصة السانحة لذلك ، و أنا أتجاهله حينا و أتعارك معه حينا آخر ...
    و الأمر بيننا انتهى أسوا نهاية ... كما سترون ...

    في طريق عودتي للبيت ، مررت بإحدى المكتبات ، و وجدت نفسي أدخلها و أفتش بين دفاتر تلوين الأطفال ، و أشتري مجموعة جديدة ... من أجل رغد

    إنني سأعترف ، بأنني فشلت في إزاحتها بعيدا عن تفكيري ذلك اليوم ... لقد كانت المرة الأولى التي تترك فيها ذراعي ّ معلقين في الهواء ... و تذهب بعيدا

    حين وصلت إلى البيت ، كانت رغد في حديقة المنزل ، مع سامر و دانة ، كانوا يراقبون العصفورين الحبيسين في القفص ، و اللذين أحضرهما والدي قبل أيام ...

    كانت ضحكاتها تملأ الأجواء ...

    كم هي رائعة هذه الطفلة حين تضحك !

    و كم هي مزعجة حين تبكي !

    اعتقدت أنني لن أثير انتباهها فيما هي سعيدة مع شقيقي ّ و العصفورين ... هممت بالدخول إلى داخل المنزل و سرت نحو الباب ... و أنا ممسك بالكيس الصغير الذي يحوي دفاتر التلوين ...


    " وليــــــــــــــد " !


    وصلني صوتها الحاد فاستدرت للخلف ، فإذا بها قادمة تركض نحوي فاتحة ذراعيها و مطلقة ضحكة كبيرة ...

    فتحت ذراعي و استقبلتها في حضني و حملتها بفرح و درت بها حول نفسي بضع دورات ...

    " صغيرتي ... جلبت ُ لك ِ شيئا تحبينه ! "


    نظرت إلى الكيس ثم انتزعته من يدي ، و تفقدت ما بداخله

    أطلقت هتاف الفرح و طوّقت عنقي بقوة كادت تخنقني !

    بعدها قالت :


    " لوّن معي ! "


    ابتسمت ُ برضا بل بسعادة و قلت :


    " أمرك سيدتي ! "


    اعتقد ... بل أنا موقن جدا ... بأنني أصبحت مهووسا بهذه الطفلة بشكل لم أكن لأتصوره أو أعمل له حسابا ...

    و سأجن ... بالتأكيد ... فيما لو حدث لها مكروه ٌ ... لا قدّر الله ....


    انتهت الحلقة الثانية.. و انتظروا غدا ان شاء الله الحلقة الثالثة

    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty رد: رواية.. أنت لي

    مُساهمة  littledoctor الجمعة 1 يوليو 2011 - 18:08

    ايه الأخبار يا جماعة, نكمل الحلقة الثالثة ولا إيه؟؟ مش شايفة تشجيع من حد... نكــــمــــــــل؟
    Question Question Question Question Question Question
    Tarek
    Tarek
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى


    المساهمات : 458
    تاريخ التسجيل : 09/11/2009

    رواية.. أنت لي Empty رد: رواية.. أنت لي

    مُساهمة  Tarek السبت 2 يوليو 2011 - 6:37

    كمل طبعا ياباشا
    شوقتنا عاوزين نعرف الباقى
    تسلم ايدك
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty الحلقة الثالثة

    مُساهمة  littledoctor السبت 2 يوليو 2011 - 16:46

    الحلقةالثالثة



    أشياء ثلاثة تشغل تفكيري و تقلقني كثيرا في الوقت الراهن

    دراستي و امتحاناتي ، رغد الصغيرة ، و الأوضاع السياسية المتدهورة في بلدتنا و التي تنذر بحرب موشكة !

    إنه يوم الأربعاء ، لم أذهب للمدرسة لأن والدتي كانت متوعكة قليلا في الصباح و آثرت البقاء إلى جانبها .

    إنها بحالة جيدة الآن فلا تقلقوا

    كنت أجلس على الكرسي الخشبي خلف مكتبي الصغير ، و مجموعة من كتبي و دفاتري مفتوحة و مبعثرة فوق المكتب .

    لقد قضيت ساعات طويلة و أنا أدرس هذا اليوم ، إلا أن الأمور الثلاثة لم تبرح رأسي

    الدراسة ، أمر بيدي و أستطيع السيطرة عليه ، فها أنا أدرس بجد

    أوضاع البلد السياسية هي أمر ليس بيدي و لا يمكنني أنا فعل أي شيء حياله !

    أما رغد الصغيرة ...

    فهي بين يدي ... و لا أملك السيطرة على أموري معها !

    و آه من رغد !

    يبدو أن التفكير العميق في ( بعض الأشياء ) يجعلها تقفز من رأسك و تظهر أمام عينيك !

    هذا ما حصل عندما طرق الباب ثم فتح بسرعة قبل أن أعطى الفرصة المفروضة للرد على الطارق و السماح له بالدخول من عدمه !


    " وليـــد وليـــــــــد و ليـــــــــــــــــــــــــد ! "


    قفزت رغد فجأة كالطائر من مدخل الغرفة إلى أمام مكتبي مباشرة و هي تناديني و تتحدث بسرعة فيما تمد بيدها التي تحمل أحد كتبها الدراسية نحوي !

    " وليد علّمتنا المعلمة كيف نصنع صندوق الأماني هيا ساعدني لأصنع واحدا كبيرا يكفي لكل أمنياتي بسرعة ! "

    إنني لم أستوعب شيئا فقد كانت هذه الفتاة في رأسي قبل ثوان و كانت تلعب مع سامر على ما أذكر !

    نظرت إليها و ابتسمت و أنا في عجب من أمرها !

    " رويدك صغيرتي ! مهلا مهلا ! متى عدت ِ من المدرسة ؟ "

    أجابتني على عجل و هي تمد يدها و تمسك بيدي تريد مني النهوض :


    " عدت الآن ، أنظر وليد الطريقة في هذه الصفحة هيا اصنع لي صندوقا كبيرا ! "


    تناولت الكتاب من يدها و ألقيت نظرة !

    إنه درس يعلم الأطفال كيفية صنع مجسم أسطواني الشكل من الورق !
    و صغيرتي هذه جاءتني مندفعة كالصاروخ تريد مني صنع واحد !
    تأملتها و ابتسمت ! و بما إنني أعرفها جيدا فأنا متأكد من أنها سوف لن تهدأ حتى أنفذ أوامرها !

    قلت :

    " حسنا سيدتي الصغيرة ! سأبحث بين أشيائي عن ورق قوي يصلح لهذا ! "

    بعد نصف ساعة ، كان أمامنا أسطوانة جميلة مزينة بالطوابع الملصقة ، ذات فتحة علوية تسمح للنقود المعدنية ، و النقود الورقية ، و الأماني الورقية كذلك بالدخول !

    رغد طارت فرحا بهذا الإنجاز العظيم ! و أخذت العلبة الأسطوانية و جرت مسرعة نحو الباب !

    " إلى أين ؟؟ "

    سألتها ، فأجابتني دون أن تتوقف أو تلتفت إلي :

    " سأريها سامر ! "

    و انصرفت ...

    اللحظات السعيدة التي قضيتها قبل قليل مع الطفلة و نحن نصنع العلبة ، و نلصق الطوابع ، و نضحك بمرح قد انتهت ...

    أي نوع من الجنون هذا الذي يجعلني أعتقد و أتصرف على أساس أن هذه الطفلة هي شيء يخصني ؟؟
    كم أنا سخيف !


    انتظرت عودتها ، لكنها لم تعد ...
    لابد أنها لهت مع سامر و نسيتني !
    نسيت حتى أن تقول لي ( شكرا ) ! أو أن تغلق الباب !

    غير مهم ! سأطرد هذا التفكير المزعج عن مخيلتي و أتفرغ لكتبي ... أو حتى ... لقضايا البلد السياسة فهذا أكثر جدوى !

    بعد ساعة ، عادت رغد ...
    كان الصندوق لا يزال في يدها ، و في يدها الأخرى قلما .

    اقتربت مني و قالت :

    " وليد ... أكتب كلمة ( صندوق الأماني ) على الصندوق ! "

    تناولت الصندوق و القلم و كتبت الكلمة ، و أعدتهما إليها دون أي تعليق أو حتى ابتسامة

    هل انتهينا ؟

    صرفت ُ نظري عنها إلى الكتاب الماثل أمامي فوق المكتب ، منتظرا أن تنصرف

    يجب أن تنتبه إلى أنها لم تشكرني !

    " وليد ... "

    رفعت ُ بصري إليها ببطء ، كانت تبتسم ، و قد تورّد خداها قليلا !

    لابد أنها أدركت أنها لم تشكرني !

    قلت ُ بنبرة جافة إلى حد ما :

    " ماذا الآن ؟ "

    " هل لا أعطيتني ورقة صغيرة ؟ "

    يبدو أن فكرة شكري لا تخطر ببالها أصلا !

    تناولت مفكرتي الصغيرة الموضوعة على المكتب ، و انتزعت منها ورقة بيضاء ، و سلمتها إلى رغد

    أخذتها الصغيرة و قالت بسرعة :

    " شكرا ! "

    ثم ابتعدت ...

    ظننتها ستخرج إلا أنها توجهت نحو سريري ، جلست فوقه ، و على المنضدة المجاورة و ضعت ( الصندوق ) و الورقة ... و همّت بالكتابة !

    أجبرت عيني ّ على العودة إلى الكتاب المهجور ... لكن تفكيري ظل مربوطا عند تلك المنضدة !


    " وليد ... "


    مرة أخرى نادتني فأطلقت سراح نظري إليها ...


    " نعم ؟"


    سألتني :


    " كيف أكتب كلمة ( عندما ) " ؟


    نظرت ُ من حولي باحثا عن ( اللوح ) الصغير الذي أعلم رغد كيفية كتابة الكلمات عليه ، فوجدته موضوعا على أحد أرفف المكتبة ، فهممت بالنهوض لإحضاره ألا أن رغد قفزت بسرعة و أحضرته إلي قبل أن أتحرك !

    أخذته منها ، و كتبت بالقلم الخاص باللوح كلمة ( عندما ) .

    تأملتها رغد ثم عادت إلى المنضدة ...

    بعد ثوان ، رفعت رأسها إلي ...

    " وليد ! "

    " نعم صغيرتي ؟ "

    " كيف أكتب كلمة ( أكبُر ) ؟ "


    كتبت الكلمة بخط كبير على اللوح ، و رفعته لتنظر إليه .

    ثوان أخرى ثم عادت تسألني :


    " وليد ! "


    ابتسمت ! فطريقتها في نطق اسمي و مناداتي بين لحظة و أخرى تدفع إي كان للابتسام !


    " ماذا أميرتي ؟ "

    " كيف أكتب كلمة ( سوف ) " ؟؟


    كتبت الكلمة و أريتها إياها ، صغيرتي كانت مؤخرا فقط قد بدأت بتعلم كتابة الكلمات بحروف متشابكة ، و لا تعرف منها إلا القليل ...
    بقيت أراقبها و أتأملها بسرور و عطف !
    كم هي بريئة و بسيطة و عفوية !
    يا لها من طفلة !

    رفعت رأسها فوجدتني أنظر إليها فسألت مباشرة :

    " كيف أكتب كلمة ( أتزوج ) ؟ "


    فجأة ، أفقت من نشوة التأمل البريء ...

    هناك كلمة غريبة دخيلة وصلت إلى أذني ّ في غير مكانها !

    حدقت في رغد باهتمام ، و اندهاش ...

    هل قالت ( أتزوج ) ؟؟

    أتزوج !

    ألا تلاحظون أنها كلمة ( كبيرة ) بعض الشيء ! بل كبيرة جدا !

    سألتها لأتأكد :

    " ماذا رغد ؟؟ "

    قالت و بمنتهى البساطة :

    " أتزوج ! كيف أكتبها ؟؟ "

    أنا مندهش و متفاجيء ...

    و هي تنظر إلي منتظرة أن أكتب الكلمة على لوحها الصغير ...

    أمسكت بالقلم بتردد و شرود ... و كتبت الكلمة ( الكبيرة ) ببطء ، ثم عرضتها عليها فأخذت تكتبها حرفا حرفا ...
    انتهت من الكتابة ، فوضعت اللوح على مكتبي ، في انتظار الكلمة التالية ...

    انتظرت ...
    و أنتظرت ...
    لكنها لم تتكلم

    لم تسألني عن أي شيء
    رأيتها تطوي الورقة الصغيرة ، ثم تدخلها عبر الفتحة داخل صندوق الأماني !

    ( عندما أكبر سوف أتزوج ((.... )) ؟؟؟ )

    الاسم الذي تلا كلمة أتزوج هو اسم تعرف رغد كيف تكتبه !
    كأي اسم من أسماء أفراد عائلتنا أو صديقاتها ...
    كـ وليد ، أو سامر ، أو أي رجل !

    رغد الصغيرة !
    ما الذي تفعلينه !؟؟

    الآن ، هي قادمة نحوي ...
    و الصندوق في يدها ...

    " وليد اكتب أمنيتك ! "

    " ماذا صغيرتي ؟؟ "

    " أكتب أمنيتك و ضعها بالداخل ، و حينما نكبر نفتح الصندوق و نقرأ أمنياتنا و نرى ما تحقق منها ! هكذا هي اللعبة ! "

    إنني قد افعل أشياء كثيرة قد تبدو سخيفة ، أما عن وضعي لأمنيتي في صندوق ورقي خاص بطفلتي هذه ، فهو أمر سأترك لكم أنتم الحكم عليه !
    نزعت ورقة من مفكرتي ، و كتبت إحدى أمنياتي !
    فيما أنا اكتب ، كانت رغد تغمض عينيها لتؤكد لي أنها لا ترى أمنيتي !

    أي أمنية تتوقعون أنني أدخلتها في صندوق الأماني الخاص بصغيرتي العزيزة ...؟؟

    لن أخبركم !

    بعد فراغي من الأمر ، طلبت مني رغد أن أحفظ الصندوق في أحد أرفف مكتبتي ، لأنها تخشى أن تضيعه أو تكتشف دانة وجوده فيما لو ضل في غرفتها !

    " وليد لا تفتح الصندوق أبدا ! "

    " أعدك بذلك ! "

    ابتسمت رغد ، ثم انطلقت نحو الباب مغادرة الغرفة و هي تقول :

    " سأخبر سامر بأنني انتهيت ! "

    بعد مغادرتها ، تملكتني رغبة شديدة في معرفة ما الذي كتبته في ورقتها
    كدت انقض وعدي و أفتح الصندوق من شدة الفضول ...
    لكني نهرت نفسي بعنف ... لن أخيب ثقة الصغيرة بي أبدا

    ( عندما أكبر سوف أتزوج .......... ؟؟؟ )

    من يا رغد ؟؟

    من ؟

    من ؟؟





    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~




    في عصر اليوم ذاته ، قرر والدي أخذنا لنزهة قصيرة إلى أحد ملاهي الأطفال ، حسب طلب و إلحاح دانة !
    أنا لم أشأ الذهاب ، فأنا لم أعد طفلا و لا تثير الملاهي أي اهتمام لدي ، إلا أن والدتي أقنعتني بالذهاب من باب الترويح عن النفس لاستئناف الدراسة !
    قضينا وقتا جيدا ...
    وقفت رغد أمام إحدى الألعاب المخيفة و أصرت على تجربتها !
    طبعا لم يوافق أحد على تركها تركب هذا القطار السريع المرعب ، و كما أخبرتكم فإنها حين ترغب في شيء فإنها لن تهدأ حتى تحصل عليه !

    و حين تبكي ، فإنها تتحول من رغد إلى رعد !

    والدي زجرها من باب التأديب ، إذ أن عليها أن تطيع أمره حين يأمرها بشيء

    توقفت رغد عن البكاء ، و سارت معنا على مضض ...

    كانت تمشي و رأسها للأسفل و دموعها تسقط إلى الأرض !

    أنا وليد لا أتحمّل رؤيتها هكذا مطلقا ... لا شيء يزلزلني كرؤيتها حزينة وسط الدموع !

    " حسنا يا رغد ! فقط للمرة الأولى و الأخيرة سأركب معك هذا القطار ، لتري كم هو مخيف و مرعب ! "

    أعترض والداي ، ألا أنني قلت :

    " سأمسك بها جيدا فلا تقلقا "

    اعتراضهما كان في الواقع على سماحي لرغد بنيل كل ما تريد
    أنا أدرك أنني أدللها كثيرا جدا
    لكن ...
    ألا تستحق طفلة يتيمة الأبوين شيئا يعوضها و لو عن جزء من المائة مما فقدت ؟
    تجاهلت اعتراض والدي ّ ، و انطلقت بها نحو القطار

    ركبنا سوية ذلك القطار و لم تكن خائفة بل غاية في السعادة ! و عندما توقف و هممت بالنزول ، احزروا من صادفت !؟؟

    عمّار اللئيم !

    " من وليد ! مدهش جدا ! تتغيب عن المدرسة لتلهو مع الأطفال ! عظيم ! "

    تجاهلته ، و انصرفت و الصغيرة مبتعدين ، ألا أنه عاد يلاحقني بكلام مستفز خبيث لم أستطع تجاهله ، و بدأنا عراكا جديدا !

    تدخل مجموعة من الناس و من بينهم والدي لفض نزاعنا بعد دقائق ...

    عمار و بسبب لكمتي القوية إلى وجهه سالت الدماء من أنفه

    كان يردد :

    " ستندم على هذا يا وليد ! ستدفع الثمن "

    أما رغد ، و التي كانت تراني و لأول مرة في حياتها أتعارك مع أحدهم ، و أؤذيه ، فقد بدت مرعوبة و التصقت بوالدتي بذعر !

    عندما عدنا للبيت وبخني أبي بشدة على تصرفي في الملاهي و عراكي ...
    و قال :

    ( كنت أظنك أصبحت رجلا ! )

    و هي كلمة آلمتني أكثر بكثير من لكمات عمّار
    استأت كثيرا جدا ، و عندما دخلت غرفتي بعثرت الكتب و الدفاتر التي كانت فوق مكتبي بغضب
    لا أدري لماذا أنا عصبي و متوتر هذا اليوم ...
    بل و منذ فترة ليست بالقصيرة
    أهذا بسبب الامتحانات المقبلة ؟؟

    بعد قليل ، طرق الباب ، ثم فتح بهدوء ...
    كانت رغد

    " وليد ... "

    ما أن نطقت باسمي حتى قاطعتها بحدة :

    " عودي إلى غرفتك يا رغد فورا "

    نظرت إلي و هي لا تزال واقفة عند الباب ، فرمقتها بنظرة غضب حادة و صرخت :

    " قلت اذهبي ... ألا تسمعين ؟؟ ! "

    أغلقت الصغيرة الباب بسرعة من الذعر !

    لقد كانت المرة الأولى التي أقسو فيها على رغد ...

    و كم ندمت بعدها

    ألقيت نظرة على ( صندوق الأماني ) ثم أمسكت به و هممت بتمزيقه !

    ثم أبعدته في آخر لحظة !
    كنت أريد أن أفرغ غضبي في أي شيء أصادفه
    إنني أعرف أنني يوم السبت المقبل سأقابل بتعليقات ساخرة من قبل عمّار و مجموعته
    و كل هذا بسببك أنت أيتها الرغد المتدللة ...
    لأجلك أنت أنا أفعل الكثير من الأشياء السخيفة التي لا معنى لها !
    و الأشياء المهولة ... التي تعني أكثر من شيء ... و كل شيء ...

    و التي يترتب عليها مصائر و مستقبل ...

    كما سترون ...
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty الحلقة الرابعة

    مُساهمة  littledoctor السبت 2 يوليو 2011 - 16:57

    الحلقةالرابعة


    لم استطع النوم تلك الليلة

    جعلت أتقلب على فراشي و الأمور الثلاثة : الدراسة ، الحرب ، و رغد تآمرت علي و سببت لي أرقا و صداعا شديدا
    أوه يا إلهي ... أنا متعب ... متعب !
    فلتذهب الدراسة للجحيم !
    ولتذهب الحرب كذلك للجحيم !
    و رغد ...
    رغد ...
    فلأذهب أنا إلى رغد !

    قفزت من سريري في رغبة ملحة جدا لرؤية الصغيرة ...

    لابد أنها غارقة في النوم الآن ... كم كنت قاسيا معها ! كم أنا نادم !

    سرت ببطء حتى دخلت غرفة رغد ، و تعجبت إذ رأيت الظلام مخيما عليها !

    صغيرتي تخاف النوم في الظلام الشديد و تصر على إضاءة النور الخافت

    اقتربت من السرير و أنا أدقق النظر بحثا عن وجه الصغيرة ، إلا أنني لم أره

    أضأت ُ المصباح الخافت المجاور لسريرها ، و أصبت بالفزع حين رأيت السرير خاليا ...
    نهضت مذعورا ... و تلفت من حولي ... ثم أنرت المصباح القوي و دققت النظر في كل شيء ... لم تكن رغد في الغرفة ...
    خرجت من الغرفة كالمجنون و ذهبت رأسا إلى غرفة دانة ، ثم سامر ، ثم جميع غرف المنزل و أنحائه و لم أبق منه مترا واحدا دون تفتيش ... عدا غرفة والديّ
    سرت و أنا أترنح و متشبث بأملي الأخير بأن تكون رغد هناك ...

    توقفت عند الباب ، و رفعت يدي استعدادا لطرقه فخانتني قواي

    ماذا إن لم تكن رغد هنا ؟أين يمكن أن تكون ؟

    القلق بل الفزع و الخوف على رغد تملكاني و ألقيا جانبا أي تفكير سليم من رأسي
    طرقت الباب طرقات متوالية تشعر أيا كان بالذعر !
    ثوان ، و إذا بأمي تقف أمامي في فزع :

    " وليد ؟ خير يا بني ؟ "

    التقطت عدة أنفاس متلاحقة ثم قلت :

    " هل رغد هنا ؟ "

    كنت أحدق بعين والدتي و كأنني أريد أن أخترقها إلى دماغها لأعرف الجواب قبل أن تنطق به ...
    قولي نعم أمي ... أرجوك !

    " نعم ! نامت هنا "

    كأن جبلا جليديا قد وقع فوق رأسي لدى سماعي إجابتها
    ارتخت عضلاتي كلها فجأة ، فترنحت و أنا أعود خطا للوراء حتى جلست على أحد المقاعد
    والدتي أقبلت نحوي ، و ألقت نظرة سريعة على ساعة الحائط ، ثم عادت تنظر إلي بقلق ...

    " وليد ؟ ما بك عزيزي ؟ "

    أغمضت عيني لثوان ، و أنا عاجز عن تحريك أي عضلة من جسمي ...

    ثم نظرت إليها و قلت بصعوبة :

    " قلقت حين لم أجدها في غرفتها ... بل كدت أموت قلقا ... "

    اقتربت مني والدتي ، و مسحت على رأسي و قالت :

    " هوّ ن عليك يا بني ...
    جاءتني تبكي البارحة و تقول أنك غاضب منها و أخرجتها من غرفتك !
    كانت حزينة جدا ! "

    ربما تريد أمي معاتبتي لتصرفي مع رغد
    أرجوك أمي يكفي فأنا قد نلت من تأنيب الضمير ما يكفي و يزيد ...
    ألا ترين أنني لم أنم حتى هذه الساعة بسبب ذلك ...؟؟

    " آسف لإزعاجك أماه ، تصبحين على خير "



    رغد !
    ما الذي تفعلينه بي !؟
    نهضت متأخرا في الصباح التالي ، و حينما ذهبت إلى المطبخ وجدت أمي مشغولة في إعداد الطعام فيما تلعب رغد ببعض الدمى إلى جوارها

    عندما رأتني رغد ، ابتسمت لها ، ألا أنها قامت و التصقت بأمي ، كأنها تطلب الحماية !

    تضايقت كثيرا من هذا ... هل أصبحت طفلتي الحبيبة تخاف مني ؟؟

    " رغد ! تعالي إلي ... "

    لم تتحرك بل تشبثت بوالدتي أكثر ، الأمر الذي أشعرني بضيق شديد جدا فغادرت المطبخ فورا

    ستنسى بعد قليل ... إنها مجرد طفلة و الأطفال ينسون بسرعة !
    بل من الأفضل ألا تنسى حتى تبقى بعيدة عني و أتخلص من أحد همومي !
    في المساء ، حضرت أم حسام بطفليها حسام و نهلة لزيارتنا
    أم حسام هي خالة رغد الوحيدة و التي كانت ترعاها في السابق ، بعد وفاة والديها
    حسام هو ابنها الأكبر و البالغ من العمر سبع أو ثمان سنوات على ما أظن ، أما نهلة فتصغر رغد ببضعة أشهر
    و يبدو أن ( أخا جديدا ) على وشك الانضمام لهذه العائلة !
    رغد تحب خالتها هذه كثيرا ، و الخالة تتردد علينا من حين لآخر للاطمئنان على رغد

    تحوّل بيتنا إلى ملعب أطفال ... لعب ، ضحك، بكاء ، شجار ، عراك ، هتاف ، صراخ !

    كانوا جميعا سعداء ، أما أنا فقد لزمت غرفتي و عكفت على الدراسة .

    اختفت الأصوات تماما فيما بعد ، فاستنتجت أن الضيوف قد رحلوا .

    في وقت العشاء ، كنت أول الجالسين حول المائدة فقد كنت جائعا ، و لم أكن قد تناولت أي وجبة رئيسية لهذا اليوم .

    الكرسي المجاور لي هو الكرسي الذي تجلس عليه صغيرتي رغد عادة
    و كنت أساعدها في تناول الطعام دائما

    اجتمع أفراد أسرتي حول المائدة ، إلا أن الكرسي المجاور ظل شاغرا !

    " أين رغد ؟؟ "

    وجهت سؤالي إلى والدتي ، فأجابت :

    " أصرت على الذهاب مع خالتها و بما أن الغد هو يوم جمعة تركتها تذهب لتبات عندهم ! "

    اندهشت ، فهي المرة الأولى التي يحدث فيها شيء كهذا ... لطالما كانت الخالة تزورنا فلماذا تصر على الذهاب معها اليوم و اليوم فقط ؟؟

    لقد فقدت شهيتي للطعام ، و لم أتناول منه إلا اليسير ...

    مساء الجمعة ذهبت مع أبي لإحضار رغد من بيت خالتها

    دخلت أنا للمنزل فيما ظل والدي ينتظر في السيارة

    لقد كان الأطفال ، رغد و نهلة و حسام ، يلعبون ببعض الألعاب في إحدى الغرف
    عندما رأوني توقفوا عن اللعب ، و اخذوا يحدقون بي !

    هل أبدو مرعبا ؟؟

    ربما لأنني طويل و ضخم البنية نوعا ما !

    ابتسمت لهذه المخلوقات الصغيرة ثم قلت :

    " مرحبا أعزائي ! ألم تكتفوا من اللعب ! "

    لم يبتسم أي منهم أو يحرك ساكنا !

    وجهت نظري إلى صغيرتي رغد ، و قلت أخاطبها :

    " صغيرتي الحلوة ! حان وقت العودة إلى البيت "

    " لا أريد "

    كانت أول جملة تنطق بها رغد ! إنها لا تريد العودة للبيت !

    " ماذا رغد ؟ يجب أن نعود الآن فغدا ستذهبين إلى المدرسة ! "

    " سأبقى هنا "

    " رغد ! سوف نأتي بك إلى هنا لتلعبي كل يوم إن أردت ! هيا فوالدنا ينتظر في السيارة "

    لم يبد ُ أنها عازمة على النهوض .

    و الآن ؟؟ ماذا أفعل مع هذه الصغيرة ؟؟

    كيف يجب أن يكون التصرف السليم ؟؟

    تدخلت أم حسام قائلة :

    " بنيتي رغد ، غدا سيحضرك وليد إلى هنا من جديد . و كل يوم إذا أردت اللعب مع نهلة فتعالي و أحضري ألعابك أيضا "

    " لا أريد "

    ثم بدأت بالبكاء ...

    ربما تظن خالتها أننا نسيء إليها بشكل ما !

    ماذا جرى لهذه الصغيرة ؟ لماذا أصبحت لا تريد الاقتراب مني ؟ أكل هذا لأنني أخرجتها من غرفتي بقسوة تلك الليلة ؟
    أم حسام أخذت تمسح على رأس الصغيرة و تهدئها و تكرر

    " غدا سيحضرك وليد إلى هنا عزيزتي "

    قلت ، محاولا إغراءها بالحضور بأي طريقة :

    " سنمر بمحل البوظة و نشتري لك النوع الذي تحبين ! "

    يبدو أن الفكرة أعجبتها ، فتوقفت عن البكاء و آخذت تنظر إلي ...

    قالت خالتها مشجعة :

    " هيا بنيتي ، و عندما تأتين غدا سنشتري لك و لنهلة و حسام المزيد من البوظة و الألعاب "

    و أخذت تقربها نحوي حتى صارت أمامي مباشرة

    رفعت رغد رأسها الصغير و نظرت إلي

    إنها نظرة لا أستطيع نسيانها ما حييت ...

    كأنها تعاتبني على قسوتي معها ... و تقول ... خذلتني !

    مددت يدي و رفعت الصغيرة عن الأرض و ضممتها إلى صدري و قبلت جبينها

    كيف لي أن أعتذر ؟

    إنها اليتيمة التي و لو بذلت الدنيا كلها لأجلها ، ما عوضتها عن لحظة واحدة تقضيها في حضن أمها أو أبيها ...

    قلت :

    " ماذا تودين بعد ؟ لعبة جديدة أم دفتر تلوين جديد ؟ "

    قالت :

    " أريد لعبة و أريد دفترا "

    قلت :

    " يا لك من سيدة طماعة ! حاضر ! كما تأمرين سيدتي ! "

    فابتسمت لي أخيرا ...

    شعرت بشيء ما يحرك بنطالي ...

    نظرت إلى الأسفل فإذا بها نهلة تمسك ببنطالي و تهزه ، ثم تقول :

    " احملني ! "

    نظرت إليها بدهشة و استغراب !

    " رغد تقول أنك قوي جدا و كنت تحملها مع دانة سوية "



    ربّاه !!






    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~




    في تلك الليلة ، جعلت رغد تنام على سريري للمرة الأخيرة ... و لونت معها كثيرا و قرأت لها أكثر من قصة ، و طبعا اشتريت لها أكثر من لعبة و أكثر من دفتر تلوين إضافة إلى البوضا !
    ربما كانت هذه طريقتي في الاعتذار !
    إن كنت أدلل صغيرتي كثيرا فهذا لأنني أحبها كثيرا ...
    و هي نائمة على سريري بسلام ، أخذت أتأملها بعطف و محبة ...
    كم هي رائعة !
    و كم أنا متعلق بها !
    كم يبدو هذا جنونا !
    ذهبت إلى حيث وضعت صندوق الأماني ، فأخذته و جعلت أنظر إليه بحدة
    كم تمنيت لو أن بصري يخترق الصندوق إلى ما بداخله !
    ليتني أعرف ... الاسم الذي تلا هذه الجملة

    ( عندما أكبر سوف أتزوج .... ؟ )

    عندما تكبرين يا رغد ...

    فقط عندما تكبرين ....

    فإنني ...




    ~ ~ ~ ~ ~ ~



    في أحد الأيام ، قررنا تناول بعض المشويات في المنزل

    في حديقة المنزل أعد والدي ما يلزم و أشعل الفحم

    كان يوما جميلا ، و كنا مسرورين لهذه ( النزهة المنزلية ) التي قلما تحدث

    الأطفال ، سامرـ إن كنت أعتبره طفلا ـ و دانة و رغد كانوا يتجولون هنا و هناك
    سامر مهووس بدراجته الهوائية و التي لا يتوقف عن قيادتها و العناية بها في جميع أوقات فراغه ، و رغد تهوى كثيرا الركوب معه ، و قد تعلمت كيف تقودها بنفسها
    كانت تقود الدراجة فيما يجلس سامر على المقعد الخلفي ، و كانت تترنح ذات اليمين و ذات الشمال و تسقط بالدراجة من حين لآخر
    ألا أنها كانت سقطات خفيفة غير مؤذية ، يستمتعان بها و يضحكان مرحين !
    دانة كانت تساعد أمي في إعداد اللحم ، فيما والدي يهف الجمر فيزيده اشتعالا
    كنت أنا أراقب الجميع في صمت و برود ظاهري ، بينما أشعر بشيء يتحرك و يشتعل في صدري مثل ذلك الجمر ... لا أعرف ما يكون ...؟؟

    ذهب والدي لإحضار شيء ما ...
    و بابتعاده عن الجمر أعطاني مجالا أوسع لأراقب اشتعاله و تأججه ...
    و جحيمه !

    إن عيني ّ كانتا تتنقلان بين رغد و سامر على الدراجة ، و بين الجمر المتقد ...

    ثم شردت ...

    فجأة ... ترنحت الدراجة و هي تسير بسرعة ، تقودها رغد الصغيرة ، و قبل أن يتمكن سامر من إيقافها ارتطمت بشيء فسقطت ...

    كان يمكن لهذه السقطة أن تكون عادية كسابقاتها لو أن الشيء الذي ارتطمت الدراجة به لم يكن صينية الجمر المتقد ....

    تعالت الأصوات و انطلق الصراخ القوي يزلزل الأجواء ...

    ركضنا جميعا نحو الاثنين بفزع ...

    والدتي تولول ، و دانة تصرخ ... و رغد تصرخ ... و سامر يتخبط مستنجدا ... صارخا ... من فرط الألم ...

    جمرة واحدة أصابت رغد بحرق في ذراعها الأيسر ...

    أما سامر ...

    فقد انتهى بوجه مشوه مخيف ، و جفن منكمش يجعل العين اليمنى نصف مغلقة ... مدى الحياة ...

    لقد كان حادثا سيئا جدا ... و انتهى يومنا الجميل بندبة لا تمحى ...

    و رغم العمليات التي خضع لها ، ألا أن وجه سامر ظل يحمل أثر الحادثة المشؤومة إلى الأبد

    رغد و التي خرجت من الحادث بأثر حرق واحد في الذراع ، خرجت منه بآثار عميقة لا تمحى في الذاكرة و القلب

    أما دانة ، فقد غرست في نفس رغد الاعتقاد الأكيد بأنها السبب فيما حدث لسامر لأنها من كان يقود الدراجة وقتها

    رغد أصبحت مرعوبة فزعة متوترة معظم الأوقات ... و أصبحت تخشى النوم بمفردها و تصر على أن أبقى إلى جانبها حتى تدخل عالم النوم ، و كثيرا ما كانت تستيقظ فزعة من النوم في أوائل الأيام ... و تركض إلي ...

    و المرة التي كنت أعتقد أنها الأخيرة ، تلتها مرات أخرى ، نامت فيها الصغيرة في غرفتي ... طالبة الأمان و الطمأنينة ...

    " وليد أنا خائفة ... النار مؤلمة ... "

    " وليد لن أركب الدراجة ثانية ً ... "

    " وليد لا أريد أن أبقى وحدي ... الجمر يلاحقني ... "

    " وليد ... عندما أكبر سأصبح طبيبة و أعالج سامر " !


    و في إحدى تلك المرات ، كتبت إحدى أمانيها و أدخلتها في ذلك الصندوق !

    و هذه المرة لم تسألني عن أية كلمة ...

    لكنني أكاد أجزم بأنها كتبت :

    ( يا رب اشف سامر ) !

    توالت الأيام و الشهور ... و تأقلم الجميع مع ما حدث ، و سامر اعتاد رؤية وجهه المشوه في المرآة و تقبله ، و استسلم الجميع إلى أنها حادثة قضاء و قدر ...

    أما أنا ...

    فأشك في أن شيطانا قد خرج من صدري و قاد الدراجة نحو الجمر المتقد ...
    و احرق سامر و رغد بنار كانت في صدري ...

    و لم تزد النار صدري إلا اشتعالا

    و لم تزد الحادثة الاثنين إلا اقترابا ...

    و لم تزدني الأيام إلا تعلقا و تشبثا و جنونا برغد ....


    انتظروا غدا الحلقة الخامسة
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty الحلقة الخامسة و السادسة

    مُساهمة  littledoctor الأحد 3 يوليو 2011 - 10:24

    الحلقةالخامسة

    أنهيت دراستي الثانوية أخيرا !
    إنني أريد الالتحاق بالجامعة ، ألا أن القصف الجوي الذي تعرضنا له مؤخرا دمر مبنى الجامعة التي كنت أريدها
    كما دمّر جزءا من المصنع الذي يملكه والدي
    أوضاع بلدنا في تدهور ، و الحرب منذ أن اندلعت قبل عامين تقريبا لم تتوقف ...
    مستوانا المادي تراجع نتيجة لهذه الأحداث .
    الدراسة تعني لي الكثير الكثير ، خصوصا بعدما حدث ...
    إنها أحد أحلام حياتي ...
    ما أكثر الأحلام !

    أتذكرون صندوق الأحلام الخاص برغد و الذي صنعته لها قبل ثلاث سنوات ؟
    أضفت ُ إليه حلما جديدا يقول :

    ( أريد أن أصبح رجل أعمال ضخم ! ) !

    اعتقد أن الأمور الإدارية تليق بي كثيرا !

    وجدت فرصة هبطت علي من السماء لأبتعث للدراسة في الخارج ، شرط أن أجتاز أحد امتحانات القبول ، و الذي سأجريه بعد الغد

    و ما أقرب بعد الغد !

    إن مصيري و مستقبلي معلّق بذلك اليوم ...

    إنني قد عدت لقراءة بعض المواضيع من المواد الدراسية المختلفة استعداد له

    ادعوا لي بالتوفيق !

    في الوقت الراهن أنا بدون شاغل ، أو لنقل ... عاطل عن المستقبل !

    خلال السنوات الثلاث الماضية ازداد طولي وحجمي كثيرا و أصبحت عملاقا و ضخما !

    تعديت طول والدي و أصبحت أشعر ببعض الخجل كلما وقفت إلى جانبه !

    أما صغيرتي المدللة ، فلم تتغير كثيرا !

    لا تزال نحيلة و صغيرة الحجم ، كثيرة المطالب ، و شديدة التدلل !

    و المنافسة بينها و بين دانة حتى على الأشياء البسيطة لا تزال قائمة !

    و اعتقد أنكم تتوقعون أنني ...

    لازلت مهووسا بها كما السابق ، بل و أكثر ...

    وصلت الآن إلى بوابة المدرسة الابتدائية ، و ها أنا أرى الفتاتين تقبلان نحو السيارة !

    و راقبوا ما سيحصل !

    تتسابق الاثنتان نحو الباب الأمامي ...

    تصل إحداهما قبل الأخرى بجزء من الثانية

    تحاول كل واحدة فتح الباب و الجلوس في المقعد المجاور لي

    تتنازعان

    تتشاجران

    تحتكمان إلي !


    " وليد ! أنا وصلت قبلها "

    " بل أنا يا وليد ... أليس كذلك ؟ "

    " وليد قل لها أن تبتعد عني "

    " أنا من وصل أولا ! دعها تركب خلفك وليد "

    " كفى ! "


    كل يوم تتكرر نفس القصة ! و الآن علي ّ أن أضع جدولا مقسما فيما بينهما !

    " حسنا ... من التي كانت تجلس قربي يوم أمس ؟ "


    أجابت دانة :

    " أنا "

    قلت :

    " إذن ، اليوم تجلس رغد و غدا دانة و هكذا ! اتفقنا ؟؟ "


    و بزهو و نشوة الانتصار ، ركبت السيدة رغد و جلست على الكرسي الأمامي بجانبي !

    فيما ترمق دانة بنظرات ( التحسير ) !

    كم سأفتقد هاتين المشاكستين !

    " وليد تعلمنا درسا صعبا في ( الرياضيات ) أريدك أن تساعدني في حل التمارين "

    " حسنا رغد "

    " و أنا أيضا أريدك أن تساعدني في تمارين القواعد "

    " حسنا دانة ! "

    قالت رغد بسرعة :

    " لكن أنا أولا فأنا سألتك أولا "

    قالت دانة :

    " درسي أنا أصعب . أنا أولا يا وليد "

    أنا أولا ... أنا أولا ... أنا أولا ...

    ويلي من هاتين الفتاتين !

    كلا ! لن أفتقدهما أبدا !

    كنت معتادا على تعليم الفتاتين في أحيان كثيرة ، خصوصا بعد تخرجي من المدرسة ...

    مواقف كثيرة ، و كثيرة جدا ، هي التي حصلت خلال السنوات الماضية و لكنني اختصرت لكم

    قدر الإمكان ...

    حينما وصلنا إلى البيت ، بالتحديد عندما هممت بإدخال المفتاح في الباب لفتحه ، بدأت منافسة جديدة ...

    " أعطني المفتاح أنا سأفتحه "

    " لا لا ، أنا سأفتحه وليد "

    " لا تقلديني ! "

    " أنت لا تقلديني "

    و احتدم النزاع !

    أوليت الباب ظهري و وقفت بين الفتاتين و عبست في وجهيهما !

    قلت بحدة :

    " أنا من سيفتح الباب و إن سمعتكما تتجادلان على هذا المفتاح ثانية فتحت رأسيكما و أفرغت ما بهما "

    المفروض أن نبرتي كانت حادة و مهددة ، و تثير الخوف ! إلا أن رغد أخذت تضحك ببساطة !

    التفت إليها و قلت :

    " لم الضحك ؟؟ "

    قالت و هي تقهقه :

    " لن تجد شيئا في رأس دانة من الداخل ! "

    قالت دانة :

    " بل أنت الجوفاء الرأس ! أتعلمين ماذا سيجد وليد في رأسك ؟ "

    رغد :

    " ماذا ؟ "

    دانة :

    " البطاطا المقلية التي تلتهمينها بشراهة كل يوم ! "

    رغد ـ و هي تضحك بمرح ـ

    " و أنت الفاصولياء التي أكلتها البارحة "

    و تبادلت الاثنتان مجموعة من الأكلات و الأطباق المفضلة في رأسي بعضهما البعض حتى أصابتاني بالصداع و التخمة !!

    قلت :

    " يكفي ! إنني من سيفتح رأسي أنا حتى ارمي بكما إلى الخارج منه "

    و استدرت ، و فتحت الباب ، فأسرعت دانة بالدخول لتسبق رغد ، بينما سارت رغد ببطء و انتظرتني حتى دخلت ، ثم أقفلت الباب ...

    " وليد ! "

    التفت إليها و أنا ممتلئ ما يكفي و يزيد من سخافاتهما ، و قلت بتنهد :

    " ماذا بعد ؟؟ "

    قالت :

    " أنا لا أريد أن أخرج من رأسك "

    اندهشت ! نظرت إليها باستغراب ، و قلت :

    " عفوا ؟؟ ! "

    رددت :

    " أنا لا أريد أن أخرج من رأسك "

    " و لماذا ؟؟ "

    ابتسمت بخبث و قالت :

    " لكي أستطيع رؤية الناس من الأعلى فأنت طويــــــــــــــــــــــــــــل "


    ابتسمت لها بهدوء ، ثم فجأة ، مددت يدي نحوها و رفعتها عن الأرض على حين غفلة منها إلى الأعلى عند رأسي و أنا أقول :

    " هكذا ؟؟ "

    رغد أخذت تضحك بسعادة و بهجة لا توصف !

    أتذكرون كم كانت تعشق أن أحملها !؟
    لا تزال كذلك !

    دخلت المنزل ، ثم المطبخ و أنا لا أزال أحملها و هي تضحك بسرور ، ثم أجلستها على أحد المقاعد و ألقيت التحية على والدتي ، و التي كانت مشغولة بتجهيز أطباق المائدة

    قالت أمي :

    " رغد ، هيا اذهبي و أدي صلاتك ثم اجلسي عند مائدة الطعام "

    قامت رغد ، و هي تنزع الحقيبة المدرسية عن ظهرها و تنظر إلى أمي و تقول :

    " بطاطا مقلية ؟ "

    " نعم ! حضرتها لأجلك "

    و انطلقت رغد فرحة ، و غادرت المطبخ .

    للعلم ، فإن صغيرتي هذه تحب البطاطا المقلية كثيرا !

    والدتي استمرت في عملها و حدثتني دون أن تنظر إلي :

    " لم تعد صغيرة ! "

    ركزت بصري عليها ، و قلت :

    " رغد ؟ لقد كبرت قليلا ! "

    " لم تعد صغيرة لتحملها على ذراعيك "


    غيرت كلمات والدتي هذه مجرى ما فهمت ...

    إذن ، فهي معترضة على حملي للصغيرة هكذا ...؟

    " و لكن ... إنها مجرد طفلة صغيرة و خفيفة ! و هي تحب ذلك ... "

    " إنها في التاسعة من العمر يا وليد ... "


    جملة والدتي هذه ، جعلت شريط الذكريات يعرض فجأة في مخيلتي ...

    تذكرت كيف حضرت إلى منزلنا قبل ست أو سبع سنين ... !

    آه ... ( المخلوقة البكاءة ) !

    يا للأيام ...

    من كان ليصدق أنني ( ربيت ) رغد في حجري و أطعمتها بيدي و سرحت شعرها و نظفت أذنيها !
    من جرّب أن يكون أما و أبا ليتيمة ، و هو طفل أو حتى مراهق لم يبلغ العشرين !
    يا للذكريات !

    في غرفتي لاحقا ، أخذت أقلب ألبوم الصور الذي يشمل أفراد عائلتي ...
    صحيح ... لقد كبرت الصغيرة !
    مر الوقت سريعا ...
    و ها أنا مقدم على الجامعة ، و حين أسافر ... ... ...

    توقفت عند هذا الحد ...
    فأنا لا أستطيع التفكير فيما بعد ذلك
    كيف لي أن أبتعد عن أهلي و وطني ...؟
    كيف لي أن أتحمل الغربة و الوحدة ؟
    كيف لصباح أن يطلع علي ، دون أن أحتسي شاي والدتي العطر ، و كيف لشمس أن تغرب دون أن أقرأ أخبار الصحف لوالدي ؟
    كيف لعيني أن تغمضا دون أن أتمنى لأخوتي نوما هانئا ...
    كيف لقلبي أن ينبض ... دون أن أحمل رغد على ذراعي ؟؟؟

    إنني سأذهب لإجراء الامتحان بعد الغد و إذا ما اجتزته ، فسأغادر البلد خلال أسبوع أو أكثر بقليل

    إنها أفكار تجعلني أشعر بخوف و توجّس ...
    هل أقوى على ذلك ؟؟
    لابد لي من ذلك ... فأحوالنا في تدهور و شهادتي الجامعية ستعني الكثير ...

    المرشحون لهذا الامتحان قليلون ، و كانت فرصة ذهبية أن أضيف اسمي إليهم و أنا واثق من قدرتي على اجتيازه ، بإذن الله ...

    قلبت الألبوم و أنا في حيرة ... أي صورة آخذها معي ؟؟
    ثم وقع اختياري على صورة تضمنا جميعا ، تظهر فيها رغد متشبثة برجلي !
    فيما ترتسم ابتسامة رائعة على وجهها الجميل ...

    " هذه هي ! "

    أخذت الصورة ، و صورة أخرى لرغد و هي تلوّن في أحد دفاترها ، و وضعتهما في محفظة جيبي .

    في المساء ، ذهبت مع أخي سامر لأحد المتاجر لاقتناء بعض الأشياء ، و وقفنا عند حقائب السفر رغبة في شراء بعضها

    فيما كنا هناك ، حضر مجموعة من الشبان ، كان عمّار فيما بينهم .

    عمّار نجح بصعوبة ، و تخرج ـ رغم إهماله ـ من المدرسة الثانوية ، و اعتقد أن والده ذا النفوذ الكبير قد استطاع تدبير مقعد دراسي له في إحدى الجامعات ... بطريقة ( غير قانونية ! )

    عندما رآني عمّار ، أقبل نحوي تسبقه ضحكته البغيضة ، و قال :

    " يبدو أن وليد ينوي السفر أيها الأصحاب ! هل عثر والدك على كرسي جامعي شاغر لك !؟ أم أن حطام الجامعة قد حطّم قلبك يا مسكين ؟؟ "

    و بدأ مجموعة الشبان بالضحك و القهقهة

    أوليتهم ظهري فقال عمّار :

    " لا تقلق ! سأطلب من والدي أن يساعدك في البحث عن جامعة ! أو ... ما رأيك بالعمل عندنا ! فمصنعنا لم يحترق ! سأوصي بك خيرا ! "

    سامر لم يتحمّل هذه السخرية من ذلك اللئيم ، و ثار قائلا :

    " لم يبق إلا أن يعمل الأعزة عند الأذلة المنحرفين ! "

    صرخ عمّار قائلا :

    " اخرس أيها الأعور القبيح ! من سمح لك بالتحدث ! ألا تخجل من وجهك المفزع ؟ "

    و التفت إلى أصحابه و قال :

    " اهربوا يا شباب ! الأعور الدجال ! "

    سيل من اللكمات العنيفة وجهتها بلا توقف و لا شعور نحو كل ما وقعت قبضتي عليه من أجساد عمّار و أصحابه ...

    لحظتها ، شعرت برغبة في فقء عينيه و سلخ جلده ...

    أخي سامر نال منهم أيضا

    و احتدّ العراك و تدخّل من تدخل ، و فر من فر ، و انتهى الأمر بنا بتدخل من قبل الشرطة !

    في تلك الليلة و للمرة الأولى منذ الحادثة المشؤومة ، سمعت صوت بكاء أخي خلسة .

    عندما أصيب بالحرق ، كان لا يزال طفلا في الحادية عشرة من العمر ... ربما لم يكن شكله يشغل تفكيره و اهتمامه بمعنى الكلمة ، أما الآن ... و هو فتى بالغ أعمق تفكيرا ، فإن الأمر اختلف كثيرا ...

    ليلتها ، قال أنه يريد أن يخضع لعملية تجميل جديدة ...
    لكن أوضاعنا المادية في الوقت الحالي ، لا تسمح بذلك ....

    عندما أحصل على شهادتي الجامعية ... و أعمل و أكسب المال ، فسوف أعرضه على أمهر جراحي التجميل ، ليعيده كما كان ...

    فقط عندما أحصل على شهادتي ...

    في اليوم التالي ، وجدت سيارتي مليئة بالخدوش المشوهة !

    " إنه عمّار الوغد ! تبا له ! "

    أوصلت أخوتي للمدرسة ، و شغلت نفسي ذلك الصباح بمزيد من الإعدادات للسفر المرتقب !

    امتحاني سيكون يوم الغد ... لذا ، قضيت معظم الوقت في قراءة مواضيع شتى من كتبي الدراسية السابقة ...

    و كلما قلبت صفحة جديدة من الكتاب ، قلبت صفحة من ألبوم الصور ...
    كيف أستطيع فراق أهلي ...؟
    كيف أبتعد عن رغد ؟
    إنني أشعر بالضيق إذا ما مضت بضع ساعات دون أن أراها و أداعبها ... و أنزعج كلما باتت في بيت خالتها بعيدا عني ...

    فيما أنا منهمك في أفكاري و قراءتي ، جاءتني رغد ... !

    طرقت الباب ، ثم دخلت الغرفة ببطء ، تاركة الباب نصف مفتوح ...

    " وليد ... لدي تمرين صعب ... ساعدني بحله "

    لم يكن هناك شيء أحب إلي من تعليم صغيرتي ، ألا أنني يومها كنت مشغولا ... لذا قلت :

    " اطلبي من والدتي أو سامر مساعدتك ، فأنا أريد أن أذاكر ! "

    لم تتحرك من مكانها !
    نظرت إليها مستغربا و قلت :

    " هيا رغد ! أنا آسف لا أستطيع مساعدتك اليوم ! "

    و بقيت واقفة في مكانها ...
    إذن فهناك شيء ما !
    حفظت هذا الأسلوب !

    تركت الكتاب من بين يدي و نهضت ، و قدمت إليها و جثوت على ركبتي أمامها :

    " رغد ... ما بك ؟ "

    تقوس فمها للأسفل في حزن مفاجئ و قالت :

    " هل صحيح أنك ستسافر بعيدا ؟ "

    فاجأني سؤالها ، إنني لم أكن أتحدث عن أمر السفر معها ، فالحديث سابق لأوانه ...

    قلت مازحا :

    " نعم يا رغد ! إلى مكان بعيد لا يوجد فيه رغد و لا دانة و لا شجار ! و سأترك رأسي هنا ! "

    لم يبد ُ أنها فهمت مزاحي أو تقبلته ، إذ أن تقوس فمها الصغير قد ازداد و بدأت عيناها تحمرّان

    قالت :

    " و هل ستأخذني معك ؟ "

    هنا ... عضضت على شفتي و جاء دور فمي أنا ليتقوس حزنا ...
    طردت الموجة الحزينة التي اعترتني

    و قلت :

    " من أخبرك بأنني سأسافر ؟؟ "

    " سمعت والداي يتحدثان بهذا "

    مسحت على رأسها و قلت :

    " سأسافر فترة مؤقتة لأدرس ثم أعود "

    " و أنا ؟؟ "

    " ستبقين مع الجميع و حالما أنهي دراستي سأعود و آخذك إلى أي مكان في العالم ! "

    " لا أريدك أن تذهب وليد ! من الذي سيحبني كثيرا مثلك إذا ذهبت ؟ "

    شعرت بخنجر يغرس في صدري ...

    رغد ... أيتها الفتاة الصغيرة ... التي تربعت في كل خلايا جسمي ، ألا تعلمين ما يعنيه فراقك بالنسبة لي !؟؟
    لا أعرف إن كانت قد أحست بالطعنة التي مزقت قلبي أم أنني أهوّل الأمر ، ألا أن دموعها سالت ببطء من مقلتيها ...

    دموع أميرتي التي تزلزل كياني ...
    مددت يدي و مسحت دموعها و أنا أحاول الابتسام :

    " رغد ! عزيزتي ... لا يزال معك دانة و سامر ... و أمي و أبي ... و نهلة و حسام و سارة ( و سارة هي الابنة الثانية لأم حسام ) مع أمهم ! و كل صديقاتك ! لن تكوني وحيدة ! أنا فقط من سيكون وحيدا ! "

    قالت بسرعة :

    " خذني معك ! "

    ضغطت على قبضتي ، و قلت :

    " يا ليت ! لا يمكنني ... صغيرتي ! لكنني عندما أعود ... "

    و لم أكمل جملتي ، رمت رغد بكتابها جانبا و قاطعتني بسيل من الضربات الخفيفة الموجهة إلى صدري ...

    إلى قلبي ...

    إلى روحي ...

    إلى كل عصب حي في جسدي ...

    و شريان نابض ...

    " لا تذهب ... لا تذهب ... لا تذهب ... "

    " رغد ... "

    " أنت قلت أنك ستعتني بي كل يوم و دائما ! لا تذهب ... لا ... لا ... لا .. "

    و أخذت تبكي بعمق ...

    و كلما حاولت المسح على رأسها أبعدت يدي و ضربت صدري استنكارا ...

    ضرباتها لم تكن موجعة ، لو أنني لم أكن مصابا ببعض الكدمات و الرضوض في صدري ، أثر عراكي الأخير مع عمّار و أصحابه ...
    شعرت بالألم ، و لكنني لم أحرك ساكنا ...
    تركت لها حرية التعبير عن مشاعرها قدر ما تشاء ...
    لم أوقفها ... لم أبعدها ... لم أنطق بكلمة بعد ...
    إنها رغد التي تربت في حضني ... و عانقت ذات الصدر الذي تضربه الآن ...
    ليتهم لم يحرقوا الجامعة ...
    ليتهم لم يحرقوا المصنع ...
    ليتهم أحرقوا شيئا آخر ...
    ليتهم أحرقوا عمّار !

    و يبدو أن صوت رغد قد وصل إلى مسامع والدي فجاء إلى غرفتي و وقف عند فتحة الباب ...

    عندما رأى ولدي رغد تضربني ، غضب من تصرفها و بصوت حاد قال ، و هو واقف عند الباب :

    " رغد ... توقفي عن هذا "

    رغد رفعت رأسها و نظرت إلى والدي ، ثم قالت :

    " لا تدعه يذهب "

    إلا أن أبي قال بحدة :

    " خذي كتابك و عودي إلى أمك ، و دعي وليد يدرس "

    لم تتحرك رغد من مكانها ، فرفع والدي صوته بغضب و قال :

    " ألم تسمعي ؟ اذهبي إلى أمك و كوني فتاة عاقلة "

    رغد التقطت كتابها من على الأرض ، و خرجت من الغرفة

    أما أنا فقلبي كان يعتصر ألما ...

    بعدها ، قلت لأبي :

    " لماذا يا أبي ؟ إنها ستظل تبكي لساعات ! جاءت تطلب مني تعليمها "

    والدي قال بغضب :

    " لقد كانت والدتك تعلّمها ، و حين جيء بذكر سفرك ، حملت كتابها و أتت إليك ، نهيناها فلم تطع "

    قلت مستاءا :

    " لكنك صرفتها بقسوة يا أبي "

    لم تعجب جملتي والدي فقال :

    " أنت تدللها أكثر من اللازم يا وليد ... يجب أن تعلمها أن تحترمك لا أن ترفع يدها عليك هكذا ، تصرف سيئ "

    " لكني لا أستاء من ذلك يا أبي ... إنها مجرد طفلة ، كما أنني أتضايق كثيرا إذا أساء أحد إليها ، والدي ... أرجوكم لا تقسوا عليها بعد غيابي ... "

    من يدري ماذا يحدث ؟ بعد أن أغيب ...؟
    هل سيسيء أحد إلى طفلتي ؟؟
    إنني لا أقبل عليها كلمة واحدة ...
    ليتني أستطيع أخذها معي !

    انتظرت حتى انصرف والدي من المنزل ، ثم فتشت عن رغد ، فوجدها في غرفتها ... و كما توقعت ، كانت غارقة في الدموع ...

    أقبلت إليها و ناديتها :

    " رغد يا صغيرتي ... "

    رفعت رأسها إلي ، فرأيت العالم المظلم من خلال عينيها البريئتين ...
    اقتربت منها و طوّقتها بذراعي ، و قلت ...

    " لا تبكي يا عزيزتي فدموعك غالية جدا ... "

    قالت :

    " لا تذهب ... وليد ... "

    قلت :

    " لا بد أن أذهب ... فسفري مهم جدا ... "

    " و أنا مهمة جدا "

    " طبعا أميرتي ! أهم من في الدنيا ! "

    أمسكت بيدي في رجاء و قالت :

    " إذا كنت تحبني مثلما أحبك فلا تسافر "

    في لحظة جنون ، كنت مستعدا للتخلي عن أي شيء ، في سبيل هذه الفتاة ...
    و بدأت أفكار التخلي عن حلم الدراسة تنمو في رأسي تلك اللحظة ...
    ليتني ... أيا ليتني استمعت إليها ...
    يا ليتني فقدت عقلي و جننت لحظتها بالفعل ...
    لكنني للأسف ... بقيت متشبثا بحلمي الجميل ....

    " عزيزتي ، سأكون قريبا ... اتصلي بي كل يوم و أخبريني عن كل أمورك ! و إذا تشاجرت معك دانة فأبلغيني حتى أعاقبها حين أعود ! "

    نظرت إلي نظرة سأضيفها إلى رصيد النظرات التي لن أنساها ما حييت ...
    ما حييت يا رغد لن أنسى هذه اللحظة ...

    " وليد ... خذلتني ... لم أعد أحبك "

    رغد لم تكلمني طوال الصباح التالي ، بل و لم تنظر إلي ...
    كانت حزينة و قد غابت ضحكتها الجميلة و مرحها الذي يملأ الأجواء حياة و حيوية ...
    الجميع لاحظ ذلك ، و استنتجوا أنه بسبب موضوع سفري و غضب والدي منها يوم الأمس ...
    و كالعادة ، أوصلت سامر إلى مدرسته ، ثم دانة و رغد ....
    وهي تسير مبتعدة عن السيارة و متجهة نحو مدخل المدرسة ، كانت رغد مطأطئة الرأس متباطئة الخطى
    جعلت أراقبها قليلا ، فألقت علي نظرة حزينة كئيبة لم أتحمل رؤيتها فابتعدت قاصدا المكان الذي سأجري فيه اختباري المصيري ...

    المشوار إلى هناك يستغرق قرابة الساعة ، و كنت ألقي بنظرة على الساعة بين الفينة و الأخرى خشية التأخر

    أعرف أنها فرصة العمر و أي تأخير مني قد يضيعها ...

    حينما أوشكت على الوصول ، وردتني مكاملة هاتفية عبر هاتفي المحمول من صديقي ( سيف ) يتأكد من وشوكي على الوصول . و سيف هذا هو أقرب أصحابي ، و هو مرشح معي أيضا لدخول الامتحان .
    بعد دقيقة ، عاد هاتفي يرن من جديد ...
    كان رقما مجهولا !

    " مرحبا ! لابد أنك وليد ! "

    بدا صوتا غير معروف ، سألته :

    " من أنت ؟؟ "

    قال :

    " يا لذاكرتك الضعيفة يا مسكين ! يبدو أن الضرب الذي تلقيته من قبضتي قد أودى بقدراتك العقلية ! "

    الآن استطعت تمييز المتحدث ... إنه عمّار !


    " عمّار ؟؟؟ !"

    " أحسنت ! هكذا تعجبني ! "

    استأت ، كيف حصل على رقم هاتفي الخاص و ما الذي يريده مني ؟

    " ماذا تريد ؟ "

    " انتبه و أنت تقود ! أخشى أن تصاب بمكروه ! "

    " أجب ماذا تريد ؟؟ "

    ضحك ذات الضحكة الكريهة و قال :

    " لا شك أنك في طريقك للامتحان ! أليس كذلك ! إن الوقت سيستغرق منك أقل من ساعتين فيما لو قررت الذهاب إلى المطار ! "

    ضقت ذرعا به ، قلت :

    " هل لي أن أعرف سبب اتصالك ؟ فإما أن تقول ماذا أو أنه ِ المكالمة "

    " رويدك يا صديقي ! سأمهلك ساعتين فقط ، حتى تمثل أمامي و تعتذر قبل أن أسافر بهذه الصغيرة بأي طائرة ، إلى الجحيم ! "

    بعدها سمعت صرخة جعلت جسدي ينتفض فجأة و يدي ترتعشان ، و المقود يفلت من بينهما ، و السيارة تنحرف عن خط مسيرها ، حتى كدت أصطدم بما كان أمامي لو لم تتدخل العناية الربانية لإنقاذي ....

    " وليد ... تعال ... "

    لقد كان صوت رغد ....

    جن جنوني ...

    فقدت كل معنى للقدرة على السيطرة يمكن أن يمتلكه أي إنسان ... مهما ضعف

    صرخت :

    " رغد ! أهذه أنت رغد ؟؟ أجيبي "

    فجاء صوت صراخها و بكاؤها الذي أحفظه جيدا يؤكد أن أذناي لا زالتا تعملان بشكل جيد ...

    " رغد أين أنت ؟ رغد ردي علي ّ "

    فرد عمّار قائلا :

    " تجدنا في طريق المطار ! لا تتأخر فطائرتي ستقلع بعد ساعتين ... إلا إن كنت لا تمانع في أن أصطحب شقيقتك معي !؟ "

    صرخت :

    " أيها الوغد أقسم إن أذيتها لأقتلنك ... لأقتلنك يا جبان "

    ضحك ، و قال :

    " لا تتأخر عزيزي و لا تثر غضبي ! تذكر ... طريق المطار "

    ثم أنهى المكالمة ...

    استدرت بسيارتي بجنون ، و انطلقت بالسرعة القصوى متجها نحو المطار ...

    لم أكن أرى الطريق أمامي ، الشوارع و السيارات و الإشارات ... اجتزتها كلها دون أن أرى شيئا منها

    لم أكن أرى سوى رغد

    و أتذكر كيف كانت تنظر إلي قبل ساعة ...

    ثم أتخيلها في مكان بين يدي عمّار

    لم أعرف كيف أربط بين الأحداث أو أفكر في كيفية حدوث أي شيء ...

    أريد أن أصل فقط إلى حيث رغد

    لا أعرف كم الوقت استغرقت ...

    شهر ؟

    سنة ؟

    قرن ؟

    بدا طويلا جدا لا نهاية له ...

    و سرت كقارب تائه في قلب المحيط ...

    أو شهب منطلق في فضاء الكون ...

    لا يعرف إلى أين ...

    و متى

    و كيف سيصل ...

    و بم سيصطدم ...

    أخذت هاتفي و اتصلت برقم عمّار الظاهر لدي ، أجاب مباشرة :

    " لقد انقضت عشرون دقيقة ! أسرع فشقيقتك ترتجف خوفا ! "

    " إياك أن تؤذها ... و إلا ... "

    " سأفعل إن تأخرت ! "

    " أيها الـ ... ... ... دعني أتحدث إليها "

    جاءني صوتها الباكي المذعور :

    " وليد لا تتركني هنا "

    " رغد ... عزيزتي أنا قادم الآن ... لا تخافي صغيرتي أنا قادم "

    " أنا خائفة وليد تعال بسرعة أرجوك ... آه ... أرجوك ... "

    أي عقل تبقى لي ؟؟

    لماذا لا تتحرك هذه السيارة اللعينة ؟

    لماذا لم اشتر صاروخا لمثل هذه الظروف ؟

    لماذا لم تحترق في الحرب يا عمّار ...

    ألف لعنة و لعنة عليك أيها الجبان ... ويل لك مني ..

    بعد ساعة و نصف ، و فيما أنا منطلق كالبرق على الشارع المؤدي إلى المطار ، إذا بي ألمح سيارة تقف جانبا ، و يقف عندها رجل

    و أنا أقترب توضح لي أنه عمّار

    بسرعة ، أوقفت سيارتي خلف سيارته مباشرة و نزلت منها كالقذيفة و ركضت نحوه ، في الوقت الذي فتح هو في الباب ، و أخرج رغد من السيارة ...
    جاءت رغد تركض نحوي فالتقطتها و رفعتها عن الأرض و أطبقت بذراعي حولها بقوة ...

    " رغد ... رغد صغيرتي ... أنا هنا ... أنا هنا عزيزتي "

    رغد كانت تحاول أن تتكلم لكنها لم تستطع من شدة الذعر ...

    كانت ترتجف بين يدي ارتجاف الزلزال المدمر ... كانت تحاول النطق باسمي لكن لم تستطع النطق بأكثر من

    " و ... و ... و "

    انهمرت دموعي كالشلال و أنا أضغط عليها و هي تضغط علي و تتشبث بي بقوة و أشعر بأصابعها تكاد تخترق جسدي فيما ترفع رجليها للأعلى كأنما تتسلقني خشية أن تلامس رجلها الأرض و تفقدها الأمان ...

    " أنا معك عزيزتي لا تخافي ... معك يا طفلتي معك ... "

    حاولت أن أبعد رأسها قليلا عني حتى أتمكن من رؤية عينيها و إشعارها بالأمان ، لكنها بدأت بالصراخ و تشبثت بي بقوة أكبر و أكبر كأنها تريد أن تدخل بداخلي ...

    " وليد ! لديك امتحان مهم ! هل ستضيّع الفرصة ؟ "

    قال هذا عمّار الوغد و أطلق ضحكة كبيرة ...

    انتابتني رغبة في تحطيمه ألا أن رغد عادت تصرخ حينما خطوت خطوة واحدة نحوه ...

    " خسارة يا وليد ! جرّب حظك في مصنع والدي ! "

    و ابتسم بخبث :

    " دفّعتك الثمن ... كما وعدت "

    ثم استدار و هم بركوب سيارته ...

    خطوت خطرة أخرى نحوه ، فأخذت رغد تصرخ بجنون :

    " لا .. لا .. لا .. لا .. لا "

    انثنى عمّار ليدخل السيارة ، ثم توقف ، و استقام ، و استدار نحوي و قال :

    " نسيت أن أعيد هذا ! "

    و من جيب بنطاله أخرج شريطا قماشيا طويلا ، و رماه في الهواء باتجاهي

    رقص الشريط كالحية في الهواء ، وأنا أراقبه ، في نفس اللحظة التي ظهرت فيها طائرة في السماء مخترقة قرص الشمس المعشية ، و دوت بصوتها في الأجواء ، فيما يتداخل صوتها مع صوت عمّار وهو يقول :

    " إلى الجحيم ! "

    ثم هبط الشريط المتراقص تدريجيا و بتمايل حتى استقر عند قدمي ّ ...

    ركزت نظري على الشريط ، لأكتشف أنه الحزام الذي تلفه رغد حول خصرها ، و التابع لزيها المدرسي الذي ترتديه الآن ...

    رفعت نظري ببطء و ذهول و صعق إلى وجه عمّار ، فحرك هذا الأخير زاوية فمه اليمنى بخبث إلى الأعلى في ابتسامة قضت علي ّ تماما ... و دمرتني تدميرا

    أبعدت وجه رغد عن كتفي و أجبرتها على النظر إلي ... فيما أنا عاجز عن رؤية شيء ... من عشي الشمس ... و هول ما أنا فيه ...

    لم أر إلا دمارا و حطاما و نارا و جحيما ...

    لهيبا ... و صراخا ... و دموعا تحترق ... و آمالا تتبعثر ... و أحلاما تظلم ...

    سوادا في سواد ...

    عند هذه اللحظة ، نزعت رغد عني عنوة ، و دفعت بها أرضا و نظرت من حولي فإذا بي أرى صخورا كبيرة قربي ...

    التقطت واحدة منها ، و بسرعة لا تجعل مجالا للمح البصر بإدراكها ، و قوة لا تسمح لشيء بمعاكستها ، رميتها نحو عمار و هو يهم بركوب سيارته ، فارتطمت برأسه ... و صرخ ... و ترنح لثوان ..

    ثم هوى أرضا ...

    و انتفض جسده ...

    و انتزعت روحه ...

    و إلى الجحيم ...




    الحلقةالسادسة


    وقفت جامدا في مكاني ، و أنا أراقب عمّار يترنح ، ثم يهوي ، و تسكن حركاته ...
    كان دوي الطائرة يزلزل طبلتي أذني ... دققت النظر إليه ... لم يحرّك ساكنا
    رفعت قدمي بصعوبة و حثثتها على السير نحو عمّار
    بصعوبة وصلت قربه فرأيت عينيه مفتوحتين ، و الدماء تسيل من أنفه ، و صدره ساكنا عن أية أنفاس ...
    أدركت ... أنه مات ... و إنني أنا ... من قتله

    استدرت للخلف و عيناي تفتشان عن رغد ...
    صغيرتي الحبيبة ...
    مدللتي الغالية ...
    مهجة قلبي ...
    رأيتها تقف بذعر عند سيارتي ، و تنظر إلي و دموعها تنهمر بغزارة ، فيما يستلقي حزامها القماشي على الرمال الناعمة بكل هدوء ...

    بتثاقل و بطء ، بانهيار و ضعف شديدين ، سرت باتجاهها ...
    نفذ كل ما كان في جسدي من طاقة ، فكأنما كنت أعمل على بطارية انتزعت مني و تركتني بلا طاقة و لا حراك ...

    في منتصف الطريق ، انهرت ...

    خررت على الأرض كما تخر قطعة قماش كانت متدلية كالستار المثبت إلى الحائط و ارتطمت ركبتاي بالرمال ... و هبطت أنظاري برأسي نحو الأرض ...
    رفعت رأسي بصعوبة و نظرت إلى رغد ، و هي لا تزال واقفة في نفس الموضع و الوضع ...
    بصعوبة فتحت ذراعي قليلا ، و قلت بصوت مخنوق خرج من رئتي :

    " تعالي ... "

    رغد نظرت إلي دون أن تتحرك ، فعدت أقول :

    " تعالي ... رغد "

    الآن ، أقبلت نحوي بسرعة ، و بقوة ارتمت في حضني و كادت تلقيني أرضا ...
    طوّقتني بذراعيها بقوة ، و حين حاولت تطويقها أنا عجزت إلا عن رمي ذراعي المنهارتين حولها بضعف

    بكيت كثيرا ... و كثيرا جدا ...
    لما ضاع ... و لما انتهى ..
    و لما هو آت و محتوم ...

    بقينا على هذا الوضع بضع دقائق ، لا أقوى على قول أو فعل شيء ... و السكون التام يسيطر على الأجواء ...

    كان طريقا بريا موحشا ، و لم تمر بنا أية سيارة حتى الآن ...

    استعدت من القوة ما أمكنني من تحريك يدي قليلا ، فجعلت أمسح على رأس طفلتي و أنا أقول بحرقة و مرارة :

    " سامحيني يا رغد ... سامحيني ... "

    رغد استردت أنفاسها التائهة ، و قالت و وجهها لا يزال مغمورا في صدري :

    " دعنا نعود للبيت "

    أبعدت رأسها قليلا عني و سمحت لأعيينا باللقاء ... و أي لقاء ؟؟
    لقاء مبلل بسيول عارمة من الدموع الدامية
    لم يجد لساني ما يستطيع النطق به ...
    حاولت النهوض أخيرا ، و ذراعاي تجاهدان من أجل حمل الصغيرة ، ففشلت

    أطلقت صيحة حسرة و ألم مريرة تمنيت لو أنها زلزلت الكون كله ، و حطمت كل الأجرام و الكواكب و من عليها ... و محت الدنيا من الوجود ...

    و طفلتي الصغيرة تبكي على صدري مذعورة فزعة ... و عدوّي الوغد جثة هامدة تقطر دما ... و حلمي الكبير قد ضاع و تلاشى كغبار عصفت به ريح غادرة ...
    و مصيري المجهول البعيد ... كما وراء الأفق ... و الساحة الخالية إلا من رغد وأنا ... و الشمس تشهد ما حدث و يحدث ... رفعت يدي إلى السماء ... و صرخت :

    " يا رب .... "

    استطعت أخيرا أن اشحن بالطاقة الكافية ، لأنهض و أحمل صغيرتي على ذراعي ، و أسير بها نحو السيارة ...

    لم أجلسها على المقعد المجاور لا ، بل أجلستها ملتصقة بي ، فأنا لا أريد لبضع بوصات أن تبعدها عني ...

    رن هاتفي المحمول ، و الذي كان في السيارة ، ألقيت نظرة لا مبالية على اسم المتصل الظاهر في الشاشة ، كان صديقي سيف ، أخذت الهاتف و أسكته ، و ألقيت به جانبا ... فكل شيء قد انتهى ...

    انطلقت بالسيارة ببطء ، و أنا لا أعرف إلى أين أتجه ... فكل شيء أمامي كان مبهما و مجهولا ...

    قطعت مسافة طويلة في اتجاهات متعددة ، و نار صدري تتأجج ، و دموعي عاجزة عن إطفاء شرارة واحدة منها ...

    صغيرتي ، ظلت متشبثة بي ، لا تتكلم ، و تنحدر دمعة من عينها تخترق صدري و تمزق قلمي قبل أن ينتهي بها المصير إلى ملابسها المتعطشة لمزيد من الدموع ...

    بعد فترة ، مررت في طريقي بحديقة عامة

    و تصورا أي تصرف لا يمت لوضعي بصلة ، هو الذي بدر مني دون تفكير !

    " رغد عزيزتي ، ما رأيك باللعب هنا قليلا ؟ "

    رغد رفعت بصرها إلي ببراءة و شيء من الاستغراب ... فحتى على طفلة صغيرة محدودة المدارك ، لا يبدو هذا تصرفا طبيعيا ..

    " سأشتري بعض البوظة لنا أيضا ! هيا بنا "

    و أوقفت السيارة ، و فتحت الباب ، و نزلت و أنزلتها عبر الباب ذاته .

    أمسكت بيدها و حثثتها على السير معي نحو مدخل الحديقة

    هناك ، كان العدد القليل جدا من الناس يتنزهون ، مع أطفالهم الصغار ، فهو نهار يوم دراسي و حار ...

    إنني أعرف أن صغيرتي تحب الأراجيح كثيرا ، لذا ، أخذتها إلى الأرجوحة و بدأت أؤرجحها بخفة ...


    تخلخل الهواء ملابسها الغارقة في الدموع ، فجففها ، و صافحت وجهها الكئيب فأنعشته ...

    تصوروا أنها ابتسمت لي !

    عندما كانت رغد تبتسم ، فإن الدنيا كلها ترقص بفرح في عيني ّ و البهجة تجتاح فؤادي و أي غبار لأي هموم يتبعثر و يتلاشى ...

    أما هذه الابتسامة ... فقد قتلتني ...

    لم أع لنفسي إلا و الدموع تقفز من عيني ّ قفزا ، و أوصالي ترتجف ارتجافا ، و قلبي يكاد يكسر ضلوعي من شدة و قوة نبضاته ...

    تبتسمين يا رغد ؟ بكل بساطة ... و كأن شيئا لم يكن !؟

    ألا يا ليتني ... قتلتك يا عماّر يوم تعاركنا ...

    ليتني قضيت عليك منذ سنين ...

    ليتني أحرقتك قبل أن تحرق قلبي و تدمر ماضي و مستقبلي ... و تحطّم أغلى ما لدي ...

    " وليد "

    انتبهت على صوت رغد تناديني ، و أنا غارق في الحزن المرير ...

    مسحت دموعي بلا جدوى ، فالسيل منهمر و الدمعة تجر الدمعة ...

    " نعم غاليتي ؟ "

    " هل نشتري البوظة الآن ؟ "

    أغمضت عيني ...

    و أوقفت الأرجوحة شيئا فشيئا ، فنزلت و استدارت إلي ... فأخذتها في حضني و قلت باكيا و مبتسما :

    " نعم يا صغيرتي ، سنشتري البوظة و أي شيء تريدينه ... و كل شيء تتمنينه ...
    أي شيء أيتها الحبيبة ... أي شيء ... أي شيء ... "

    و انخرطت في بكاء قوي ...

    رغد ، تبدلت تعابير وجهها و قالت و هي تندفع للبكاء :

    " لا تبكي وليد أرجوك "

    و أجهشت بكاءا هي الأخرى ...

    جذبتها إلى صدري و طوقتها بحنان و عاطفة ممزقة ... و بكينا سوية بكاءا يعجز اللسان عن وصفه ...

    و القلب عن تحمله ..

    و الكون عن استيعاب فيض عبره

    و امتزجت دموعنا ...

    و لو مر أحد منا لبكى ...

    و لو شهدتم بكاءنا لخررتم باكيين ...

    ألا و حسبنا الله و نعم الوكيل ....


    بعد ذلك ، مسحت دموعها و دموعي ، و ابتسمت لها :

    " إلى البوظة الآن ! "

    حملت الطفلة الصغيرة الحجم الخفيفة الوزن الضئيلة الجسم البريئة الروح على ذراعي ، فهي تحب ذلك ...

    و أنا سأفعل كل ما تحبه و تريده ... و لو أملك الدنيا و ما عليها لقدمتها لها فورا ...

    قبل الرحيل ...

    و هل سيعوّض ذلك شيئا ...؟؟

    اشترينا البوظة ، و جلسنا نتناولها قرب النافورة ، و حين فرغت من نصيبها اشتريت لها واحدا آخر ...

    و كذلك ، أطعمتها البطاطا المقلية فهي تحبها كثيرا !

    أطعمتها بيدي هاتين ...

    نعم ... بهاتين اليدين اللتين كثيرا ما اعتنتا بها ... في كل شيء ...

    و اللتين قتلتا عمّار قبل قليل ...

    و اللتين ستكبلان بالقيود ، و تذهبان إلى حيث لا يمكنني التكهن ...

    جعلتها تلعب بجميع الألعاب التي تحبها ، دون قيود و دون حدود ، بل ركبت معها و للمرة الثانية في حياتها ذلك القطار السريع الذي جربنا ركوب مثيله قبل 3 سنوات ...

    و كم أسعدتها التجربة الثانية !

    نعم ... ببساطة ... أسعدتها !

    كأي طفلة صغيرة وجدت فرصة لتلهو ... دون أن تدرك حقائق الأمور ...

    لهونا كثيرا ... ، و حين اقترب الموعد الذي يفترض أن أكون فيه عند مدرسة رغد و دانة ، في انتظار خروجهما ...

    " عزيزتي ، سنذهب لأخذ دانة من المدرسة ، لا تخبريها عن أي شيء "

    نظرت رغد إلي باستفهام ، أمسكت بكتفيها و قلت مؤكدا :

    " لا تخبري أحدا عن أي شيء ، أنا سأخبرهم بأنك لم تشائي الذهاب للمدرسة فأخذتك معي ... اتفقنا رغد ؟ عديني بذلك ؟ "

    و ضغط على كتفيها و بدا الحزم في عيني ... فقالت :

    " حسنا "

    قلت مؤكدا :

    " أخبريهم فقط أنك ذهبت معي ، و نمت أثناء الطريق و لا تعلمين أي شيء آخر ... لا تأتي بذكر أي شيء آخر رغد ... فهمت ِ عزيزتي ؟ "

    " نعم "

    " عديني بذلك يا رغد ... عديني "

    " أعدك ... وليد "

    " إذا أخلفت وعدك ، فإنني سأرحل و لن أعود إليك ثانية "

    توجم وجهها ، ثم أمسكت بيدي و شدّت قبضتها بقوة و اغرورقت عيناها بالدموع و تعابيرها بالفزع و قالت :

    " لا لا ترحل وليد . أرجوك . لا تتركني . أعدك . أعدك "

    وصلنا إلى البيت أخيرا ، بدا الوضع شبه طبيعي ، إلا من سكون غريب من قبل رغد و التي يفترض بها أن تكون مرحة ...

    الكل عزا ذلك للحزن الذي يعتريها بسبب سفري المرتقب .

    سألتني أمي :

    " كيف كان الامتحان ؟ "

    قلت :

    " سأخبرك بعد الغذاء "

    و تركت العائلة تنعم بوجبة هنيئة أخيرة ...

    بعد ذلك ، ذهبت إلى غرفة والدي ّ في وقت قيلولتهما الصغيرة ...

    " والدي ... والدتي ... لدي ما أخبركما به "

    بدا القلق على وجهيهما ، و تلعثمت الكلمات على لساني...

    أمي ، حين لاحظت حالتي المقلقة قالت :

    " هل الامتحان .... ؟؟ "

    قلت :

    " لم أحضر الامتحان "

    اندهشا و تفاجآ ...

    قال والدي :

    " لم تحضره ؟ كيف ؟؟ لماذا ؟؟ ماذا حصل ؟؟ "

    نظرت إليهما ، و سالت دموعي ... و انهرت ... و طأطأت رأسي للأرض ...

    هتفت أمي بقلق و فزع :

    " وليد ؟؟ "

    أخذت نفسا عميقا ... و رفعت بصري إليهما و بلسان مرتجف و جسد يرتعش و شفتين مترددتين قلت :


    " لقد .... قتلت عمّار "
    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~


    الهاتف المحمول الخاص بعمار، و الرقم الأخير الذي تم طلبه ، و الأخير الذي تم استقباله فيه ، و توقيت الاتصال ، و توقيت حدوث الوفاة ، و العراك الذي حصل مؤخرا بيني و بينه و تدخلت فيه الشرطة ، و عدم حضوري للامتحان ، كلها أمور قد قادت الشرطة إلي ّ بحيث لم يكن اعترافي ليزيدهم يقينا بأنني الفاعل ...

    بقي ... شيء حيّرهم ... تركته ساكنا في قلب الرمال ...

    حزام رغد

    ما سر وجوده هناك ... ؟؟

    أنكرت أي صلة لرغد بالموضوع بتاتا ، و لدى استجوابها أخبرتهم أنها لا تعرف شيئا ، حسب اتفاقنا

    سيف أيضا تم التحقيق معه ، و أكد للشرطة أنه حين اتصل بي كنت على مقربة من المبنى حيث قاعة الامتحان

    و ظل السؤال الحائر :

    لماذا عدت أدراجي ؟

    ما الذي دفعني للذهاب إلى شارع المطار ، و الشجار مع عمّار ، و من ثم قتله

    لماذا قتلت عمّار ؟؟

    ما الذي أخفيه عن الجميع ؟؟

    والد صديقي سيف كان محاميا تولى الدفاع عني في القضية ، باعتبار أنني قتلته دون قصد ... و أثناء شجار ... و بدافع كبير أصر على كتمانه ...
    و سأظل أكتمه في صدري ما حييت ... فإن هم حكموا بإعدامي ... أخبرت أمي قبل تنفيذ الحكم ...
    و إن عشت ، سأقتل السر في صدري إلى أن أعود ... من أجل صغيرتي ...

    تعقدت الأمور و تشابكت ... و ظلّ الغامض غامضا و المجهول مجهولا ،
    و حكم علي ّ بالسجن لأمد بعيد ...

    " أمي ... أرجوك ... لا تخبري رغد بأنني ذهبت للسجن ... اخبريها بأنني سافرت لأدرس ... و سأعود حالما أنتهي ... و قولي لها أن تنتظرني "

    " أبي ... أرجوك ... لا تقسو على رغد أبدا ... اعتنوا بها جيدا جميعكم ...
    فأنا لن أكون موجودا لأفعل ذلك "

    كان ذلك في لقائي الأخير بوالدي ّ ، قبل أن يتم ترحيلي إلى سجن العاصمة حيث سأقضي سنوات شبابي و زهرة عمري فيه ... بدلا من الدراسة في الجامعة ... و أعود إن قدرت لي العودة خريج سجون بدلا من خريج جامعات ... و بمستقبل أسود منتهي ، بدلا من بداية حياة جديدة و أمل ...


    هكذا ، انتهت بي الأحلام الجميلة ...


    هكذا ، أبتعدت عن رغد ... محبوبتي الصغيرة ، و لم يبق لي منها إلا صورتين كنت قد وضعتهما في محفظتي قبل أيام ...


    و ذكريات لا تنسى أحملها في دماغي و أحلم بها كل ليلة ...


    و صورتها الأخيرة مطبوعة في مخيلتي و هي تقول :


    " لا لا ترحل وليد . أرجوك . لا تتركني "
    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~


    انتظروا غدا الحلقة السابعة
    Tarek
    Tarek
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى


    المساهمات : 458
    تاريخ التسجيل : 09/11/2009

    رواية.. أنت لي Empty رد: رواية.. أنت لي

    مُساهمة  Tarek الأحد 3 يوليو 2011 - 11:36

    يلا بقى فين الباقى
    bounce pale
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty رد: رواية.. أنت لي

    مُساهمة  littledoctor الأحد 3 يوليو 2011 - 18:57

    والله يا طارق انت الوحيد اللي بتحسسني ان في كائنات حية بشرية على المنتدى... هانزل حلقتين كمان دلوقتي حالا بدل بكره علشان خاطرك انت بس

    يا جدعان اللي عاجباه الرواية و متابع معانا يعبرنا بتعليق علشان اتشجع و اكتب الباقي.. حراااااااااااام والله Sad Sad
    دول لسه كتير على فكره Arrow


    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty الحلقة السابعة و الثامنة

    مُساهمة  littledoctor الأحد 3 يوليو 2011 - 19:47


    الحلقةالسابعة


    لأن أخي وليد لم يعد موجودا ، فسأخبركم أنا ببعض ما حدث في بيتنا بعد المصيبة العظمى .
    لم يكن تقبل أي منا لا أنا و لا والديّ أو دانة أو رغد لغياب وليد بالشيء السهل مطلقا و خصوصا رغد ، فهي متعلقة به كثيرا و رحيله أحدث كارثة بالنسبة لها
    مرضت رغد في بداية الأمر بشكل ينذر بالخطر ...
    وليد قبل أن يخرج مع أبي من المنزل ذلك اليوم إلى حيث لم نكن نعلم ، مر بغرفة رغد و قد كانت مقيلة بعد الظهيرة,
    أظنه ظل ّ يبكي هناك لفترة طويلة ...
    فتش جيوبه ثم أخرج مجموعة من تذاكر ألعاب حديقة الملاهي ، و وضعها إلى جانبها كما وضع ساعة يده ... ثم قبل جبينها و غادر.

    أتى إلينا واحدا واحدا و جعل يعانقنا بحرارة و دموع مستمرة ...

    عندما سألت دانة :

    " إلى أين تذهب يا وليد ؟؟ "

    أجاب أبي :

    " سيسافر ليدرس كما تعلمون "

    الذي نعلمه أن موعد السفر لم يكن في ذلك اليوم ... و لو يكن قد تحدد

    إنني لم أعرف أنه في السجن غير اليوم التالي ، و قد أجبرت على كتم السر هذا عن الصغيرتين .

    صحيح أنني تمنيت أن يهلك عمّار لحظة أن سخر مني و جعل الناس من حولي يضحكون علي، إلا أنني لم أتمنى أن يكون شقيقي الأكبر و أخي الوحيد هو من يهلكه...

    خلال السنوات الماضية ، كثيرا ما كان الشجار ينشب بينهما و عراكنا الأخير لم يكن غير حلقة من السلسلة ...
    خاتمة السلسلة
    الحلقة الأخيرة ...

    فيما كنا جالسين في غرفة المعيشة بعد مغادرة أبي و وليد وصلنا صراخ غير طبيعي من غرفة رغد

    أسرعنا جميعا نحوها فوجدناها في حالة فظيعة من الذعر و الخوف ... و تصرخ " وليد ... وليد ..."

    تلت ذلك مرات و مرات و حالات و حالات من الذعر و الفزع و الانهيار التي أودت بصحة الصغيرة لأسابيع ...
    في كل يوم ، بل كل ساعة ، تقوم رغد بالاتصال بهاتف وليد لكن دون جدوى

    " لقد قال أنه سينتظر اتصالي كل يوم "

    لقد كانت تعتقد أنه سافر ..

    " أنا وفيت بوعدي ... يجب أن يفي بوعده "

    و الكثير من الهلاوس و الوساوس ... و التصرفات الغير طبيعية التي صدرت منها ...
    و بدلا من أن تكبر ... أظنها صغرت و عادت للوراء ست سنين ، أي كما جاءتنا أول مرة ...
    بكاء مستمر ، و خوف لا مبرر له ، تشبث جنوني بأمي ، حتى في النوم .
    رفضت الذهاب للمدرسة أول الأيام ، كثيرا ما كانت تدخل غرفة وليد و تستلقي على سريرة و تبدأ بالبكاء ثم الصراخ ، حتى اضطرت والدتي لقفل تلك الغرفة لحين إشعار آخر ...

    توالت الأيام ، و بدأت حالتها تهدأ شيئا فشيئا ، و تعتاد فكرة أن وليد لم يعد موجودا ، و أنه سيعود بعد زمن طويل ...

    أما تذاكر اللعب ، فحين أردت أخذها ذات مرة لتلهو في الحديقة ، رفضت ... و قالت :

    " سأذهب مع وليد حينما يعود "

    و أما الساعة ، فلا تزال تحتفظ بها بين أشيائها النفيسة ...

    " سأعيدها لوليد حين يعود "

    لأنه نقل إلى سجن العاصمة ، فإننا لاقينا بعض الصعوبات في زيارته ، خصوصا و أوضاع البلد تدهورت كثيرا و الحرب اشتدت و الدمار حل و انتشر و حطّم ما حطم من المباني و الأراضي و الشوارع ... و كل شيء ، و اضطررنا لترك منزلنا و الانتقال لمدينة أخرى ...

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    وفي الطرف الآخر من البلدة كان وليد يروي ما حل به...

    في كل يوم ، و بين الفينة و الأخرى يزج بشخص جديد إلى السجن .
    في الفترة الأخيرة ، كان معظم السجناء من مرتكبي الجرائم السياسية أو المتهمين بها ظلما .

    كنت أنا أصغر الموجودين سنا ، إذ أنني لم أبلغ العشرين بعد و كان وجودي بين السجناء مثيرا للاهتمام .

    تعرفت على ( زميل ) يدعى نديم .
    نديم هذا كان متهما بإحدى الجرائم السياسية و قد حكم عليه بسنوات طويلة من السجن و الحرمان من الحياة ...

    " و من يعتني بزوجتك و ابنتك الآن ؟ "

    سألته أثناء حديث لنا ، و هل كنا نملك غير الأحاديث ؟؟

    أجابني :

    " ليس لدي الكثير من الأقارب ، إلا أنني اعتقد أنهما ستلجأان إلى أخي غير الشقيق ( عاطف ) فهو مقتدر ماديا و يستطيع مساعدتهما ـ إن قبل "

    و اكتشفت فيما بعد ، أن عاطف هذا لم يكن غير والد عمّار الذي قتلته !
    الذي جعل الأمر يمر مرور الكرام هو أن نديم لم يكن على علاقة وطيدة بأخيه غير الشقيق عاطف او ابنه المتوفى عمّار ...
    و الذي حدث هو أننا مع الوقت أصبحنا صديقين حميمين رغم ذلك .

    لقد كان هو الداعم الوحيد لي و المشجع على عيشة السجن المريرة ...

    و أي مر ؟؟
    أي عذاب ؟
    أي ضياع ...؟؟

    في كل ليلة ، اضطجع على السرير الضيق المهترىء المتسخ ، عوضا عن سريري الواسع المريح ، و أغطي جسدي المنهك بأغطية بالية ممزقة ، بدلا من البطانيات الناعمة النظيفة ...

    اغمض عيني ّ و أفكر ... و أتذكر ... و أبكي ...

    أخرج الصورتين من تحت الوسادة القديمة المسطحة، و أحدق بهما ...

    هنا ، يقف أفراد عائلتي جميعا ، هذا أبي ... هذه أمي ... هذا شقيقي سامر ، و هذه الندبة التي شوّهت وجهه منذ ذلك اليوم ... و هذه دانة ... بضفيرتيها المتدليتين على كتفيها ...
    و هذه ... هذه ...
    من هذه ؟؟
    إنها دنياي ...
    حبيبتي الصغيرة المدللة ...
    طفلتي الغالية ...
    نبضة قلبي ... رغد
    تقف إلى جانبي ممسكة برجلي ...
    كانت تريد مني أن أحملها إلا أنني فضلت أن نلتقط الصورة و هي واقفة إلى جواري ...

    و في هذه الصورة ... مع دفتر تلوينها ...

    ما أجملها .. و ما أجمل شعرها الخفيف الناعم ... كم أحب أن أمسح على رأسها ... ما أنعم هذا الملمس ...

    مسحت بيدي ... شعرت بخشونة ...
    خشونة السرير الذي ألقي بجسدي عليه ...
    خشونة الواقع الذي أعيشه ...

    رفعت يدي و أخذت أحدق براحتي ...

    و أرى ما علق بها من غبار و حبات رمل تملأ السرير ...

    صرخت ...

    صرخت فجأة رغما عني ...

    " رغد ... أعيدوني إلى رغد ... أخرجوني من هنا ... "

    في الصباح ... أنهض عن سريري بكل كسل و كل ملل و إحباط
    فأنا سأنتظر دوري في طابور السجناء الذاهبين إلى دورات المياه ، ثم أخرج من ذلك المكان البغيض و أنا أشعر أنني كنت أكثر نظافة قبل دخولي إليه ، و أذهب إلى حيث يقدّم لنا فطور الصباح ... و أي فطور ...

    عوضا عن شاي أمي و أطباقها الشهية اللذيذة ، التي كنت أتناولها عن آخرها ، يقدم لنا مشروبا سيء الطعم ، لا أستطيع الحكم عليه بأنه شاي أو قهوة أو أي مشروب آخر ...

    و أجبر معدتي الجوفاء على هضم طعام رديء لا طعم له و لا رائحة ، حتى أنني أترفع عن مضغه و ازدرده ازدرادا ...

    و يبدأ يوم فارغ لا أحداث فيه ... تمر الساعة تلو الأخرى دون أن يكون هناك أي تغيير ... لا مدرسة أذهب إليها ... لا رفاق أتصل بهم ... لا أهل أتبادل الأحاديث معهم ... و لا أطفال أرعاهم و أعلمهم ... و لا رغد تظهر فجأة عند باب غرفتي و تقول :

    " وليــــــــــد ... لوّن معي ! "

    آه يا رغد ...

    ما الذي تفعلينه الآن ؟

    ما الذي فعلته بعد غيابي ؟

    هل يعتنون بك جيدا ؟؟

    رغد ...

    أكاد أموت شوقا إليك ...

    ليتك تقفزين من مخيلتي و تظهرين أمامي ، كما كان يحدث سابقا ....

    " أخرجوني من هنا ... أخرجوني من هنا .. "

    لو لم يكن نديم موجودا ، أظن ... أنني كنت سأصاب بالجنون .

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~


    اليوم سيأتي أهلي لزيارتي حسب الاتفاق .

    في مثل هذا اليوم أكون أنا محلقا في السماء و في حالة توتر مستمرة ...
    أهلي بعد أن كانوا يزورونني 3 مرات في الأسبوع ، اقتصروا على واحدة بسبب صعوبة الحضور و مشقة المشوار ...

    أذرع الغرفة ذهابا و إيابا في توتر شديد ... منتظرا لحظة مجيئهم .

    " ما بك يا وليد ! اجلس ! ألم تتعب من المشي ذهابا و عودة ؟ لقد أصبتني بالدوار ! "

    " لا أستطيع التوقف يا نديم ... والداي و أخي سامر سيحضرون في أية لحظة ! أنا مشتاق لهم كثيرا جدا "

    " على الأقل ... أنت لديك من يزورك ! أما أنا فلا علم لي بحال زوجتي و ابنتي ... ربما أصابهما مكروه "

    التفت إلى نديم و أنا مندهش من صبر هذا الرجل و قدرته على التحمل ...
    من هذا الرجل العظيم ، تعلّمت أشياء كثيرة ... و أدين له بالكثير ...

    قلت :
    " لا بد أنهما لم تحصلا على تصريح لزيارتك ... خصوصا و أنت ( مجرم سياسي ) و يخشى منك ! "

    ابتسم نديم ، و قال مازحا :

    " نعم ! فأنا ألعب بمصير دولة و شعب كامل ، لا رجل واحد ! لم لا تعمل معي بعد خروجنا من هنا ؟ "

    " بعد خروجي من هنا ، فإن آخر شيء أفكر به هو العودة ! أبقني بعيدا عن السياسة و الدولة و الشعب ... إنني فقط أريد العودة إلى أهلي ... "

    نعم ، فمن يجرّب عيشة كهذه لا يمكن أن يسلك طريقا قد يعيده إليها .

    هنا ، فُتح الباب ، فاقشعر بدني و تأهبَت أذناي لسماع ما سيقوله الحارس ...
    ربما جاء دوري للزيارة ...

    وقفنا جميعا ، أنا و نديم و جميع من كان معنا لدى سماعنا جلبة و ضوضاء قادمة من ناحية الباب ، و من ثم رؤيتنا للحراس و الضباط يدخِلون ثلاثة من الرجال المكبلين بالحديد إلى داخل السجن ، و يدفعون بهم دفعا و ينهالون عليهم بالضرب العنيف ...

    لقد كان مشهدا مريعا هزّ قلوبنا جميعا ، و حين قاوم أحدهم رجال الشرطة و حاول مهاجمته ، رُمي بالرصاص ... و خر صريعا .

    حمل بعض الحراس الجثة و أبعدوها خارج الزنزانة ، فيما واصل بعضهم ضرب الرجلين الآخرين حتى أفقدوهما الوعي ...

    كان منظرا فظيعا جفلت أفئدتنا و اكفهرت وجوهنا لدى رؤيته ...

    ترك الضباط و الحراس السجينين الجديدين ، و غادروا .

    وقفت جامدا في مكاني لا أقوى على الحراك ، بعد أن كنت في قمة النشاط و الحركة ، أجول بالغرفة دون سكون ....

    اقترب بعض الزملاء من الرجلين و حملوهما إلى سريرين متجاورين ، و اعتنوا بهما حتى أفاق أحدهما ، و علمنا منه أنهم ـ أي الثلاثة ـ ( متهمون بجرائم سياسية ) و محكوم عليهم بالإعدام .

    أخبرنا المجرم الجديد هذا عن الأوضاع التي ازدادت تدهورا بشكل كبير جدا ، و أنه تم القبض على مجموعة كبيرة جدا من الشبان بتهم سياسية مختلفة و زج بهم في السجون ، في انتظار حكم الموت ، و أن عدد القتلى من جنود الحرب و كذلك من عامة الناس في ازدياد مطرد ، و أن الحرب حامية الوطيس و المقابر ممتلئة و الفوضى تعم البلاد ...

    بقيت واقفا عند الباب انتظر ... الوقت يمر و أهلي لم يحضروا ... فهل أعاقهم شيء ؟ أم هل أصابهم مكروه لا قدّر الله ؟

    نديم كان يراقبني ، و كلما التفت إليه التقت نظراتنا ، أنا في قلق ، و هو يصبّر ... و كلما التفت إلى الناحية الأخرى ، وقع بصري على الدماء المراقة على الأرض ... فأرفع بصري في ذعر نحو السقف ، فأرى مجموعة من حشرات الجدران تتجوّل بلا رادع ...

    فأشعر باختناق في صدري ، و أحاول شهق نفس عميق ، فتنجذب إلى أنفي روائح كريهة مختلطة ، مزيج من روائح العرق ... و الدماء ... و الأنفاس ...
    و بقايا الطعام المتعفن في سلة المهملات ... و دخان السيجارة التي يدخنها الحارس خلف الباب ...

    " أين والداي ؟ لماذا لم يحضرا ؟ أخرجوني من هنا ... لم أعد أحتمل ... أخرجوني من هنا ... "

    انهرت و أنا أبكي كطفل أضاع والديه في متاهة ، فأقبل نديم نحوي يواسيني ، بينما أطلق مجموعة من السجناء هتافات الانزعاج و الاستياء أو السخرية مني و من بكائي و نحيبي المتكرر ...

    إنني ابن العز و النعمة و الرخاء ...
    و قد تربيت في بيت نظيف وسط عائلة راقية محترمة ... كيف لي أن أتحمّل عيشة كهذه ، و لدهر طويل ، لمجرد أنني قتلت شخصا يستحق الموت ؟

    لم يحضر والداي في ذلك اليوم ، و لا اليوم الذي يليه ، و لا الأسبوع الذي يليه ، و لا الشهر الذي يليه ، و لا السنين التي تلته واحدة تلو الأخرى ....

    أصبحت منقطعا بشكل نهائي عن أهلي و عن الدنيا بأسرها
    اعتقد أن مكروها قد ألم بهم ، و لا أستبعد أن يكونوا قتلوا في الحرب ...

    الشخص الوحيد الذي حضر لزيارتي بعد عامين كان صديقي القديم سيف .

    " لا أصدق أنك تذكرتني ! لا بد أنني أحلم ؟ "

    قلت ذلك ، و أنا مطبق بكل قوتي على صديقي ، كمن يمسك بخيال يخشى ذهابه ...

    " لم أنسك أيها العزيز ... إنني عدت للبلد بصعوبة قبل أيام ، فكما تعلم كنت مسافرا للدراسة في الخارج ... أوضاع البلد لم تسمح لي بالعودة قبل الآن "

    سألته بلهفة و خوف :

    " و أهلي ؟ عائلتي ؟ ما هي أخبارهم ؟؟ أما زالوا أحياء ؟ لماذا لا يزورونني ؟ "

    سيف طأطأ برأسه و تنهد بمرارة ، فأغمضت عيني ّ و وضعت يدي فوقهما لأتأكد من أن الخبر المفجع لن يصلني ...

    سيف ربت على كتفي و قال :

    " لا علم لي بأخبارهم يا وليد ... إذ يبدو أنهم اضطروا للرحيل عن المدينة و ربما سافروا لمكان بعيد ... و لم يتمكنوا من العودة ... "

    تأوهت ...
    و شعرت بشيء يخترق صدري فتألمت ... تهت بعيدا ...
    هل انتهى كل شيء ؟
    أمي و أبي ...
    سامر و دانة ...
    و الحبيبة رغد ...
    حياتي كلها ...
    هل انتهى كل ذلك ..؟؟

    شعر سيف بألمي فعانقني بعاطفة ملتهبة ... و قال :

    " سأحاول تقصي أخبارهم يا وليد ... الدنيا في الخارج مقلوبة رأسا على عقب ... ربما تكون أنت قد نجوت بدخولك هذا السجن ! "

    أبعدت سيف عني قليلا بما يسمح لأعيننا باللقاء ...

    قلت :

    " أريد أن أخرج من هنا ... "

    أمسك سيف بيدي و شدّ عليها ... عيناه تقولان أن الأمر ليس بيده ...

    قلت :

    " سيف ... سيف أنت لا تعلم كم الحياة هنا سيئة ! إنهم ... إنهم يا سيف يضعون الحشرات عمدا في طعامنا و يجبروننا على قضم أظافرنا ... و المشي حفاة في دورات المياه القذرة !
    سيف ... إنهم لا يوفرون لنا الأشياء الضرورية كالمناديل و شفرات الحلاقة !
    أنظر كيف أبدو ؟ ألست مزريا ؟
    عدا عن ذلك ، فهم يضربون و بعنف كل من يبدي استياء ً أو يتذمر !
    زنزانتي يا سيف ... لا يوجد فيها فتحة غير الباب المقفل ... لا هواء و لا نور إنني مشتاق إلى الشمس ... إلى الهواء النقي ... إلى أهلي ... إلى الحياة ... إلى كل شيء حرمت منه ... أبسط الأشياء التي تجعلني أحس بأنني بشر ... مخلوق كرّمه الله ! إلى ... فرشاة أسنان نظيفة أنظّف بها أسناني ! "

    و لو كنت استمررت في وصف حالي له ، لكان فقد وعيه من الذهول ... إلا أنني توقفت حين شعرت بيده ترتخي من قبضها على يدي و رأيت الدموع تتجمع في مقلتيه منذرة بالهطول ...

    أغمضت عيني ّ بحسرة و أنا أتخيل و أقارن بين حياتي في البيت ، و حياتي في هذه المقبرة ... و جاء طيف رغد و احتل مخيلتي ...
    الآن ...
    أراها و هي تقول في لقائنا الأخير :

    " لا ترحل ... لا تتركني "

    و تتلاشى هذه الصورة ، ثم تظهر صورتها و هي مذعورة و ترتجف بين ذراعي ، ذلك اليوم المشؤوم ....

    ثم تظهر صورة عمّار ، و ابتسامته الخبيثة لحظة رميه الحزام في الهواء ...

    " إلى الجحيم ... "

    قلت دون وعي مني :

    " كان يجب أن أقتله ... و لو يعود للحياة ... لقتلته ألف مرّة ... "

    انتبه صديقي سيف من شروده و تخيله لحالتي الفظيعة ، قال :

    " لماذا ؟ "

    نظرت إليه ، بصمت موحش ... فعاد يقول :

    " لماذا يا وليد ؟... الذي دفعك لأن ترمي بنفسك في حياة كهذه لابد أنه ...؟؟ "

    و لم يتم جملته ، استدرت موليا إياه ظهري ...
    تماما كما استدرت حين سألني يوم الحادث .

    سيف لم يصبه اليأس مني ... قال :

    " أخبرني يا وليد ... فقد يكون أمرا يقلب الموازين و يخرجك من هنا بمدة أقصر ... والدي أكد لنا ذلك فيما مضى و قد يستطيع إعادة النظر في قضيتك بشكل ما ... "

    بدا و كأن قلبي قد تعلّق بأمل الخروج ... و البحث عن أهلي و العودة إليهم ...
    و لكن ... ألم يفت الأوان ...؟؟

    " وليد ... "

    استدرت لأواجه سيف ... كانت نظرات الرجاء تملأ عينيه ... إنه الوحيد الذي أتى ليزورني من بين أصحابي و أهلي و الناس أجمعين ...

    " لماذا يا وليد ...؟ "

    " سيف ... "

    " كنتَ على وشك الوصول لقاعة الامتحان ... ما الذي أخبرك به ، ثم أجبرك على ترك الامتحان و الذهاب إلى تلك المنطقة ؟ و بالتالي ... قتله ؟؟ "

    " كان يجب أن أقتله ... "

    " لماذا قل ؟ أخبرني ... "

    " لأنه ... "

    " أجل ..؟؟ "

    " لأنه ... ... لأنه اختطف صغيرتي رغد ... و هددني بإيذائها ما لم أسرع بالحضور لتلك المنطقة ... "

    أصيب سيف بالذهول ... و اتسعت حدقتا عينيه و انفغر فاه مصعوقا ...

    قال ، دون أن تتلامس شفتاه :

    " و ... ؟ "

    " و انتهى كل شيء .... "



    الحلقةالثامنة


    ذات يوم ...
    و فيما كنا أنا و نديم و بعض شركاء الزنزانة نسلي أنفسنا باللعب بالحصى ، و هي لعبة سخيفة اخترعناها من أجل قطع الوقت الذي لا ينتهي ، و كنا نسر أو نتظاهر بالسرور أو نقنع أنفسنا به ، فتح الباب و دخل مجموعة من العساكر .

    توقفنا جميعا عن اللعب ، و انسابت أنظارنا نحوهم . لم نكن نشعر بأي طمأنينة لدى دخول إي منهم ... فمجيئهم ينذر بالشر و الخطر

    بدأ العساكر يجولون بأبصارهم فيما بيننا بازدراء و تقزز . ثم تقدم أوسطهم خطوة للأمام و قال :

    " نديم وجيه "

    و جعل ينقل بصره من واحد لآخر ...

    نديم أجاب بعد برهة :

    " أنا "

    استدار العسكري إلى رفاقه و أومأ إليهم

    تقدّم اثنان منهم و أقبلا نحو نديم ... و قالا بحدة :

    " انهض "

    نهض نديم ببرود ، فإذا بهما يطبقان عليه بشراسة و يقودانه نحو الباب ...
    نديم سار معهما دون مقاومة ، فيما كانت أفئدتنا وجلة متوقعة شرا .
    لم ينبس أحدنا ببنت شفة ، و بقينا في صمت رهيب و نحن نراقب نديم بقلق ، فيستدير هذا الأخير ليلقي علينا نظرة و يبتسم ...
    خرج العساكر بنديم و أقفلوا الباب و بقينا في صمت فظيع لبضع دقائق ...
    كنت أنا أول من أصدر صوتا اخترق جدار الصمت الموحش حين قلت :

    " إلى أين أخذوه ؟ "

    هز البقية رؤوسهم في حيرة و تساؤل ...

    مضت ساعتان أو أكثر و نحن في هدوء و قلق ... في انتظار عودة نديم و بدا أنه لن يعود ..
    بدأت أذرع الزنزانة ذهابا و جيئة و أنا أدعو الله ألا يكون نديم قد أعدم ...
    و بينما أنا كذلك ، إذا بالباب يفتح مجددا ، و يدخل اثنان من العساكر يحملان نديم و يلقيان به أرضا ، ثم ينصرفان ...

    أقبلنا بسرعة نحو نديم فإذا بالدماء تلطخ جسمه و ملابسه...
    و إذا بالجروح و الكدمات الملتهبة تغطي جسده ...

    " نديم ! ماذا فعلوا بك ؟؟ "

    صرخت في ذعر و أنا أرفع رأسه و أسنده على ركبتي ...
    لم يكن نديم بقادر على الكلام من شدة الإعياء
    و كان جليا لنا أنه تعرض لتعذيب شديد ...
    تناوبنا جميعا في العناية به حتى بدأت الحياة تجري في عروقه .
    أخبرنا فيما بعد بأنهم أوسعوه ضربا من أجل الإدلاء بمعلومات لا علم له بها ...
    و أنهم في طريقهم لإعدامه حتما

    في اليوم التالي ، حضر العساكر أيضا ، و ما أن دخلوا السجن حتى ارتعشت قلوبنا جميعا و اشرأبت أعناقنا و تعلقت أبصارنا بهم في حالة لا توصف من الذعر
    في تلك اللحظة كنت أجلس جوار نديم أنظف بعض جروحه و بلا شعور مني أمسكت بذراعه بقوة خشية أن يأخذوه ...

    هتف أحدهم :

    " معتز أنور "

    انتفضنا جميعا ، و كان معتز ، و هو أحد زملاء الزنزانة ، و أحد مجرمي السياسة، أكثرنا انتفاضا و ذعرا

    صرخ معتز بفزع :

    " لا "

    و تقدم العساكر نحوه ، و هو يتراجع للوراء و يداه ترتجفان و العرق يغرق جسمه الهزيل ...
    تقدم العساكر بلا رحمة و أمسكوا به و هو يصرخ و يقاوم في عجز ، و قادوه خارجا .
    و ما هي إلا ساعة و نصف الساعة ، حتى أعيد إلينا بحالة سيئة ، مليئا بالجروح و الكسور أيضا .

    أصبحنا نعيش حالة مستمرة من الخوف الشديد ، و لم يستطع أحدنا النوم بعدها . و أصبحنا لمجرد سماعنا لأي صوت يصدر من ناحية الباب ، يركبنا الفزع المهول

    و جاء اليوم التالي ، و جاء العساكر مجددا ...
    كنا جميعا متكومين قرب بعضنا البعض ، و أعيننا محدقة بهم ، و كل منا في خشية من أن يكون التالي ...

    " وليد شاكر "

    عندما نطق باسمي صعقت ، بل و صعق جميع من معي ...
    أخذ قلبي يخفق بعنف ، و أنا أراقب العساكر يتقدمون نحوي خطوة خطوة

    صرخت :

    " لكنني لست على علاقة بالسياسة "

    لم أكد أنهي جملتي إلا و العساكر قد أمسكوا بي ...
    حاولت سحب يدي من بين أيديهم بكل ما استطاعت عضلاتي إمدادي به القوة ...
    و فشلت ...

    " أنا هنا لجريمة قتل ... لا شأن لي بالسياسة "

    حاولت مستميتا التخلص منهم و مقاومتهم دون جدوى
    قادوني عنوة نحو الباب و لم يستطع أحد زملائي النطق بكلمة واحدة
    و أنا أسحب إلى الخارج نظرت إلى نديم و قلت :

    " ماذا سيفعلون بي ؟ ما الذي فعلته أنا ؟ "

    نديم أغمض عينيه بقوة ، في أسف و ألم و كأنه يقول : أرثي لك ، ويل لك مما ستلقى ...

    و لقيت ، ما لم ألقه في حياتي مطلقا ...

    لقيت...

    أصنافا من العذاب التي أتوجع و أتلوّى من مجرد ذكرها ...
    عذابا ... ينسي المرء اسمه و جنسه
    تمنيت ساعتها ، لو أن أمي لم تلدني
    لو أنني قتلت نفسي يوم قتلت عمّار
    لو أن الله خلقني بلا أعصاب و إحساس ...
    و لا قلب ...
    و لو أن الدنيا خلت من اسم العذاب
    و اسم السجون
    و حتى من اسم رغد ...

    الأوقات الوحيدة في حياتي كلها ، التي تمنيت فيها لو أن رغد لم تكن ... و لم توجد ...

    أصبت بكسر في أنفي جعل شكله يتغير و تظهر انحناءة صغيرة أعلاه .

    بقيت ممدا على سريري بلا حراك ليومين ، كان فيها من بقى من زملائي سالما يعتني بي ، و بنديم و معتز ، و اثنين آخرين ...

    بعدها بأيام ، علمنا من الحارس أن اسمي قد أدرج خطأ ضمن قائمة المجرمين السياسيين !
    مجرد خطأ ... !

    كان ذلك بعد عدة أشهر من زيارة سيف الأولى و قبل أشهر أخرى من زيارته التالية و التي ابتدأها بقول :

    " وليد ! ماذا فعلت بأنفك !؟ "

    سردت على سيف ما حصل ، و وعدني بان يتم ذكر هذا في ملفي .
    عندما سألته عما جد في موضوعي أخبرني بأن والده لا يزال يدرس الأمر ، و لدى سؤالي عن أهلي قال :

    " اختفوا ! "

    زاد ذلك ضيقي و إحباطي الشديدين و قضى على بقايا الأمل بالخروج من هذا المكان ...
    بدأت أؤمن بأنهم قد قتلوا جميعا في الحرب ... و إن كان الأمر كذلك ، فإنني لا أرغب في الخروج ...
    بل أرغب في الموت ....
    أحقا لم يعد لأهلي أي وجود ؟؟
    أماتوا ؟
    أم تخلوا عني ؟
    أم ماذا ؟؟
    و رغد ؟؟
    ماذا حل برغد ؟؟

    في تلك الليلة ، رأيت كابوسا أفزعني ...

    رغد و سامر يلهوان بالدراجة الهوائية ، ثم يهويان في حفرة مليئة بالجمر المتقد
    ثم تشتعل النيران و تكبر ، و تحرق منزلنا ...
    و آتي صارخا أحاول إخراج رغد من الحفرة ...
    و أمد يدي فإذا بي أخرج حزاما طويلا تأكله النيران ...
    و أقرب وجهي من الحفرة ، فإذا بي أرى وجه عمّار في الداخل ، يبتسم ثم يقهقه
    و أسمع صراخا يدوي السماء
    صراخ رغد ...

    " و ليـــــــــد ... أنا خائفة ... تعال "

    أفقت من نومي مذعورا ، و العرق يبلل ملابسي و فراشي ، كما تبلل الدموع وجهي المفزوع ...

    كنت أرتجف ، و أتنفس بصعوبة بالغة ... و بلا إدراك اهتف

    " رغد ... رغد "

    صديقي نديم أقبل نحوي و أخذ يهدئني و يطمئنني ...

    " هوّن عليك يا وليد ... لم يكن إلا كابوسا "

    لم أشعر بنفسي و أنا ارتمي على صدر نديم و أبكي بقوة و أهذي ...

    " أريد العودة لأهلي ... دعوني أراهم و لو مرة واحدة ثم اقتلوني ... لا أريد الموت قبل ذلك ... أريد أن أحقق أحلامي ...
    أريد أن أكمل دراستي ...
    أريد العودة إلى رغد ...
    كان يجب أن أقتله ...
    انتظريني يا رغد فأنا قادم ... "

    و نهضت كالمجنون ... و توجهت نحو الباب و أخذت أضربه بعنف و أصرخ :

    " أخرجوني من هنا ... أخرجوني من هنا أيها الأوغاد "

    لحق بي نديم ليمنعني من إثارة مشكلة ألا أنني أبعدته عني بركلة قوية من رجلي ... و ظللت أركل الباب بشدة و أنا مستمر في الصراخ ...

    حضر مجموعة من الحراس و فتحوا الباب ، ثم انهالوا علي ضربا بعصيهم حتى شلوا حركتي ... و انصرفوا ...
    لم يجرؤ أحد السجناء على فعل شيء حتى لا يلقى ذات المصير
    و منع عني الطعام في اليوم التالي
    تدهورت صحتي الجسدية و النفسية بشدة بعد تلك الليلة ، و قضيت عدة أسابيع طريح الفراش ...
    و ربما هذا ما منع العساكر من تطبيق نظام التعذيب اليومي على جسدي ...
    إلا إن أدركوا أنهم كانوا مخطئين !
    جسدي ، و الذي كان ضخما و قويا ، تحول إلى عظام متراكمة فوق بعضها البعض
    بلا حول و لا قوة ...

    بعد فترة وجيزة ، صدر قرار يمنع زيارة السجناء ، و لم يعد سيف للظهور مجددا

    و انتهى أملي الوهمي بالخروج من هنا ....

    و استسلمت أخيرا لحياة السجون ....

    حاولت أن أصف لكم بعض الذي قاسيته في ذلك السجن الذي قضيت فيه فترة شبابي اليافع ... و التي ضاعت سدا ...
    فترة جافة قاسية أكسبتني جفافا و خشونة لم أولد بهما و لم أتربى عليهما
    و غيرت في بعض طباعي ، و بدأت أدخن السجائر
    كان الحارس يتصدق علينا بسيجارة واحدة ، ندور بها فيما بين شفاهنا جميعا ...
    و تقتسم همومنا و نقتسم سمومها ....


    و مر عام آخر ...
    و أكثر ...
    ألمّ المرض بصديقي نديم من جراء التعذيب المستمر ...
    كان على فراشه ، و كنت اعتني بجروحه و إصاباته التي شملت حتى أطراف أصابعه ...

    " وليد .. "

    " نعم يا عزيزي ؟ "

    " يجب أن تخرج من هنا ... "

    قال نديم ذلك ثم رفع يده و مسح على رأسي ، ثم وضعها فوق كتفي .

    " يجب أن تخرج من هنا يا وليد و إلا لقيت حتفك "

    " إنني هالك لا محالة ... لا جدوى و لا أجمل ... "

    " افعل شيئا يا وليد و غادر هذا المكان ... إنك لا زلت شابا صغيرا ... "

    كنت الأصغر سنا بين الجميع ، و أكثرهم تذمرا و شكوى ، و بكاءا ، إلا أنني هدأت و استسلمت لما فرضته الأقدار علي ... و لم يعد الأمر يفرق معي ...
    ابتسمت ابتسامة استهتار و سخرية ، و يأس ...
    نديم كان ينظر إلي بعين عطف شديد و محبة أخوية ... قال :

    " اسمعني يا وليد ...
    لدي مزرعة في المدينة الشمالية ، حيث كنت أعيش مع ابنتي و زوجتي ... متى ما خرجت من هنا ... فاذهب إليهما و أخبرهما بأنني كنت أفتقدتهما كثيرا و أنني بقيت على أمل العودة إليهما دون يأس لآخر لحظة في حياتي ... "

    " نديم ... "

    قاطعني قائلا :

    " لا تنس ذلك يا وليد ... و إن احتاجتا مساعدة منك ... فأرجوك ... ابذل ما باستطاعتك "

    أقلقتني الطريقة التي كان نديم يتحدث بها ، هززت رأسي و قلت :

    " لماذا تقول ذلك يا نديم ...؟ "

    و انتظرت أن يجيب

    لكنه لم يجب ...

    و تحركت يده الممدودة على كتفي ، ثم هوت للأسفل ... و ارتطمت بالفراش ... و سكنت سكون الموت ...



    إنا لله ... و إنا إليه راجعون ....



    بعد سنتين من ذلك ...
    و في أحد الأيام ...
    و فيما أنا مضطجع على سريري بكسل و عدم إكتراث ، أدخن بقايا السيجارة بلا مبالاة ، و انظر إلى السقف و أرى الحشرات تتجول دون أن يثير ذلك أي اهتمام لدي ...
    إذا بالباب يفتح ، ثم يدخل بعض الضباط
    معظم زملائي وقفوا في قلق ...
    أما أنا ، فلم أحرك ساكنا ... و بقيت أراقب سحابة الدخان التي نفثتها من صدري ترتفع للأعلى ... و تتلاشى ...

    " وليد شاكر "

    هتف أحد الضباط ...
    فقمت بتململ و التفت إليه ببرود
    لم يعد يهمني إن كان لدي أي درس جديد في الضرب أو غيره ...

    عاد الضابط يهتف بحدّة :

    " وليد شاكر "

    نهضت عن فراشي و وقفت ازاء الضباط و أجبت بضجر :

    " نعم ؟ "

    و أقبل بعضهم نحوي ، فرميت بالسيجارة أرضا و سحقتها باستسلام ...
    أمسكوا بي و قادوني نحو الباب ، فسرت بخضوع تام ...
    عندما صرت أمام الضابط الذي ناداني ، رمقني بنظرة احتقار شديدة
    و هي نظرة قد اعتدت عليها و لم تعد تؤثر بشعوري ...

    قال :

    " وليد شاكر ؟ "

    أجبت :

    " نعم أنا ، و لا علاقة لي بالسياسة ، أرجو أن تتاكد من ذلك جيدا "

    رفع الضابط يده و صفعني على وجهي صفعة قوية كادت تكسر فكي ...

    ثم قال :

    " هذه تذكار "

    التفت إلى زملائي و عيني تقدح بالشر ، و قابلتني نظراتهم بالتحذير ...
    فكتمت ما في صدري ، ثم قلت :

    " ثم ماذا ؟ "

    ابتسم الضابط ابتسامة خبيثة دنيئة ، ثم قال :

    " لاشيء ! فقط ... أفرجنا عنك "
    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~


    و غدا أروي لكم حلقتان جديدتان ان شاء الله
    Tarek
    Tarek
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى


    المساهمات : 458
    تاريخ التسجيل : 09/11/2009

    رواية.. أنت لي Empty رد: رواية.. أنت لي

    مُساهمة  Tarek الإثنين 4 يوليو 2011 - 5:59

    يلا بقى كمل احسن انت شوقتنى اعرف النهايه ايه
    روايه جميله جدا
    تسلم الايادى
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty الحلقة التاسعة و الحادية عشر

    مُساهمة  littledoctor الإثنين 4 يوليو 2011 - 8:42


    الحلقةالتاسعة
    ****************


    أخيرا جاء دوري !

    صرتم تعرفونني جميعا ...

    اسمي رغد ، و أنا يتيمة الأبوين أعيش في بيت عمّي الوحيد شاكر منذ الطفولة .
    أنهيت دراستي الثانوية مؤخرا و أفكر في الالتحاق بكلية للفنون و الرسم . أعشق الرسم كثيرا و أنا ماهرة فيه .
    الجميع يعرفني برغد المدللة ، حيث أنني تعودت منذ الصغر الحصول على كل ما أريد ، و بأي طريقة !
    اليوم نقيم في منزلنا الصغير حفلة متواضعة بمناسبة تخرجي من المدرسة الثانوية . لم يتسن لنا إقامتها قبل الآن لأن والدتي ـ أي زوجة عمي ـ كانت متوعكة الصحة .
    في الواقع ، صحة والدتي ليست على ما يرام منذ سنين ...

    دانه تبالغ في وضع المساحيق لتبدو ملفتة للنظر !

    رغم أنها لم تكن ترحب بفكرة الحفلة ، إذ أننا لم نقم حفلة عند تخرجها ، إلا أنها مصرة على سرقة الأضواء مني هذه الليلة !

    " إنها حفلة بسيطة و لا تقتضي منك كل هذا ! تبدين كعروس بكامل زينتها ! "

    قلت لها و أنا واقفة أراقبها و هي ( مزروعة ) أمام المرآة منذ ساعات !

    لم تلتفت إلي ، و قالت :

    " ما دمنا قد دعوناهن، فلنبهرهن ! قد تعجب بي إحداهن فتخطبي لأخيها مثلا ! "

    و ابتسمت بدهاء !
    أنا أعرف من تقصد تحديدا ... لديها صديقة من عائلة ثرية جدا و شقيقها رجل تحلم نصف فتيات العالم بالزواج منه ، أما النصف الآخر فيبغضه بشدة !
    إنه لاعب كرة قدم مشهور و صوره تملأ الصحف و المجلات و برامج التلفاز أيضا!

    قلت :

    " لا أعرف ما الذي يعجبكن في شخصية كهذه ! إنه حتى لا يتوقف عن توزيع الضحك و الابتسامات و كأنه مهرج ! "

    نظرت إلي بحدة من خلال المرآة ، ثم قالت :

    " على كل ٍ ، الأمر لا يعنيك فأنت أخذت نصيبك و انتهى دورك ! "

    ثم انشغلت بتزيين خصلة من شعرها بسائل ملمّع ...
    صرفت نظري عنها ، إلى يدي اليمنى ، بالتحديد إلى إصبعي البنصر ، و بمعنى أدق ، إلى خاتم الخطوبة الذي أضعه منذ سنين ...

    بمجرد أن بلغت الرابعة عشر من عمري أي قبل ثلاث سنوات و أكثر ، تم عقد قراني على ابن عمي سامر ...
    و بقينا مخطوبين حتى إشعار آخر .
    سامر ... يكبرني بخمس سنوات تقريبا ، و ما أن تخرج من الثانوية حتى بادر بطلب الزواج مني
    والدي ، بل و والدتي و دانة أيضا ... الجميع كان يريد ذلك ، فأنا أصبحت فتاة بالغة و لم يكن من الممكن بقائي و ابن عمي في بيت واحد دون حرج على كلينا
    عدا عن ذلك ، فإن سامر يحبني بجنون !
    كما و أنني كنت السبب في الحادث الذي شوه وجهه ، و قلل فرصه لنيل إعجاب الفتيات قطعا
    أما أنا ، و بالرغم من كوني جميلة أيضا ، إلا أن هذا الخاتم يصرف الجميع عن الالتفات إلي ...
    على أية حال نحن لا نفكر في الزواج الآن فسامر لا يزال يبحث عن وظيفة و أنا أطمح إلى الحصول على شهادة جامعية ...

    نبهتني دانة من شرودي الذي لاحظته من خلال انقطاعي عن التعليق المستمر على مظهرها

    قالت :

    " أين سرحت ؟ ألن تبدلي ملابسك ؟ إنهن على وشك الوصول ! "

    غادرت غرفتها و اتجهت إلى غرفتي ، حيث ارتديت فستاني الجديد الرائع ... و الذي أضطر والدي لشرائه لي رغم ارتفاع ثمنه ، فقط لأنني قلت : أريده لي !
    كان فستانا خمري اللون مطرزا بخيوط ذهبية ، طويل الذيل ، و بدون كمّين ، مما يسمح للندبة القديمة في ذراعي اليسرى بالظهور ...
    أكملت زينتي و تحليت بطقم العقد الذهبي الذي أهدتني إياه والدتي قبل أيام ...
    حينما لففت السوار حول معصمي الأيسر ، لم يبدُ منظره متناسقا مع الساعة ...
    إذ أن السوار ذهبي بينما الساعة فضية اللون ...
    هممت بخلعها ، لكنني لم أستطع ... لا أريد أن أبقيها بعيدة عني في هذه الليلة ...
    لطالما كانت قريبة مني و ملتصقة بي ...
    لم أكن آبه لتعليقات زميلاتي المزعجة حول ارتدائي لساعة رجالية !
    إنها شيء لا أستطيع التخلص منه ... تماما كهذه الندبة !
    نزعت السوار الذهبي ، و حاولت لفه حول معصمي الأيمن ففشلت !

    " سحقا ! "

    صحت بغضب ، في ذات اللحظة الذي طرق فيها الباب ...
    لابد أنها دانه جاءت تقارن بين مظهرينا كالعادة !

    " ادخل "

    قلت ذلك و أنا مازلت أحاول إغلاق السوار بيدي اليسرى حول معصمي الأيمن دون جدوى

    " مساء الخير ! "

    لم يكن هذا صوت دانه ، بل سامر

    رفعت بصري إليه و باندفاع قلت :

    " سامر ، هل لا أغلقت هذه قبل أن أحطمها ؟ "

    و أقبلت نحوه أمد إليه بمعصمي الأيمن و بالسوار ...

    " رويدك ! هاتي .. "

    و أغلق السوار حول يدي اليمنى ، فسحبتها إلا أنه أمسك بها و قال :

    " تبدين رائعة ! جدا "

    تورد خداي خجلا .. ثم قلت :

    " مساء النور ... ! هل قلت ذلك ؟ "

    ابتسم ، و قال :

    " لا أظن ! "

    " إذن مساء النور ! "

    ثم سحبت يدي فأطلقها
    توجهت إلى سريري ألملم الأشياء التي بعثرتها أثناء تزيين نفسي ، و دخل سامر و أغلق الباب ...

    " رغد "

    ناداني بصوت مرح و بابتسامة مشرقة ، و سعادة تملأ عينيه

    " نعم ؟ "

    أقبل نحوي ، و عاد يمسك بيدي و قال :

    " لدي خبر سار جدا "

    ابتسمت و قلت :

    " هات ؟ "

    " لقد عثرت على فرصة ذهبية للعمل في وظيفة مرموقة "

    فرحت كثيرا ! قلت بسرور :

    " حقا ! أوه أخيرا ... ممتاز ! "

    شد سامر قبضته على يدي و قال منفعلا :

    " أخيرا ! كم أنا سعيد و لا يتسع صدري لفرحتي هذه ! سأحصل على راتب عظيم ! "

    بالنسبة لنا فهذا شيء مهم جدا ، لأن أحوالنا المادية كانت في انحطاط بسبب ظروف الحرب ، و كنا بحاجة لدعم مادي جيد .

    قلت :

    " متى تباشر العمل ؟ "

    " حالما أنهي الإجراءات اللازمة . سأحاول إتمامها خلال يومين أو ثلاثة "

    " وفقك الله "

    قرب سامر يدي من صدره ، و قال :

    " يجب أن نحدد موعد الزواج "

    تفاجأت ، فنحن لم نتحدث عن الزواج بجدية بعد ...
    حالما رأى سامر علامات التعجب ظاهرة على وجهي قال :

    " عملي سيكون في مدينة أخرى ، و أريد أخذك معي "

    سحبت يدي مجددا ، في توتر ..

    فالخبر قد فاجأني ، و لم يعجبني ... قلت :

    " في مدينة أخرى ؟ ... لم عليك الذهاب لمدينة أخرى ؟ "

    قال :

    " تعرفين كم هو صعب العثور على وظيفة جيدة بسبب ظروف البلد ... إنها فرصة لا يمكنني رفضها مطلقا . أخبرت والدي ّ فشجعا ذهابي "

    صرفت نظري عنه إلى الأرض بضع ثوان ، ثم عدت أنظر إليه و قلت :

    " و شجعا زواجنا ؟ "

    ابتسم ، و قال :

    " لم أذكر ذلك لهما بعد . أود أن نناقش الأمر نحن أولا "

    من البرود الذي اعترى تعابيري أدرك سامر عدم موافقتي ، فقال :

    " لم لا ؟ "

    قلت :

    " و الكلية ؟؟ "

    قال :

    " الكلية ... هل هناك ضرورة لها ؟ "

    " بالطبع ... أريد أن أدرس ، إنها فرصتي "

    صمت سامر قليلا ، ثم قال :

    " اصرفي نظر عنها يا رغد أرجوك ... أنا لا أريد تضييع الفرصة ، كما لا أريد العيش وحيدا هناك ... تعلمين أنني لا أستطيع الابتعاد عنك ... "

    و أخذ ينظر إلى نظرات رجاء و أمل ...
    كنت على وشك قول : لنؤجل النقاش في الأمر لوقت أنسب لأن ضيفاتي على وشك الوصول ، إلا أن طرق الباب سبقني ، و دخلت دانة مباشرة و هي تقول :

    " رغد ! ألم تنتهي ؟ وصلت نهلة ! "

    التفتنا أنا و سامر نحو دانة ، و التي أخذت تحدق بي قليلا ثم التفتت إلى سامر و قالت :

    " أنت هنا سامر ؟ قل لي كيف أبدو ؟ أليس فستاني أكثر جمالا من فستان رغد ؟ "

    سامر أخذ يدور ببصره بيننا ثم قال مداعبا :

    " أنا لا أصلح للحكم بين خطيبتي و أختي ! فخطيبتي ستبدو أجمل في كل مرة ! "

    ثم انصرف مسرعا و هو يضحك .
    بقينا نحن الاثنتان كل منا تتأمل الأخرى ، حتى وقعت عينا دانه على ساعة يدي ، فقالت بحدة :

    " رغد ! ستبدين في منتهى السخافة هكذا ! اخلعيها و لا تحرجينا أمامهن ! "

    نظرت إليها بغضب و قلت بعناد :

    " لن أخلعها ، و سأظل الأجمل أيضا ! "

    في غرفة الضيوف حيث نقيم الحفلة ، وجدت نهلة و سارة ، ابنتا خالتي قد وصلتا و كانتا أول من حضر .

    " واو ! فستان رائع ! ما أجمله يا رغد ! "

    قالت نهلة و هي تبعد يدها بعد مصافحتي ...
    نهلة كانت صديقة طفولتي الأولى ، و انتقلت مع عائلتها للعيش في هذه المدينة مثلنا أيضا منذ سنين ، و لا تزال أفضل صديقة لدي .
    أما سارة فهي الشقيقة الوحيدة لنهلة ، و تصغرني بست سنوات ، و تلازم نهلة كالظل !

    " هل أعجبك حقا ؟ اشتراه والدي بسعر مرتفع ! إنني أعامله كأي قطعة من حليي هذه ! "

    ابتسمت نهلة و قالت :

    " كم أحسدك ! لديك أب يدللك كما لا يدلل والد ابنته ! رغم أنك لست ابنته الحقيقية ! "

    هذه الكلمة تزعجني كثيرا ، فأنا لا أحب أن يشير أحد إلى والدي ّ بأنهما ليسا والدي ّ الحقيقيين . إنني اعتبرتهما كذلك منذ الصغر و لا أعرف والدين غيرهما مطلقا .

    قلت بنبرة مازحة :

    " لأنني البنت الصغرى ، و آخر العنقود ... يجب أن أتدلل ! "

    ثم نظرت إلى سارة و قلت :

    " أليس كذلك سارة ؟ "

    أجابت ببرود :

    " كما تقول أختي "

    رفعت نظري عن هذه الفتاة البليدة ، و عدت أخاطب نهلة :

    " و كيف حال خالتي و زوج خالتي ؟ و حسام ؟ "

    أجابت :

    " بخير جميعا ! حسام أوصلنا إلى هنا و أظنه يلقي التحية على والدك الآن "

    ثم أضافت ، و هي تنظر إلي من زاوية عينها بخبث :

    " و على فكرة ، هو يبعث إليك أيضا بتحية حارة مشتعلة !! "

    رفعت إصبعي السبابة الأيمن و ضربت جبينها ضربة خفيفة و أنا أقول :

    " لا تتوبين ! "

    و انبعث ضحكاتنا تملأ الأجواء .

    ما إن حضرت صديقتنا الثرية حتى استقبلتها دانه استقبالا حميما ، و أولتها اهتماما مركزا طوال الحفلة !
    أتساءل ... هل هذا ما يحدث مع جميع الفتيات !
    هل يجذبن العرسان إليهن بهذه الطريقة ؟؟
    حقيقة لا أعرف !

    بينما كنا في أحاديثنا المتواصلة في الحفلة ، سألتني هذه الصديقة :

    " هل أنت مخطوبة ! "

    و كانت تنظر إلى خاتم الخطوبة المطوق لإصبعي ، و في دهشة واضحة !

    تولت دانة الإجابة بسرعة :

    " ألم أخبرك مسبقا ؟ إنها و شقيقي مرتبطان منذ زمن ! "

    قالت الصديقة :

    " و لكن ... تبدين صغيرة ! "

    و مرة أخرى تدخلت دانة قائلة :

    " تصغرني بعامين و بضعة أشهر ، لكن حجمها صغير ! "

    صحيح أن طولي لا يقارن بطول دانه أو سامر ، لكنني لست قصيرة ! بل هما الطويلان كما هما أبي و أمي !
    إنني أبدو بالفعل لست من هذه العائلة !

    قلت مداعبة :

    " هذا يجعلني قادرة على ارتداء الأحذية الأنيقة ذات الكعب العالي المتماشية مع الموضة ! على العكس من دانة ! "

    و ضحكنا جميعا بمرح ...
    قضينا سهرة ممتعة أنستني تماما موضوع سامر الأخير .
    و بعد الحفلة ، أويت إلى فراشي مباشرة و نمت بسرعة ، دون أن يخطر الموضوع ببالي .
    في اليوم التالي ، و فيما أنا منشغلة برسم لوحة جديدة في غرفتي ، جاءني سامر ...

    " ألم تتعبي ؟ قضيت فترة طويلة في الرسم ! "

    " الرسم لا يتعبني مطلقا يا سامر ، بل أهواه و أجد راحة كبرى أثنائه و سعادة غامرة لا أجدها مع أي شيء آخر "

    قال :

    " و لا حتى معي أنا ؟؟ "

    كان سامر يقف إلى جانبي يتأمل رسمي الجديد ... و كنت أنا أدقق النظر في اللوحة و ألقي عليه نظرة بين الفينة و الأخرى
    و حين نطق بجملته الأخيرة هذه ، أطلت النظر إليه ، فشعرت بالخجل و طأطأت رأسي

    " رغد ... "

    لم أجب ...
    مد سامر يده فامسك بوجهي و رفعه للأعلى ...

    قال :

    " رغد ... هل فكرت بموضوعنا ؟ "

    في تلك اللحظة فقط تذكرت الموضوع !
    آه يا إلهي كم هي ضعيفة ذاكرتي !
    سامر كان يتحدث باهتمام ... فالأمر يعني له الكثير ، و قد قضى وقتا طويلا في البحث عن عمل ...
    لم أشأ أن أصيبه بخيبة بقولي : كلا

    فقلت :

    " لازلت أفكر ... "

    سامر قال بنبرة مليئة بالرجاء :

    " أرجوك يا رغد ... يجب أن أبدأ الإجراءات المطلوبة قبل أن تضيع الوظيفة "

    نظرت إليه و قلت :

    " ماذا لو ... عملت أنت هناك ، و أكملت دراستي أنا هنا ... ثم ... "

    لم أتم جملتي ، إذ أن سامر هز رأسه اعتراضا و قال :

    " لا ... إما أن نذهب سويا ... أو نبقى سويا ... "

    كنت أدرك أن سامر لا يستطيع الابتعاد عنا ، كما أن علاقاته بالآخرين محدودة و كثيرا ما كان يتجنب الاجتماعات المختلفة ، ليتلافى الحرج من وجهه المشوه .
    حتى أنه حين أراد إكمال دراسته ، اختار مجالا لا يدع له الفرصة للاحتكاك بالآخرين إلا نادرا
    سامر ... هو شخص هادئ و مسالم ... و طيب القلب ...

    قلت :

    " دعنا نأخذ برأي أبي و أمي كذلك ... يجب أن تتم أنت الإجراءات الآن ، فيما نفكر بروية "

    ابتسم سامر و قال :

    " سأذهب الآن لإنجاز ذلك ، و أعرض الأمر على والدي ّ الليلة ! سنفاجئهما ! "

    ابتسمت ابتسامة قلقة حائرة ، و تركته يذهب و واصلت رسم لوحتي ...
    كنت مصرة على إنجاز تلك اللوحة بأسرع وقت ...

    و في الليل ، تركت سامر يذهب إلى غرفة والدي لعرض الفكرة ، فيما بقيت في غرفتي في قلق و حيرة ... و أخذت أفكر ...
    و يبدو أن كثرة التحديق في اللوحة أصابت عيني بل و جسدي بالإعياء ، فأغمضتهما و لدهشتي استسلمت للنوم !

    أفقت بعد ذلك فزعة على صوت طرق متواصل على الباب ...

    نهضت عن سريري بفزع ... و أصغيت إلى الهتاف ...

    " رغد ... رغد افتحي ... افتحي بسرعة ! "

    كانت دانة !

    سرت إلى الباب بسرعة و ارتعاش و أنا في قمة القلق ...

    و قبل أن أصل إليه رأيته ينفتح و تدخل دانة في انفعال ...

    كانت في حالة يصعب علي وصفها ...

    كان جسدها يرتعش ، و أنفاسها تتضارب و تتلاحق بسرعة عبر فيها المفغور ... ذراعاها مفتوحتين ... و يداها مرفوعتين
    و أصابعها منفرجة ، و تهتز بشدة ...
    و الدموع تنهمر بغزارة على خديها

    قلت في هلع و أنا أرفع يدي إلى قلبي من الذعر :

    " دانه ... ماذا حدث ؟؟ "

    " رغد ... رغد ... "

    و عادت تلهث ...

    " رغد ... رغد ... أخي ... أخي ... "

    تجمّدت و انحبس نفسي الأخير في صدري ...

    حاولت قول : ماذا ...

    ألا أنني عجزت من الذعر ...

    هززت رأسي و أنا أشد الضغط بيدي على صدري فوق قلبي ، كمن يحاول حماية قلبه من تلقي صدمة ما ...

    كانت دانة تحاول النطق و عجزت إلا عن إصدار أصوات مبهمة ، و أشارت إلي أن اقترب ...

    خطوت خطوة نحوها و نطقت أخيرا :

    " سامر ... "

    هزّت دانة رأسها و قالت بصوت لا أعرف من أين خرج ...

    " و ...

    و ...

    وليد ...

    وليد عـــــــــــــــــــــــــــــاد "


    للحظة ... ظللت أحدق في دانة ... في تشتت
    لم أكن أعرف ... هل هذا واقع أم هو أحد أحلامي ... ؟
    تلفت من حولي علّي أرى شيئا واضحا أكيدا بالنسبة لي ...
    كل شيء كان مبهما ...

    دانة عادت تقول :

    " وليد قد عاد ... عاد يا رغد ... عاد "

    لم تكن كلمات واضحة بالنسبة لي ... و بقيت واقفة على نفس الوضع ...
    فأقبلت دانة نحوي و أمسكت بكتفي و ضغطت عليهما ...
    لمجرد إحساسي بيديها على كتفي أدركت أنه ليس حلما

    لم أشعر بأي شيء يتحرك في جسدي لكنني رأيت الجدران تتحرك بسرعة و الأرض تجري من تحت قدمي ّ و الطريق يقودني إلى خارج الغرفة ...

    و أطير ...
    أطير ...
    نحو مصدر أصوات البكاء التي أسمعها منبعثة من مكان ما في المنزل ...
    بالتحديد ... مدخل المنزل ...
    و عند أعلى الدرجات المؤدية إلى المدخل ...
    توقف الكون فجأة عن الحركة من حولي ...
    و ترنحت ذراعاي إلى جانبي ّ ...
    و تشبثت أنظاري بالصورة التي ظهرت أمامي ...
    و تمركزت فوق العينين السوداوين اللتين تعلوان الرأس العريض الثابت فوق ذلك الجسد الطويل ....

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~



    الحلقةالعاشرة
    **************


    ما أن خرجت من السور الضخم العملاق المحيط ببنايات السجن ، حتى وجدت سيارة تقف على الطريق المقابل ، و إلى جانبها يقف رجل عرفت فورا أنه صديقي الحميم سيف ...
    كنت أسير ببطء شديد ، خشية أن أفيق مما ظننته مجرد حلم ... حلم الحرية ...
    أنظر إلى السماء فأرى الشمس المشرقة تبعث إلى بتحياتها و أشواقها الحارة
    و أرى الطيور تسبح بحرية في ساحة الكون ... بلا قيود و لا حواجز ...
    و أتلفت يمنة و يسرة فتلفحني أنسام الهواء النقية ... عوضا عن أنفاس المساجين المختلطة بدخان السجائر ...
    لن أطيل في وصفي لشعوري ساعتها فأنا عاجز عن التصوير ...
    تعانقنا أنا و صديقي سيف عناقا حارا جدا و لا أعرف لماذا لم تنصهر دموعي ذلك الوقت !
    ألأنني قد استنفذتها في السنوات الماضية ؟؟
    أم لأنني كنت في حالة عدم تصديق ؟؟
    أم لأنني فقدت مشاعري و تحجر قلبي و تبلد إحساسي ...؟؟

    " حمدا لله على خروجك سالما أيها العزيز "

    قال سيف و هو يعانقني وسط بحر من الدموع ...

    و يدقق النظر إلى تعابير وجهي الغريبة و عيني الجامدة
    و أنفي كذلك !

    قلت :

    " عدا عن كسر بسيط في الأنف ! "

    و ضحكنا !

    قلت :

    " فعلها والدك ؟ "

    ابتسم و قال مداعبا :

    " والدي و أنا ! بكم تدين لي ؟؟ "

    " بثمان سنين من عمري أهديها لك !"

    ركبنا السيارة و ابتدأ مشوار العودة ... الطويل
    كان المقعد جلدي قد أحرقته الشمس ، و ما إن جلست عليه حتى سرت حرارته في جسدي فحركت فيه حياة كانت ميتة ...
    طوال الوقت ، كنت فقط أراقب الأشياء تتحرك من حولي ...
    الطريق ...
    الشارع ...
    الأشجار
    كل شيء يتحرك ...
    بعد أن قضيت 8 سنوات من الجمود و السكون و الموت ...

    8 سنوات من عمري ، ضاعت سدى ... فمن يضمن لي العيش ثمان سنوات أخرى ...
    أو أكثر
    أو أقل ؟؟
    دهشت لدى رؤية آثار الحرب و الدمار ... تخرب البلد ...
    الطريق كان شاقا و الشوارع مدمرة ، و كان علينا عبور مناطق لا شوارع بها وقد حضر سيف بسيارة مناسبة للسير فوق الرمال .
    بين الفينة و الأخرى ألقي نظرة على ساعة السيارة ، و دونا عن بقية الأشياء من حولي ،لا أشعر بها هي بالذات تتحرك ...
    إنني في أشد الشوق لرؤية أهلي ... منزلي ... مدينتي ...
    و شديد اللهفة إلى صغيرتي رغد !
    آه يا رغد !
    ها أنا أعود ...
    فهل أنا في حلم ؟؟

    كانت الشمس قد استأذنت للرحيل على وعد بالحضور صباحا ، لحظة أن فتحت عيني على صوت يناديني ...

    " وصلنا ! انهض عزيزي "

    لم أشعر بنفسي حين نمت مقدارا لا أعلمه من الوقت ، إلا أنني الآن أفقت بسرعة و بقوة ...
    كان جسدي معرقا و ملتصقا بملابسي و بالمقعد ... و مع ذلك لم أشعر بأي انزعاج أثناء النوم ...

    " وصلنا ! إلى أين ؟ "

    قلت ذلك و أنا أتلفت يمنة و يسرى و أرى الدنيا مظلمة ... إلا عن أنوار بسيطة تتبعثر من مصابيح موزعة فيما حولي ...

    قال سيف :

    " إنه منزلي يا وليد "

    حدقت بسيف برهة ، ثم قلت :

    " خذني إلى منزلي رجاءا ! "

    سيف علاه شيء من الحزن و قال :

    " كما تعرف يا وليد ... أهلك قد غادروا ... ستبقى معي لحين نهتدي إليهم سبيلا "

    قضيت تلك الليلة ، أول ليالي الحرية ، في بيت العزيز سيف .
    هل لكم بتصور شعوري عندما وضعت أطباق العشاء أمامي ؟؟
    طبخات لم أذقها منذ ثمان سنين ، شعرت بالخجل و أنا مقبل على الطعام بشراهة فيما سيف يراقبني و يبتسم !

    " أنا آسف ! إنني جائع جدا ! "

    قلت ذلك و أنا مطأطئ بعيني نحو الأسفل خجلا ، إلا أن سيف ضحك و قال :

    " هيا يا رجل كل قدر ما تشاء و اطلب المزيد ! بالهناء و العافية "

    رفعت بصري إليه و قلت :

    " لو تعلم كيف كان طعامي هناك ... ! "

    هز سيف رأسه و قال :

    " انس ذلك ... لقد كان كابوسا و انتهى ، الحمد لله "

    هل انتهى حقا ... ؟؟

    رغم أنه كان سريرا ناعما واسعا نظيفا و عطرا ، ألا أنني لم استطع النوم جيدا تلك الليلة ...
    كيف تغمض لي عين و أنا مشغول البال و التفكير ... بأهلي ...
    و بعد صلاة الفجر ، و حينما عادت الشمس موفية بوعدها ، و اطمأننت إلى أنها صادقة و ستظهر لتشرق حياتي كل يوم ، فتحت النافذة لأسمح بأشعتها للتسرب إلى الغرفة و معانقة جسدي بعد فراق طويل ...

    رأيت أشياء كثيرة و مزعجة في نومي ...
    سمعت صوت نديم يناديني ...

    " انهض يا وليد ، جاء دورك "

    كان العساكر يقفون عند باب السجن ينظرون إلي ... لم أشأ النهوض ...
    هززت رأسي معترضا ، لكن نديم ظل يناديني
    أفقت ، و فتحت عيني لأنظر إليه ، و أرى السقف و الشقوق التي تملأه ، و تخزن عشرات الحشرات بداخلها ...
    لكنني رأيت سقفا نظيفا و مزخرف ... منظر لم أعتد رؤيته ... نهضت بسرعة و نظرت من حولي ...

    " وليد ! هل أفزعتك ! أنا آسف ! "

    كان صديقي سيف يقف إلى جانبي ...
    قلت و أنا شبه واع ، و شبه حالم :

    " أنت سيف ؟ أم نديم ؟؟ هل أنا في السجن ؟ أم ... "

    سيف مد يده و أمسك بيدي بعطف و قال :

    " عزيزي ... إنك في بيتي هنا ، لا تقلق ... "

    خشيت أن يكون حلما و ينتهي ، حركت يدي الأخرى حتى أطبقت على يد سيف بكلتيهما ، و قلت :

    " سيف ! أهي حقيقة ؟ أرجوك لا تجعلني أفيق فجأة فأكتشف أنه مجرد حلم ! هل خرجت أنا من السجن حقا ؟؟ "

    الآن فقط ، تفجرت الدموع التي كانت محبوسة في بئر عيني ّ

    بعد ذلك ، أصررت على الذهاب للمنزل حتى مع علمي بأن أحدا لم يعد يسكنه
    و كلما اقتربنا في طريقنا من الوصول ، كلما تسارعت نبضات قلبي حتى وصلنا و كادت تتوقف !
    اتجهت نحو الباب و جعلت أقرع الجرس ، و سيف ينظر إلي بأسى
    لم يفتحه أحد ...
    جالت بخاطري ذكرى تلك الأيام ، حينما كانت رغد و دانة تتسابقان و تتشاجران من أجل فتح الباب !
    التفت إلى الخلف حيث يقف سيف ، و كانت تعابير وجهه تقول : يكفي يا وليد ، لكنني كنت في شوق لا يكبح لدخول بيتي ...
    نظرت من حولي ، ثم أقبلت إلى السور ، و هممت بتسلقه !

    " وليد ! ما الذي تفعله !؟ "

    أجبت و أنا أقفز محاولا الوصول بيدي إلى أعلى السور :

    " سأفتح الباب ، انتظرني "

    و بعد أن قفزت إلى الداخل فتحت الباب فدخل سيف ...

    " و لكن لا جدوى ! كيف ستدخل للداخل ؟ "

    بالطبع ستكون الأبواب و النوافذ جميعها مغلقة و موصدة من الداخل ، ألا أنني أستطيع تدبر الأمر !

    قلت :

    " سترى ! "

    و انطلقت نحو الحديقة ...
    لم تعد حديقتنا كما كانت في السابق ، خضراء نضرة ... بل تحولت إلى صحراء صفراء جافة ...
    انقبض قلبي لدى رؤيتها بهذا الشكل ...
    أخذت أتلفت فيما حولي و سيف يراقبني باستغراب
    وقعت أنظاري على أدوات الشواء التي نضعها في إحدى الزوايا ، في الحديقة
    كم كانت أوقاتا سعيدة تلك التي كنا نقضيها في الشواء
    توجهت إليها و أخذت أحفر الرمال ...

    " ما الذي تفعله بربك يا وليد ؟؟! هل أخفيت كنزا هناك ؟؟ "

    و ما أن أتم سيف جملته حتى استخرجت مفتاحا من تحت الرمال !

    تبادلت أنا و سيف النظرات و الابتسامات ، ثم قال :

    " عقلية فذة ! كما كنت دائما ! "

    و ضحكنا ...
    كنت أخفي مفتاحا احتياطيا في تلك الزاوية تحت الرمال منذ عدة سنوات ...
    و أخيرا دخلت المنزل
    للحظة الأولى أصابت جسدي القشعريرة لرؤية الأشياء في غير أمكنتها ...
    تجولت في الممرات و شعرت بالضيق للسكون الرهيب المخيم على المنزل ...
    عادة ما كان البيت يعج بأصوات الأطفال و صراخهم ...
    صعدت إلى للطابق العلوي قاصدا غرفة نومي ، حيث تركت ذكريات عمري الماضي ... و حين هممت بفتح الباب ، وجدتها مقفلة ...

    " تبا ! "

    توجهت بعد ذلك إلى غرفة رغد الصغيرة ، المجاورة لغرفتي مباشرة .. مددت يدي و أمسكت بالمقبض ، و أغمضت عيني ، و أدرت المقبض ، فلم ينفتح الباب ...
    كانت هي الأخرى مقفلة
    أدرت المقبض بعنف ، و ضربت الباب غيظا ... و ركلته من فرط اليأس ...
    أخذت أحاول فتح بقية الغرف لكنني وجدتها جميعا مقفلة
    فشعرت و كأن الدنيا كلها ... مقفلة أبوابها أمامي ...
    عدت إلى غرفة رغد و أنا منهار ...
    جثوت على الأرض و أطلقت العنان لعبراتي لتسبح كيفما تشاء ...

    " أين ذهبتم ... و تركتموني ؟؟ ... "

    أغمضت عيني و تخيلت ...
    تخيلت الباب ينفتح ، فأرى ما بالداخل ...
    على ذلك السرير تجلس رغد بدفاتر تلوينها ، منهمكة في التلوين ...
    و حين تحس بدخولي ترفع رأسها و تبتسم و تهتف : وليــــــــد !
    ثم تقفز من سريرها و تركض إلي ... فألتقطها بين ذراعي و أحملها عاليا !

    " أين أنتم ؟ عودوا أرجوكم ... لا تتركوني وحيدا ... "

    كنت أبكي بحرقة و مرارة و عيناي تجولان في أنحاء المنزل و أتخيل أهلي من حولي ... هنا و هناك ...
    و أتوهم سماع أصواتهم ...
    لقد رحلوا ... و تركوا المنزل خاليا و الأبواب مقفلة ... و وليد وحيدا تائها ...
    هل تخلوا عني ؟؟
    هل أصبحت في نظرهم ماض يجب نسيانه ؟
    مجرما يجب إلغائه من الحسبان ؟؟
    كيف يمتنعون عن زيارتي و السؤال عني كل هذه السنين ...
    ثم يرحلون ...
    أخرجت الصورتين اللتين احتفظ بهما منذ سنين من أحد جيوبي ... و جعلت أتأمل وجوه أهلي و أناديهم ... واحدا تلو الآخر كالمجنون ...
    أبي ...
    أمي ...
    سامر ...
    دانه ...
    رغد ...
    لقد عدت !
    أين أنتم ؟؟
    أجيبوا أرجوكم ...

    سيف ظل واقفا يراقب عن بعد ...
    كنت لا أزال جاثيا عند باب غرفة رغد غارقا في الحزن و البكاء المرير ... حين لمحت شيئا لم أكن لألمحه لو لم أجثو بهذا الوضع ...
    من بين دموعي المشوشة للرؤية أبصرت شيئا تحت باب غرفتي
    مددت أصابعي و أخرجته ببعض الصعوبة ، فإذا به قصاصة ورق صغيرة مثنية ، و حين فتحتها وجدت التالي :

    ( وليد ، لقد ذهبت مع أمي و أبي و دانة و سامر إلى المدينة الصناعية . عندما تعود تعال إلينا . أنا أنتظرك كما اتفقنا . رغد )

    لكم أن تعذروا سيف للذهول الذي أصابه حين رآني أنهض واقفا فجأة ، و أطلق ضحكة قوية بين نهري الدموع الجاريين !

    " وليد !! ماذا دهاك ؟؟ "

    نظرت إليه و أنا أكاد أقفز فرحا و قلت :

    " إنها رغد العزيزة تخبرني بأنهم في المدينة الصناعية ! هل رأيت شيئا كهذا ؟؟ "

    و أخذت أحضن الورقة و الصور بجنون !

    سيف قال :

    " عقلية ... فذة ... أظن ذلك ! ! "

    و ضحكنا من جديد .

    و بعد يومين ، حين رتب سيف أموره للسفر ، انطلقنا أنا و هو بالسيارة ميممين وجهينا شطر المدينة الصناعية ...
    لقد تكبلنا مشاقا لا حصر لها أثناء الطريق ، إذ أن الشوارع كانت مدمرة و اضطررنا لسلك طرق ملتوية و مطولة جدا ...
    كما و أننا واجهنا عقبات مع الشرطة المحليين
    إنني لمجرد رؤية شرطي ، ارتعش و أصاب بالذعر ... حتى و إن كان مجرد شرطي مرور ...
    لن أطيل في وصف الرحلة ، لم يكن ذلك مهما ... فرأسي و قلبي و كلي ... مشغول بأهلي و أهلي فقط ...
    و أولهم ... مدللتي الصغيرة الحبيبة ...
    رغد ...
    رغد ...
    أنا قادم إليك أخيرا ...
    قادم أخيرا ...

    وصلنا للمدينة الصناعية مساء اليوم الثالث ، و قد نال منا التعب ما نال
    لذا فإن سيف أراد استئجار شقة نقضي فيها ليلتنا لنبدأ البحث في اليوم التالي ...

    " ماذا ؟ لا أرجوك ! لا أستطيع الانتظار لحظة بعد ! "

    تنهد سيف و قال :

    " يا عزيزي دعنا نبات الليلة و غدا نذهب إلى بلدية المدينة و نسألهم عن أهلك ! أين تريدنا أن نبحث الآن ؟؟ نطرق أبواب المنازل واحدا بعد الآخر ؟؟ "

    " أجل ! أنا مستعد لفعل ذلك ! "

    ابتسم سيف ، ثم ربت على كتفي و قال :

    " صبرت كثيرا ! اصبر ليلة أخرى بعد ! "

    لم تمر علي ساعات أبطأ من هذه من قبل ...
    لم أنم حتى لحظة واحدة و أصابني الإعياء الشديد و الصداع
    و في اليوم التالي ، وقفنا عند إحدى محطات الوقود ، و ذهب سيف لشراء بعض الطعام و هممت باللحاق به ، لكنني شعرت بالتعب الشديد ...
    عندما عاد سيف ، التفت نحوي مقدما بعض الطعام إلي :

    " تفضل حصتك ! "

    هززت رأسيا ممتنعا ، فأنا لا أشعر بأي رغبة في الطعام فيما أنا قد أكون على بعد قاب قوسين أو أدنى من أهلي ...
    أسندت رأسي إلى المعقد و رفعت يدي إلى جبيني و ضغطت على رأسي محاولا طرد الصداع منه ...

    " أأنت بخير ؟؟ "

    سألني سيف ، فأجبت :

    " صداع شديد "

    " خذ تناول بعض الطعام و إلا فإنك ستنهار ! "

    و هززت رأسي مجددا ...
    ثم التفت إليه و قلت :

    " هل لي ببعض المال ؟؟ "

    أخرج سيف محفظته من جيبه و دفعها إلي ... فأخذتها ، و فتحت الباب قاصدا النزول و الذهاب إلى البقالة المجاورة ...
    ما كدت أقف على قدمي حتى انتابني دوار شديد فانهرت على المقعد ...

    " وليد ! "

    تركت رجلي متدليتين خارج السيارة و أنا عاجز عن رفعهما
    سيف أسرع فعدّل من وضعي و سأل بقلق :

    " أأنت بخير ؟؟ "

    " دوار ... "

    أسرع سيف فقرب عبوة عصير من شفتي و قال :

    " اشرب قليلا "

    رشفت رشفتين أو ثلاث ، و اكتفيت . سيف كان قلقا و ظل يلح علي بتناول بعض الطعام ألا أنني لم أكن أشعر بأدنى رغبة حتى في شم رائحته ...
    بعد قليل ، زال الدوار جزئيا و فتحت عيني ، و مددت بالمحفظة إلى سيف و قلت :

    " هل لي بعلبة سجائر ؟ "


    كانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشر ليلا ، حينما أشار آخر شخص سألناه عن منزل شاكر جليل ، أبا وليد ، إلى منزل صغير يقع عند المنعطف التالي ...

    سأل سيف الرجل :

    " أأنت متأكد ؟ شاكر جليل المكنى بأبو وليد ، رجل قدم مع عائلته من وسط البلاد ؟"

    " نعم إنه هو و يقيم هنا منذ سبع أو ثمان سنين ! "

    لم يكن الشيء الذي يهتز هو قلبي فقط ، بل و أطرافي ، و شعري ، و مقعدي بل و السيارة أيضا !
    تبادلنا أنا و سيف النظرات ... ثم تحرك بالسيارة ببطء حتى أصبحنا إزاء المنزل مباشرة ...

    " هيا يا وليد ... "

    بقيت في مكاني و لم تخرج مني بادرة تشير إلى أنني أنوي النهوض

    " وليد ! هيا بنا ! أم تفضل الانتظار حتى الغد فربما يكون الجميع نيام ! "

    قلت بسرعة :

    " لا لا ... مستحيل أن أنتظر دقيقة بعد ... "

    و مع ذلك ، بقيت في مكاني بلا حراك ، عدا عن الاهتزازات التي تعرفون ...

    " ما بك ؟ قلق ؟؟ "

    " ماذا لو لم يكن المنزل المقصود أو العائلة المعنية ؟؟ هل نستمر في البحث أكثر ؟؟ أنا مجهد جدا "

    " هوّن عليك ، ربما وصلنا أخيرا . سنتأكد من ذلك "

    كيف لي أن أبقى صامدا قويا و أنا على وشك رؤية أهلي ... ؟؟
    في داخل هذا المنزل ... يعيش أمي و أبي ... و أخي و أختي ... و الحبيبة رغد !
    ربما هم نيام الآن !
    لا بد أنهم سيفاجؤون لدى رؤيتي ....
    كم أنا مشتاق إليكم جميعا ...
    إن هي إلا لحظات ... و ألتقي بكم !
    يا إلهي ! أكاد أموت من الشوق و القلق ...
    أخرجت الصورتين من جيبي و أخذت أتأمل أفراد عائلتي ...
    ثم ثبت ّ أنظاري على صورة رغد ، و هي تلون ...
    رغد ...
    يا حلوتي الصغيرة ...
    ها أنا قد عدت ...

    " دعك من الصورة ... و هيا إلى الأصل ! "

    قال سيف و هو يفتح الباب و ينزل ...
    قرعنا الجرس مرارا ... حتى خشيت أن يكون البيت قد هجر ... و أهلي قد رحلوا ... و أملي قد ضاع ...

    و لكن الباب انفتح أخيرا ...

    و أطل منه شاب يافع ... طويل القامة ... نحيل الجسم ... مشوّه الوجه بندبة أكدت لي بما لا يقبل الشك ... أنه شقيقي الوحيد ... سامر ....

    " سامر ... يا أخي ! "

    دخلت في دوامة لا أستطيع وصفها ... من الصراخ و الهتاف ... البكاء و النحيب ... الدموع و العناق ...

    تلقفتني الأيدي و الأذرع و الأحضان ... و أمطرت بالقبل و امتزجت الدموع بالآهات و التهاليل بالولاول ... و ما عدت أدرك إن كان أهلي من حولي حقا ؟ أم أنني توهمت خروجهم من الصورة ...؟
    لقد مضى وقت لا أعرف مقداره و أنا أدور بين أحضانهم في عناق تختلط فيه الدموع ...

    والدتي لم تقو على الوقوف من هول المفاجأة فجلسنا جميعا قربها و استحوذت على رأسي و ضمته إلى صدرها و جعلنا نبكي بحرارة
    و أبي جالس قربي يكرر حمد الله و شكره و يجهش بكاءا
    و أخي سامر ممسكا بذراعي من جهة ، و دانة من جهة أخرى
    و لم يعد هناك مجال للكلمات ...

    لا أستطيع وصف المزيد
    أنى لذاكرتي أن تستوعب حرارة كهذه دون أن تنصهر ؟؟
    أطلقت والدتي سراح رأسي لبعض الوقت ... فالتفت نحو دانة
    كم كبرت و أصبحت ... فتاة مختلفة !
    فتحت فمي لأتكلم ، فإذا بالدموع الحارة تتسلل إلى داخله ...
    و ربما هذا ما منح لساني القدرة على الحركة و النطق ...
    لكن صوتي جاء مبحوحا خافتا ضعيفا ، كصوت طفل يختنق ...

    " رغد ؟؟ "

    هبت دانه واقفة ، و صعدت عتبات تلي المدخل عتبتين عتبتين ، و أسرعت الخطى ذاهبة لاستدعاء رغد
    وقفت في قلق و وقف الجميع معي ، و هم لا يزالون يقتسمون حضني و ذراعي ...
    كنت أنظر إلى الناحية التي ذهبت إليها دانه ... و لو لم أكن مربوطا بالجميع لذهبت خلفها ...
    لا ...
    بل لسبقتها ...
    الآن ستظهر رغد !
    هل نفذ الهواء الذي من حولي ؟؟ أنا اختنق ...
    هل طلعت الشمس في غير موعدها ؟ إنني أحترق ...
    هل تهتز الأرض من تحت رجلي ؟؟ أكاد أنهار ... لولا أنهم يمسكون بي ...

    ستأتي رغد ... سأحضنها ... و أحملها على ذراعي ... و أؤرجحها في الهواء كما كنت أفعل دائما ...

    هيا يا رغد ... اظهري ... تعالي ... أسرعي إلي ...

    و من حيث كنت أحدّق بصبر نافذ تماما ، ظهرت مخلوقة جاءت تركض بسرعة ... و توقفت عند أعلى العتبات ....

    كما توقفت هي ، توقف كل شيء كان يتحرك في هذا الكون فجأة ... بما فيهم قلبي المزلزل ...
    توقفت عيني حتى عن سكب الدموع ، و عن الطرف ...
    و تثبتت فوق عيني الفتاة الواقفة أعلى العتبات ... تنظر إلي بذهول ... فاغرة فاها

    هل جرب أحدكم أن يوقف شريط الفيديو أثناء العرض ؟
    هكذا توقف الكون عند هذه اللحظة التي ربما تجاوزت القرون طولا ...
    وجها لوجه ... أمام مخلوقة يفترض أن تكون رغد ... و لم تكن رغد ...
    كنت انتظر أن تظهر رغد ... تماما كما تركتها قبل ثمان سنين ... طفلة صغيرة أعشقها بجنون ... تركض نحوي بلهفة ... و ترفع يديها إلي بدلال ... و تقول :
    وليـــد ... احملني !

    لم أعد أرى جيدا ... أصبت بغشاوة من هول الصدمة المفاجئة ... و المشاعر المتلاطمة بعنف ...
    أردت أن أخرج الصورة من جيبي ... و أسأل الجميع ... أهذه هي صغيرتي رغد ؟؟
    لكنني بقيت جامدا متصلبا متخشبا كما أنا ...
    أول شيء تحرك كان فم الفتاة ... ثم إصبعها الذي أشار نحوي ، و بصعوبة و بجهد و بحروف متقطعة قالت :

    " و ... لـ ... يــ ... ــد ؟؟؟ "

    ثم فجأة ، و دون أن تترك لي الفرصة لأستعد لذلك ، قفزت رغد من أعلى العتبات باندفاع نحوي فحررت ذراعي بسرعة من بين أذرع البقية و رفعتها نحو رغد التي هوت على صدري و هي تهتف

    " وليـــــــــــــــــــــــــــــــــد "


    الآن فقط ، آمنت تماما بحقيقة دوران الأرض حول نفسها ...
    لقد كنت أنا المحور
    و كانت الأشياء تدور من حولي بسرعة ...
    بسرعة ...
    بسرعة ...

    كدنا نهوي أرضا لو لم يسرع أبي و سامر لإسنادنا لكنني لم أكن قادرا على الوقوف
    أما رغد ...
    صغيرتي التي كبرت ... فقد كانت ممسكة بي بقوة جعلتني أشعر أنها ستخترق جسدي
    بل اخترقته ...
    لثمان سنين فقط ، أريد لهذه اللحظة أن تستمر ...
    لثمان سنين ، عادت بي الذاكرة ...
    لذلك اليوم المشؤوم ...
    لتلك اللحظة الفظيعة ، التي كانت فيها رغد متشبثة بي بذعر و تكاد تخترق جسدي ...
    فيما عمّار واقف يبتسم ابتسامة خبيثة و هو يرمي إلي بحزام رغد ...
    لحظة تذكرت هذا ، أطبقت على رغد بقوة و كأنني أريد حمايتها من مجرد الذكرى الأليمة
    و شددت ضغطي أكثر و أكثر ... و لو كانت لجسدي قوته و عضلاته السابقة ، لربما سحقت عظامها بين ذراعي ...
    إلا أنني الآن أشعر بضعف شديد يسري في جسدي ، و أريد أن أنهار

    أبعدت رأسها عني قليلا لأتأكد ... أنها رغد ...
    رغم أنها كبرت إلا أن ملامح وجهها الدائري الطفولية ، لا زالت كما هي ...

    " رغد ! صغيرتي ! "

    لقد عشت لأراك ثانية ...
    و نجوت لأعود إليك ...

    " آآآآآه "


    أطلقت هذه الآهة ، ثم خررت أرضا ...
    أعتقد أنني أصبت بإغمائه لبضع دقائق
    عندما فتحت عيني ، رأيت وجوه الجميع من حولي فيما أدمعهم تنهمر و تبلل وجهي و ملابسي الغارقة في العرق ...
    لم يكن لدي ما هو أغلى من دموع مدللتي رغد و حين رأيتها تسيل على خديها قلت

    " لقد عدت ! لن أسمح لدموعك بأن تسيل بعد اليوم ! "

    ثم نقلت بصري بين أعينهم جميعا ، و قلت :

    " أنا متعب جدا "

    و لحظتها فقط انتبهت لعدم وجود سيف ...
    لا أذكر أنني رأيته بعد قرعنا للجرس ! هل عاد للسيارة ؟ أم ماذا حدث ؟

    قلت :

    " أين سيف ؟ "

    أجاب سامر :

    " غادر ... قال أنه سيأتي غدا "

    و لأنني كنت متعبا جدا جدا ، فسرعان ما نمت بعدما أرخيت جسدي فوق سرير أخي سامر ، و الذي نام على الأرض إلى جواري في غرفته تلك الليلة ...

    عندما أيقظني سامر وقت صلاة الفجر ، لم أكن قد نلت ما يكفي من الراحة... لذا لم أرافقه و أبي إلى المسجد ، بل أديت صلاتي في الغرفة ذاتها ...

    أثناء غيابهما للصلاة ، تجولت في المنزل بحثا عن المطبخ فقد كنت شديد العطش و لم يكن البيت كبيرا لذا فإن غرفه و أجزائه متقاربة ...
    وصلت إلى المطبخ و هناك رأيت شخصا يقف أمام الثلاجة المفتوحة ، موليا ظهره إلي ، و يرتدي حجابا ...

    لم يكن من الصعب علي أن أستنتج أنها رغد ، من صغر حجمها

    " رغد ؟ "

    التفتت رغد نحوي بفزع ، إذ أنها لم تشعر بدخولي المطبخ ...

    " أنا آسف ... هل أفزعتك ؟؟ "

    أحنت رغد رأسها نحو الأرض و هزته قليلا ...

    قلت :

    " أريد بعض الماء ... رجاء ً "

    رغد تنحت جانبا موسعة المجال أمامي ، و عندما اقتربت رفعت رأسها فنظرت إلي برهة ...

    " لقد ... كبرت ِ ! "

    لم تنطق بأي كلمة ، و نزلت ببصرها أرضا ...

    قلت :

    " لكنك لم تتغيري كثيرا ... "

    رفعت رأسها مرة أخرى و نظرت إلي ، ثم طأطأته من جديد ...

    قلت :

    " و أنا ؟ هل تغيرت كثيرا ؟؟ "

    ترددت قليلا ثم قالت :

    " هل بدّلت أنفك ؟ "

    ابتسمت ، بل كدت أضحك ، لكنني قلت :

    " بدّله الزمن ! هل يبدو سيئا جدا ؟؟ "

    رغد قالت دون أن ترفع بصرها عن الأرض :

    " على العكس ! "

    ثم أسرعت بالخروج من المطبخ ...

    استدرت و ناديت :

    " رغد انتظري ... "

    ألا أنها اختفت بسرعة !
    و بسرعة شربت كمية كبيرة من الماء البارد شعرت بها تجري في فمي و حلقي و معدتي و حتى شراييني !

    عدت إلى فراشي و أغمضت عيني ...
    إنه ليس مجرد حلم ...
    لقد عدت إلى أهلي أخيرا
    عدت إلى رغد ...
    و حتى و أن كبرت و لم تعد صغيرتي المدللة ، فهي لا تزال محبوبتي التي أعشق منذ الصغر ...
    و التي أفعل أي شيء في سبيل إسعادها
    و التي لا زلت مشتاقا إليها أكثر من أي شخص آخر ...
    و التي يجب أن أقربها مني أكثر من أي وقت مضى ...
    فهي ...
    صغيرتي الحبيبة المدللة ...
    حلم حياتي الأول ...
    محبوبتي منذ الطفولة ...
    قد كبرت أخيرا ....


    انتظرونا غدا...
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty رد: رواية.. أنت لي

    مُساهمة  littledoctor الإثنين 4 يوليو 2011 - 18:56

    Tarek كتب:
    يلا بقى كمل احسن انت شوقتنى اعرف النهايه ايه
    روايه جميله جدا
    تسلم الايادى

    صبرك بالله يا بشمهندس دي لسه طويلة احنا يا دووووووب وصلنا لربعها... بس الصراحة انا لما قريتها مقدرتش اسيبها غير لما خلصتها... و سعيدة ان في حد بيتابع معايا
    تقبل خالص تحياتي


    I love you I love you I love you I love you I love you I love you
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty الحلقة الحادية عشر و الثانية عشر

    مُساهمة  littledoctor الإثنين 4 يوليو 2011 - 19:58


    الحلقةالحاديةعشرة
    **************


    و أنا استفيق من النوم ، و أشعر بنعومة الوسادة تحت خدي ، و سمك و دفء البطانية فوق جسدي ، و النور يخترق جفني ...
    بقيت مغمض العينين ...
    حركت يدي فوق الفراش الدافئ الواسع ، و الوسادة الناعمة و أخذت أتحسسهما براحة و سعادة ...
    ابتسمت ، و يدي لا تزال تسير فوق الفراش ، و البطانية ، و الوسادة مداعبة كل ما تلامس !
    أخذت نفسا عميقا و أطلقته مع آهة ارتياح و رضا ...
    كم كان النوم لذيذا ! و كم كنت أشعر بالكسل ! و الجوع أيضا !
    آه ... ما أجمل العودة إلى البيت ... و الأهل ...
    فتحت عيني ببطء ، و أنا مبتسم و مشرق الوجه
    و على أي شيء وقعت أنظاري مباشرة ؟؟
    على وجه أمي !
    كانت والدتي تجلس على مقعد جواري ، و تنظر إلي ، و دمعة معلقة على خدها الأيمن ، فيما فمها يبتسم !
    جلست بسرعة ، و قد اعتراني القلق المفاجئ و زالت الابتسامة و السعادة من وجهي ، و قلت باضطراب :

    " أماه ! ماذا حدث ؟؟ "

    والدتي أشارت بيدها إلي قاصدة أن أطمئن ، و قالت :

    " لا لا شيء ، لا تقلق بني "

    لكنني لم أزل قلقا ، فقلت مرة أخرى :

    " ماذا حدث ؟؟ "

    هزت أمي رأسها و مسحت دمعتها و زادت ابتسامتها و قالت :

    " لا شيء وليد ، أردت فقط أن أروي عيني برؤيتك "

    ثم انخرطت في البكاء ...
    نهضت عن سريري و أقبلت ناحيتها و قبلت رأسها و عانقتها بحرارة ...

    " لقد عدت أخيرا ! لا شيء سيبعدني عنكم بعد الآن "

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~


    طبعا لم يستطع أحدنا النوم تلك الليلة ، غير وليد !
    نام وليد في غرفة سامر ، إذ لم يكن لدينا أي سرير احتياطي أو غرفة أخرى مناسبة .
    أنا لا أستطيع أن أصدق أن وليد قد عاد !
    لقد آمنت بأنه اختفى للأبد
    كنت اعتقد بأنه فضل العيش في الخارج حيث الأمان و السلام على العودة لبلدنا و الحرب و الدمار ...
    لكنه عاد ... و بدا كالحلم !
    لا يزال طويلا و عريضا ، لكنه نحيل !
    كما أن أنفه قد تغير و أصبح جميلا !
    البارحة لم أتمالك نفسي عندما رأيته أمام عيني ...
    كم تجعلني هذه الذكرى أبتسم و أتورد خجلا !

    " رغد ! كم من السنين ستقضين في تقليب البطاطا ! لقد أحرقتها ! "

    انتبهت من شرودي الشديد ، على صوت دانة ، و حين التفت إليها رأيتها تراقبني من بعد ، و قد وضعت يديها على خصريها ...

    ابتسمت و قلت :

    " ها أنا أوشك على الانتهاء "

    دانة حدقت بوجهي قليلا ثم قالت :

    " لقد احمر وجهك من طول وقوفك قرب النار ! هيا انتشليها و انتهي ! "

    أنا اشعر بأن خدي متوهجان ! و لكن ليس من حرارة النار !
    انتهيت من قلي البطاطا ثم رتبتها في الأطباق الخاصة.
    مائدتنا لهذا اليوم شملت العديد من الأطباق التي كان وليد يحبها
    والدتي أصرت على إعدادها كلها ، و جعلتنا نعتكف في المطبخ منذ الصباح الباكر !
    ربما كان هذا الأفضل فإن أحدنا لم يكن لينام من شدة الفرح ...
    و الآن هي بالتأكيد في غرفة سامر !

    " دانه "

    كانت دانة تقطع الخضار لتعد السلطة ، و التفتت إلي بنفاذ صبر و قالت :

    " نعم ؟؟ "

    قلت :

    " هل كان وليد يفضل عصير البرتقال أم الليمون ؟؟ "

    رفعت دانة رأسها نحو السقف لتفكر ، ثم عادت ببصرها إلي و هزت رأسها أسفا :

    " لا أذكر ! حضّري أيا منهما "

    قلت :

    " أريد تحضير العصير الذي يفضله ! تذكري يا دانة أرجوك "

    رمقتني بنظرة غضب و قالت :

    " أوه رغد قلت لك لا أذكر ! اسألي أمي "

    وقفت أفكر لحظة ، و استحسنت الفكرة ، فذهبت مسرعة نحو غرفة سامر !
    في طريقي إلى هناك صادفت والدي ...

    " إلى أين ؟ "

    استوقفني أبي ، فقلت بصوت منخفض :

    " أريد التحدث مع أمي "

    ابتسم أبي و قال :

    " إنها عند وليد ! "

    تقدمت خطوة أخرى باتجاه غرفة سامر ، إلا أن أبي استوقفني مرة أخرى

    " رغد "

    التفت إليه

    " نعم أبي ؟؟ "

    لم يتكلم ، لكنه رفع يده اليمنى و بإصبعه السبابة رسم دائرة في الهواء حول وجهه
    و فهمت ماذا يقصد ...
    انعطفت نحو غرفتي ، و ارتديت حجابا و رداءا ساترا ، ثم قدمت نحو غرفة سامر و طرقت الباب طرقا خفيفا ...
    سمعت صوت أمي يقول :

    " تفضل "

    ففتحت الباب ببطء ، و أطللت برأسي على الداخل ... فجاءت نظراتي مباشرة فوق عيني وليد !
    رجعت برأسي للوراء و اضطربت ! و بقيت واقفة في مكاني ...
    أقبلت أمي ففتحت الباب

    " رغد ! أهلا ... أهناك شيء ؟؟ "

    قلت باضطراب :

    " العصير ! أقصد الليمون أم البرتقال ؟ "

    أمي طبعا نظرت إلي باستغراب و قالت :

    " عفوا ؟!! "

    كان باستطاعتي أن أرى وليد واقفا هناك عند النافذة المفتوحة ، لكني لا أعرف بأي اتجاه كان ينظر !

    " هل أصنع عصير الليمون أم البرتقال ؟؟ "

    ابتسمت والدتي و قالت :

    " كما تشائين ! "

    قلت :

    " ماذا يفضل ؟؟ "

    و لم أجرؤ على النطق باسمه !
    والدتي التفتت نحو وليد ، و كذلك فعلت أنا ، فالتقت أنظارنا لوهلة ...

    قالت أمي :

    " ماذا تفضل أن تشرب اليوم ؟ عصير البرتقال أم الليمون ؟ أم كليهما ؟ "

    ابتسم وليد و قال :

    " البرتقال قطعا ! "

    ثم التفتت والدتي إلي مبتسمة ، و قالت :

    " هل بقي شيء بعد ؟ "

    " لا ... تقريبا فرغنا من كل شيء ، بقي العصير ... و السلطة "

    " عظيم ، أنا قادمة معك "

    ثم استأذنت وليد ، و خرجت و أغلقت الباب .
    و عندما ذهبنا للمطبخ ، وجدنا سامر هناك ، و كان قد عاد لتوه من الخارج حيث أحضر بعض الحاجيات ...
    بادلانا بالتحية ثم سأل :

    " ألم ينهض وليد ؟ "

    قالت أمي :

    " بلى ! استيقظ قبل قليل "

    " عظيم ! أنا ذاهب إليه "

    و ذهب سامر مسرعا ، فهبت دانة واقفة و رمت بالسكين و قطعة الخيار التي كانت بيدها جانبا و قالت بانفعال :

    " و أنا كذلك "

    و لحقت به و هي تقول موجهة كلامها إلي :

    " أتمي تحضير السلطة ! "

    و في ثوان كانا قد اختفيا ...

    ماذا عني أنا ؟؟
    أنا أيضا أريد أن أذهب إليه .... !
    نظرت إلى أمي فقالت :

    " أنا سأقطع الخضار ، حضري أنت العصير ...

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    قبل قليل ، جاءت رغد و وقفت عند باب الغرفة لعدة ثوان ...
    أظن أنها جاءت تسال والدتي عن عصيري المفضل !
    يبدو أنها نسيت ذلك ... لطالما كنت آخذها معي إلى في نزهة بالسيارة ، نتوقف خلالها لتناول البوظة أو عصير البرتقال ، أو حتى أصابع البطاطا المقلية !
    يا ترى ... ألا تزال تحبها كما في السابق ؟؟
    طرق الباب ، ثم دخل أخي سامر و دانة ...
    أقبل الاثنان نحوي يحييانني و يعانقانني من جديد ...

    قال سامر :

    " أحضرت لك بعض الملابس يا أخي ! إنك بحاجة إلى حمام طويل جدا ! "

    ابتسمت بشيء من الخجل ، فأنا أعرف أن هندامي كان سيئا ... و شعري طويلا ... و لحيتي نابتة عشوائيا بلا نظام ، و الملابس التي اشتراها لي سيف على عجل خالية من الجمال و الأناقة !

    قلت :

    " هل أبدو مزريا ؟؟ "

    ضحكت دانة و قالت :

    " بل تبدو كأحد نجوم السينيما الأبطال ! "

    ضحكنا نحن الثلاثة ، ثم قلت :

    " بطل بلا عضلات !؟ لا أناسب حتى دور مجرم ! "

    و جفلت للكلمة التي خرجت من لساني دون شعور ... ( مجرم ) ... ألست كذلك ؟؟
    لكن أحدا لم يلحظ تغير تعابير وجهي ، بل استمرت دانة تقول :

    " بل بطل ! أليس كذلك يا سامر ؟ إنه ليس رأيي وحدي بل هذا ما تقوله رغد أيضا ! "

    أثارت جملتها هذه اهتمامي البالغ ، هل قالت رغد عني ذلك حقا ؟ هل أبدو كذلك في نظرها ؟
    تعلمون كم يهمني معرفة ذلك !
    لقد كانت تعتبرني شيئا كبيرا عاليا في الماضي ، و الآن بعدما كبرت ... ترى ماذا أصبحت أعني لها ؟؟
    فيما بعد ، نعمت باستحمام طويل و مركز !
    نظفت جسدي و ذاكرتي من كل ما علق بهما من أيام السجن ... و بلاء السجن ...
    بدوت بعدها ( شخصا محترما ) ، إنسانا مكرما ... رجلا يستحق الاهتمام ....

    حينما حضر سامر للغرفة بعد ذلك ، أطلق صفرة حادة مداعبا !

    " ما كل هذه الوسامة يا رجل ! بالفعل كأبطال السينيما ! "

    ابتسمت ، ثم قلت :

    " يجب أن تصحبني إلى الحلاق اليوم لأقص شعري ! "

    قال :

    " أبقه هكذا يا رجل ! تبدو جذابا به ! "

    ضحكنا كثيرا ، ثم خرجت معه من الغرفة فإذا بي أرى أمي و أبي يقفان في الردهة ...
    ابتسما لرؤيتي ، و تبادلنا حديثا قصيرا ، ثم ذهبنا أنا و أبي و سامر لتأدية صلاة الظهر في المسجد .
    عندما عدنا ، و ما أن وطأت قدمي أرض مدخل المنزل ، حتى هاجمت أنفي روائح أطعمة شهية جدا !
    أخذت نفسا عميقا متلذذا بالرائحة الرائعة !
    ظهرت أمي ، و قادتنا إلى غرفة المائدة ...
    و ذهلت للأطباق الكثيرة التي ملأت المائدة عن آخرها ...

    " أوه ! كل هذا !؟ "

    نظرت إلى أمي بتعجب ، فابتسمت و قالت :

    " تفضل بني بالهناء و العافية "

    لا أخفيكم أن معدتي كانت تستصرخ !
    انقبضت مصدرة نداء استغاثة ، ثم توسعت أقصى ما أمكنها استعدادا للكميات الكبيرة التي أنوي التهامها !

    في هذه اللحظة تذكرت صديقي سيف ، قلت :

    " سيف ! يجب أن اتصل بسيف ! "

    و ذهبت إلى حيث يجلس الهاتف بسكون ، و اتصلت به في الشقة حيث كنا
    اعتذر سيف عن الحضور و قال أنه لا يود التسبب بأي حرج على أفراد العائلة في هذا الوقت ، لكنه وعد بالحضور مساء ...
    اتخذت مجلسي حول المائدة ، على يمين والدتي ... ، فيما سامر إلى يسار والدي . و أخيرا أقبلت الفتاتان ، دانة و رغد ... فجلست دانة إلي يمين والدي ، و بقي الكرسي الأخير ... المقابل لي شاغرا ...
    أقبلت رغد فجلست مقابلي على ذلك الكرسي ، و اتضح لي فيما بعد أنني جلست على الكرسي الذي تجلس هي عليه في العادة !
    كانت ترتدي رداءا طويلا ، و حجابا .
    لا أخفيكم أنني كنت أشعر بشيء كلسعة الكهرباء كلما التقت نظراتنا عفويا
    إنها صغيرتي رغد !
    محبوبتي المدللة التي حرمت من رؤيتها و العناية بها لثمان سنين ...
    تعرفون ما تعني لي ...
    و قد كبرت و لم يعد بإمكاني مداعبتها كالسابق ...
    إنني أريد أن أطعمها هذه البطاطا المقلية بيدي !
    إنني أشعر بأنها تراقبني !
    ليست هي فقط ... بل الجميع يراقبني
    إنني رغم شهيتي العظمي للطعام تصرفت بلباقة و تهذيب ، و أكلت بنفس السرعة التي بها يأكلون ....
    و لكن لوقت أطول ... و لكميات أكبر !
    ما أشهى أطباق أمي !
    كل شيء يبدو لذيذا جدا ... حتى الماء ...
    لم أذق للماء طعما منذ ثمان سنين ...
    و هل للماء طعم ؟؟
    أنا أعتبر نفسي دخلت الجنة بخروجي من ذلك الجحيم ... السجن ...
    الحمد لله ...

    أمور كثيرة قد تحدثنا عنها إلا أن السجن لم يكن من ضمنها مطلقا
    كما و أنني لم أكن مقبلا على الحديث ، بل الاستماع ... و علمت عن أشياء كثيرة و تطورات جديدة حدثت في البلاد و الحياة خلال سنوات غيابي .
    و كانت رغد أقلنا حديثا ، بل إنها بالكاد تنطق بكلمة أو كلمتين من حين لآخر
    كنت أريد أن أتحدث معها ...
    أسألها عما عملت في غيابي ...
    أمسك بيديها ...
    أمسح على شعرها ...
    أضمها إلي ...
    كما كنت أفعل سابقا ... فهي طفلتي التي اشتقت لها كثيرا جدا جدا ... أكثر من شوقي لأي شخص آخر ...
    لست بحاجة لوصف المزيد فأنتم تعرفون ...
    لكنها الآن أمامي فتاة بالغة ترتدي الحجاب ... لا أجرؤ حتى على إطالة النظر إليها أكثر من بضع ثوان ...
    هل تتصورون كيف هو شعوري الآن ؟؟
    لقد قضيت ثمان سنوات من العذاب... تغير في الدنيا خلالها ما تغير ، إلا أن حبي لهذه الفتاة لم يتغير ... و إن لم أعد الماضي الجميل و علاقتي الرائعة بها فسوف أصاب بالجنون !

    قلت ، في محاولة مستميتة لإحياء الماضي الميت و إشعارها و إشعار نفسي بأن شيئا لم يتغير :

    " رغد ... صغيرتي ... إلى أين وصلت في الدراسة ؟ "

    رغد رفعت بصرها إلي في خجل ، و قد تورد خداها ، و قالت :

    " أنهيت الثانوية ! و سوف ألتحق بإحدى الكليات العام المقبل "

    ابتسمت بسعادة ! فطفلتي الصغيرة ستدخل الجامعة !

    " عظيم ! مدهش ! أبهجتني معرفة ذلك ! وفقك الله "

    ابتسمت رغد بخجل شديد ، ثم قالت :

    " و أنت ؟ هل أنهيت دراستك أم لا زال هناك المزيد بعد ؟؟ "

    تصلبت تماما لدى سماعي هذا السؤال ...
    و نقلت بصري إلى أمي ... أبي ... سامر ... و دانة ...
    و علامات الذهول صارخة في وجهي ...

    أبى قال مرتبكا :

    " يكفي لحد الآن ! هل تظنين أننا سنتركه يغادر ثانية ! مستحيل "
    نظرت إلى أمي و سامر ، فإذا بهما يتحاشيان النظر إلي ...
    أما دانة فكانت مشغولة بتقطيع الطعام و مضغه ...
    و رغد ، حين عدت ببصري إليها وجدتها تبتسم ...
    شعرت باستياء كبير لهذه الحقيقة التي فاجؤوني بها ...
    لم يبد على رغد أنها تعلم ... أنني كنت في السجن !
    هل أخبروها بأنني سافرت لأدرس ؟؟
    ألم أطلب أنا منهم ذلك ؟
    ألا يزالون محتفظين بالسر ؟؟

    انزعجت كثيرا لاستنتاج ذلك ، و فقدت شهيتي لتناول المزيد ...
    لكنني شربت حصتي من عصير البرتقال كاملة ، لعلمي المسبق بأن رغد هي التي حضرته ...
    بعد الغذاء ذهبت مع أهلي في جولة داخل المنزل لأتعرف على أجزائه ، و كان موضوع جهل رغد بأمر سجني يسيطر على تفكيري ... و يتعسني ...

    و انتهزت أول فرصة سنحت لي فسألت والدي :

    " ألا تعلم رغد بأنني ... كنت في السجن ؟؟ "

    والدي تردد قليلا ثم أجاب :

    " لم يكن بإمكاننا إخبارها بشيء كهذا ذلك الوقت ... ثم كبرت ... و دانة ... و لم نجد داعيا لإعلامهما بالحقيقة "

    غضبت كثيرا من هذا التصرف ، فأنا الآن وضعت في وجه المدفع ... لا أعرف كيف ستتصرف رغد حين تعلم بالأمر ... و لا حتى دانة ...

    الاستياء كان واضحا على وجهي ، فقال أبي :

    " هون عليك يا وليد ... نتحدث عن ذلك فيما بعد "

    كان الأمر شديد الأهمية بالنسبة لي ...
    في المساء ، كنت أشاهد التلفاز مع والدي و والدتي في غرفة المعيشة ، ثم أردت الاتصال بصديقي سيف لأؤكد عليه الحضور
    لم أشأ استخدام الهاتف الذي يقع فوق التلفاز مباشرة لذلك خرجت من غرفة المعيشة و توجهت نحو المطبخ ... و هو الأقرب إلى الغرفة ..
    لقد كان الباب مغلقا ، لذا طرقته أولا ...

    فتح الباب قليلا و ظهرت دانة

    " أهلا وليد! أتريد شيئا ؟؟ "

    " أردت استخدام الهاتف "

    ابتسمت دانة و قالت :

    " اذهب إلى غرفة المعيشة أو الضيوف !"

    استغربت ، فقلت :

    " هاتف المطبخ لا يعمل ؟ "

    ابتسمت مجددا و قالت :

    " بلى ! لكن رغد بالداخل ! "

    شيء أثار جنوني ... فقبضت يدي بقوة ... و قهر
    بعد أن كانت رفيقتي أينما ذهبت ، أصبحت ممنوعا من الدخول إلى حيث توجد هي ...
    لن يستمر الوضع هكذا لأنني سأجن حتما ...
    لسوف أتحدث مع أبي بهذا الشأن في أقرب فرصة ... لا ... بل الآن !
    و استدرت قاصدا غرفة الضيوف إلا أنني وقفت فجأة و بذهول ... حين رأيت باب المطبخ يتحرك ، و يفتح ، و يخرج سامر منه !
    خرج سامر مبتسما و أغلق الباب ، و بقيت محملقا فيه بذهول ...

    سامر نظر إلي و ابتسم و قال :

    " غرفة الضيوف من هنا "

    أنا بقيت واقفا مصعوقا ... و أخيرا تحرك لساني المعقود فقلت :

    " رغد ... بالداخل ؟؟ "

    أجاب مبتسما :

    " نعم ! ... لم تجلب الحجاب معها "

    جننت ، و لم أعد قادرا على فهم شيء أو تصور شيء !
    ببلاهة و اضطراب و تشتت فكر قلت ، و أنا أشير بإصبعي إلى سامر :

    " لكن ... أنت ... ؟؟؟ "

    سامر رفع حاجبيه و فغر فاه بابتسامة استنتاج ، كمن فهم و أدرك لتوه أمرا لم ينتبه له من قبل ...

    " آه ! تقصد أنا ... ؟؟ نعم ... فـ... نحن ... "

    و ضحك ضحكة خفيفة ، ثم أتم الجملة التي قضت على آخر آخر ما كان في ّ من بقايا فتات وليد :

    " نحن ... مخطوبان ! "

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    الحلقةالثانيةعشرة
    *****************


    لقد قضيت اليوم بكامله في المطبخ !
    فبعد وجبة الغذاء العظيمة التي أعددناها صباحا ، الآن نعد وجبة عشاء من أجل وليد و صديقه الذي سيتناول العشاء في منزلنا .
    إنني أشعر بالتعب و أريد أن أنام ! لكن دانة لي بالمرصاد ، و كلما استرخيت قليلا طاردتني بقول :

    " أسرعي يا رغد ! الوقت يداهمنا ! "

    كان سامر يساعدنا و لكنه خرج قبل لحظة ، و الآن أستطيع أن أتحدث عن وليد دون حرج !!

    " أخبريني يا دانة ، ما هو التخصص الذي درسه وليد ؟؟ "

    دانة منهمكة في صف الفطائر في الصينية قبل أن تزج بها داخل الفرن ...

    قالت :

    " أعتقد الإدارة و الاقتصاد ! "

    صمت قليلا ثم قلت :

    " و أي غرفة سنعد له ؟ أظنها غرفة الضيوف ! فالبيت صغير ... ألا توافقينني ؟ "

    قالت :

    " بلى "

    انتظرت بضع ثوان ثم عدت أسأل :

    " ألا يبدو أنه قد نحل كثيرا ؟ ألم يكن أضخم في السابق ؟ "

    قالت :

    " بلى ... كثيرا جدا ! لابد أنه لم يكن يأكل جيدا هناك "

    قلت :

    " أرأيت كيف التهم البطاطا التي أعددتها كلها ؟ لابد أنها أعجبته ! "

    التفتت دانة إلي ببطء و قالت :

    " و كذلك أكل السلطة التي أعددتها ، و الحساء الذي أعدته أمي ، و الدجاج و الأرز و العصير و كل شيء ! بربك ! هل تعتقدين أن طبقك المقلي هذا هو طبق مميز ! "

    قلت مستاءة :

    " أنت دائما هكذا ! لا يعجبك شيء أصنعه أنا "

    انصرفت دانة عني لتضع صينية الفطائر داخل الفرن ، و ما أن فرغت حتى بادرتها بالسؤال :

    " ألا يبدو أقرب شبها من أبي ؟ فأنت و سامر تشبهان أمي ! "

    قالت :

    " لا أعرف ! "

    ثم التفتت إلي و قالت :

    " و أنت ِ !؟ من تشبهين ؟؟ "

    صمت قليلا ، ثم قلت :

    " ربما أمي المتوفاة ! "

    لكنها قالت :

    " لا ! بل تشبهين شخصا آخر ! "

    سألت باهتمام :

    " من ؟؟ "

    ابتسمت بخبث و قالت :

    " الببغاء ! فأنت ثرثارة جدا ! "

    رميت بقطعة من العجين ناحيتها فأصابت أنفها ، فأطلقتُ ضحكة كبيرة !
    أما هي فقد اشتعلت غضبا و أقبلت نحوي متأبطة شرا !
    تركت كرة العجين التي كنت ألتها من يدي و ذهبت أركض مبتعدة و هي تلاحقني حتى اقتربت من الباب و كدت أفتحه

    " انتظري ! وليد بالخارج "

    أوقفت يدي قبل أن تدير المقبض و التفت إليها و قلت :

    " صحيح ؟؟ "

    قالت :

    " نعم فهو من طرق الباب قبل لحظة ، دعيني أستوثق من انصرافه أولا "

    تنحيت جانبا ، منتظرة منها أن تفتح الباب ، فأقبلت نحوي و على حين غرة ، و بشكل مفاجئ ، ألصقت قطعة العجين على أنفي و ضحكت بقوة و ركضت مبتعدة قبل أن أتمكن من الفرار منها !
    أنا فتحت الباب بسرعة لأهرب لكن بعد فوات الأوان !
    و تخيلوا من لمحت في الثانية التي فتحت الباب فيها ثم أغلقته بسرعة ؟؟
    لقد كان وليد !
    كم شعرت بالإحراج و الخجل و ابتعدت عن الباب في اضطراب
    لا بد أنه رآني هكذا ... و قطعة العجين ملتصقة بأنفي ! أوه يا للموقف المخجل !
    نزعت العجين و رميت به نحو دانة و أنا أقول :

    " لماذا لم تقولي لي أن وليد خلف الباب ؟؟ "

    رفعت دانة حاجبيها و قالت :

    " بلى قلت لك ! "

    " ظننتك تمزحين للإيقاع بي ! لقد رآني هكذا ! "

    دانة ابتسمت ابتسامة صغيرة ، ثم قالت :

    " أنت و وليد مشكلة الآن ! يجب ألا تغادري غرفتك بعد اليوم ! "

    قلت :

    " شكرا لك ! إذن أتمي تحضير الفطائر و أنا سأذهب للنوم ! "

    في هذه اللحظة فتح الباب فدخل سامر ...

    نظر مباشرة إلي و قال :

    " ذهب إلى غرفة الضيوف ، إن كنت تودين الخروج "

    نظرت إلى دانة ثم إلى سامر ، و الحمرة تعلو خدّيّ و قلت بمكر :

    " نعم سأذهب ! "

    و انطلقت مسرعة نحو غرفتي ...

    غير آبهة بنداءات دانة المتكررة !
    بعد أن غسلت وجهي و يدي في الحمام المشترك بين غرفتي و غرفة دانة توجهت نحو سريري و استلقيت باسترخاء
    كم كنت متعبة !
    إنني لم أنم البارحة كما ينبغي و عملت كثيرا في المطبخ
    و للعلم ، فإن العمل في المطبخ ليس أحد هواياتي ، فأنا لا أهوى غير الرسم ، لكنني أردت المساعدة ...
    تقلبت على سريري يمينا و يسارا و أنا أفكر ...
    ما الذي سيقوله وليد عني !؟
    فالفتيات البالغات لا يغطين أنوفهن بقطع العجين !
    إلا إذا كانت طريقة جديدة لترطيب البشرة و تغذيتها !
    شعرت بالدماء تصعد إلى وجهي بغزارة ... لابد أن وجهي توهج الآن ... لم لا ألقي نظرة !
    قفزت من السرير و أسرعت نحو المرآة ... و رأيت حمرة قلما أرى لها مثيلا على وجهي هذا !
    أبدو جميلة ! و لابد أنني مع بعض الألوان سأغدو لوحة رائعة !
    نزلت ببصري للأسفل و فتحت أحد الأدراج ، قاصدة استخراج علبة الماكياج بفكرة جنونية لتلوين وجهي هذه اللحظة !
    الشيء الذي وقعت عليه يدي بمجرد أن أدخلتها داخل الدرج كان جسما معدنيا باردا .. أمسكت به و أخرجته دون أن أنظر إليه ثم رفعت به نحو عيني ّ مباشرة ...
    إنها ساعة وليد ...
    نسيت فكرتي السخيفة بوضع المساحيق ، و عدت حاملة الساعة إلى سريري و استلقيت ببطء
    الآن .. الفكرة التي تراودني هي إعادة هذه الساعة لوليد ...
    لابد أنه سيفاجأ حين يراها ... و يعرف أنني ظللت محتفظة بها و أرتديها أيضا خلال السنوات الماضية !
    قمت فجأة عن سريري و ارتديت ردائي و حجابي و طرت مسرعة للخارج
    دعوني أخبركم بأنني قلما أفكر في الشيء مرتين قبل أن أقدم عليه !

    لقد أخبرني سامر أنه في غرفة الضيوف و مع ذلك مررت بغرفة سامر ، ثم غرفة المعيشة ، و بالطبع تجنبت المطبخ ، قبل أن أذهب إلى غرفة الضيوف حاملة ساعة وليد بيدي ...
    حين وصلت عند الباب ، و كان مفتوحا ، استطعت أن أرى من بالداخل ، و لم يكن هناك أحد غيره ...
    وليد كان جالسا على أحد المقاعد ، بالتحديد المقعد المجاور للمنضدة التي تحمل الهاتف و قد كان مثنيا جذعه للأمام و مسندا رأسه إلى يديه ، و مرفقيه إلى ركبتيه في وضع يشعر الناظر بأنه ... حزين
    طرقت الباب طرقا خفيفا ، ألا أنه لم يسمعه
    فأعدت الطرق بشكل أقوى و أقوى ، حتى رفع رأسه ببطء و نظر إلي ...
    و ما أن التقت أنظارنا حتى علت وجهه تعابير غريبة و مخيفة ...
    بدت عيناه حمراوين و جاحظتين و مفتوحتين لحد تكادان معه أن تخرجا من رأسه !
    و لمحت زخات العرق تقطر من جبينه العريض
    حملق وليد بي بشدة أثارت خوفي ... فرجعت خطوة للوراء ... و حالما فعلت ذلك وقف هو فجأة كمن لدغته أفعى !
    أنا ازدردت ريقي بفزع ثم حاولت النطق فجاءت كلماتي متلعثمة :

    " كنت ... أعني ... لدي شيء أود إعطائك إياه ... "

    وليد ظل واقفا في مكانه كالجبل يحدّق بي بحدّة ... ربما أزعجه أن أحضر بمفردي ... أو ربما ... ربما ...

    لم أستطع حتى إتمام أفكاري المبعثرة لأنه تقدم خطوة ، ثم خطوة ، تلو خطو باتجاهي
    لقد كنت أمسك بالساعة في يدي اليمنى ، و لا شعوريا تحركت يدي للخلف و اختبأت بالساعة خلف ظهري ...
    لا أظن أن وليد رآها و لكن ...
    حين صار أمامي مباشرة ، مد يده بسرعة و انقض على يدي اليمنى و سحبها للأمام بعنف
    ارتعدت أطرافي و جفلت !
    وليد قرّب يدي من عينه و أخذ يحدق بها بنظرات مخيفة و قاسية ، فيما يشد بقبضته عليها حتى يكاد يهشم عظامها ...

    نطق لساني بفزع و اضطراب :

    " أنا ... لم ... كنت ... سأعيدها إليك ! "

    وليد ظل قابضا على يدي بقوة ، و يحدّق في عيني بنظرات تكاد تخترق عيني و رأسي و الجدار الذي خلفي ...

    في تلك العيون الحمراء القادحة بالشرر ... رأيت قطرات الدموع تتجمع ... ثم تفيض ... ثم تنسكب ... ثم تشق طريقها على الخد العابس ... ثم تنتهي عند الفك المنقبض ...

    لقد تهت في بحر هذه العيون و غرقت في أعماقها ...

    أخذتني إلى ذكرى قديمة موجعة ... حاولت جهدي أن ألغيها من ذاكرتي ... فرأيت وليد و هو يبكي بمرارة و شدة ذلك اليوم و هو جاث ٍ فوق الرمال قرب السيارة ..
    يمد يده إلي و يقول :

    " تعالي يا رغد "

    " وليد ... "

    نطقت باسمه فإذا به يغمض عينيه بقوة و يعض على أسنانه بشدة .. و يشدد قبضته على يدي و يؤلمني ...

    بعدما فتح عينيه ، ظل يحدق في يدي قليلا ، ثم فجأة انتزع الساعة من بين أصابعي و رمى بها نحو الجدار و زمجر بقوة :

    " انصرفي "

    أنا انتفضت بذعر ... و ارتجفت جميع أطرافي ... فتحركت خطوة للوراء ... ثم انطلقت بأقصى ما أمكنني ... و بأوسع خطى ... و ذهبت إلى غرفتي ... فدخلت و أغلقت الباب بل و أوصدته مرتين ، ثم تهالكت على سريري ...

    كان قلبي ينبض بسرعة عجيبة و أنفاسي تعصف رئتي بقوة ... و أنظر إلى يدي فأراها ترتعش ... فيما تشع احمرارا أثر قبضة وليد القوية عليها ...

    بعدما هدأت قليلا اقتربت من المرآة فهالني المظهر الذي كساني
    أصبحت مرعبة !
    ألم أكن جميلة قبل قليل ؟؟
    لا أعرف لماذا فعل وليد ذلك ...
    هل غضب لأنني ظهرت من المطبخ و العجين يغطي أنفي ، فبدوت كطفلة غبية ؟؟
    أم لأنني لم أكن ارتدي الحجاب وقتها ؟؟
    أم ماذا ؟؟

    و جعلت الأفكار تلعب في رأسي حتى أتعبته ...
    الساعة !
    لقد حطّمها !
    لقد احتفظت بها كل هذه السنين لأعيدها إليه ... لماذا فعل ذلك ؟؟ لماذا ؟؟

    شعرت بشيء يسيل على خدي رغما عني
    بكيت من الذعر و الخوف ... و الحيرة و الدهشة ...
    لا أعرف كيف سيكون لقاؤنا التالي ...
    لم يعد هذا وليد !
    وليد لم يكن يصرخ في وجهي و يقول :

    " انصرفي "

    كان دائما يبتسم و يقول :

    " تعالي يا رغد !! "

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    رميت بجسدي المثقل بالهموم على أقرب مقعد للباب .. و أطلقت العنان لشلالات الدموع لأن تعبر عن قسوتها بالقدر الذي تشاء

    لم يكن أمامي شيء يرى ... أو يسمع .. أو يثير أي اهتمام
    لا شيء يستحق أن أعيش لأجله ... بعدما فقدت أهم شيء عشت على أمل العودة إليه حتى هذه اللحظة
    رفعت رأسي إلى السقف و أردت لأنظاري أن تخترقه و تنطلق نحو السماء ...

    يا رب ...

    لقد كانت لدي أحلامي و طموحي منذ الصغر ...
    و أمور ثلاثة كانت تشغل تفكيري أكثر من أي شيء آخر ...
    الحرب ، و ها قد قامت و تدمر ما تدمر ، و لم يعد يجدي القلق بشأن قيامها
    الدراسة ، و ها قد انتهت و ضاعت ... و قضيت أهم سنوات عمري في السجن بدلا من الجامعة ... و انتهى كل شيء و لم يعد يقلقني التفكير فيه ...
    و رغد ...
    رغد ..
    أول و آخر و أهم أحلامي ...
    رغد الحبيبة ... مدللتي التي رعيتها منذ الصغر ...
    و راقبتها و هي تنمو و تكبر ...
    يوما بعد يوم ...
    و قتلت عمار انتقاما لها ...
    و قضيت أسوأ و أفظع سنوات حياتي حتى الآن ... في السجن
    منفيا مبعدا مهجورا معزولا عن الأهل و الدنيا و الحياة ... و نور الشمس ...
    و ذقت الأمرين ... و سهرت الليالي و أنا أتأمل صورتها و أعيش على الأمل الأخير لي ... بالعودة إليها و لو بعد سنين ...
    أعود فأراها مخطوبة لغيري !
    و من ؟؟
    لشقيقي ..؟؟
    يا رب
    رحمتك بي
    فانا لست حملا لكل هذا
    و لم يعد بي ذرة من القوة و الاحتمال ...

    كنت أبكي بحرقة و لا أشعر بشيء من حولي ، حتى أحسست بيد تمسك برأسي و تأخذني إلى حضن لطالما حننت إليه ...

    " ولدي يا عزيزي ما بك ؟ لماذا تبكي يا مهجة فؤادي ؟"

    و أجهشت أمي بكاءا و هي تراني أبكي بحرارة

    حاولت أن أتوقف لكنني لم استطع ...
    لقد تلقيت صدمة لا يمكن لقلب بشر أن يتحملها ...
    رغد !؟
    رغد صغيرتي أنا ... أصبحت زوجة لأخي ؟؟
    إن الأرض تهتز من حولي و جسدي يشتعل نارا و تكاد دموعي تتبخر من شدة الحرارة ...

    لم أجد في جسدي أي قوة حتى لرفع ذراعي و تطويق أمي ... بكيت في حضنها كطفل ضعيف هزيل جريح ... لا يملك من الأمر شيئا ...

    بعد فترة من الزمن لا أستطيع تحديدها ، حضر والدي و حالما رآنا أنا و أمي على هذا الوضع قال :

    " يكفي يا أم وليد ... دعي ابننا يلتقط أنفاسه أما اكتفيت ؟؟ "

    والدتي أخذت تحدق بي بين طوفان الدموع ...
    قلت بلا حول و لا قوة و بصوت أقرب إلى النحيب منه إلى الكلام :

    " أنا متعب ... متعب جدا ... لقد انتهيت ... انتهيت ... "

    و بعد حصة البكاء هذه صعدا بي إلى غرفة سامر ، و جعلاني أضطجع على السرير و هما يقولان :

    " ارتح يا بني ... نم لبعض الوقت "

    ثم غادرا ...

    و أنا مضطجع على الفراش و وجهي ملتف ٌ نحو اليمين ... و دموعي لا تزال تنهمر و تغرق الوسادة ، وقع ناظري على الهاتف ...
    مددت يدي و أخذته و استرجعت بصعوبة رقم هاتف الشقة التي يقيم سيف بها و اتصلت به

    " يجب أن تحضر الليلة "

    بعدها ... جاء سامر يخبرني بأن سيف قد حضر ...
    كان سامر يبتسم ، و إن بدت من نظراته علامات القلق ... خصوصا و هو يرى الوجوم الغريب على وجهي الذي كان مشرقا طوال النهار
    ذهبت معه إلى حيث كان سيف و والدي يجلسان و يتبادلان الأحاديث ...
    لابد أن الجميع قد لاحظ شرودي ... و عدم إقبالي على الطعام ، على عكس وجبة الغذاء التي التهمت حصتي منها كاملة تقريبا

    " ما بك لا تأكل يا وليد ؟ كُلْ حتى تسترد الأرطال التي فقدتها من جسمك ! "

    أجبت ببرود و بلادة :

    " اكتفيت "

    و بعد العشاء جلسنا في غرفة الضيوف نشرب الشاي ، و كانوا هم الثلاثة ، أبي و سامر و سيف ، في قمة السعادة و يتبادلون الأحاديث و الضحك ...
    أما تفكيري أنا فكان متوقفا و جامدا عند اللحظة التي قال فيها آخي :

    ( نحن مخطوبان )

    بعد ساعة ، استأذن سيف للانصراف و أخذ يصافح الجميع و حين أقبل نحوي قلت :

    " سأذهب معك "

    أبي و سامر تبادلا النظرات ثم حدقا بي ، كما يفعل سيف ... و قالا سوية و باستغراب :

    " ماذا ؟؟ "

    و أنا لا أزال ممسكا بيد سيف و ناظرا إليه أجبت :

    " إذ لا سرير لي هنا ... "

    و توقفت قليلا ثم تابعت :

    " و لا أريد ترك صديقي وحيدا "

    كان سيف يعتزم السفر بعد يوم آخر ، لينال قسطا أوفر من الراحة بعد مشقة الرحلة الطويلة التي قطعناها ...
    و انتهى الأمر بأن خرجت معه دون أن أودع غير والدي ، و سامر ...

    في السيارة بعد ذلك ، فتحت الخزانة الأمامية و استخرجت علبة السجائر التي كنت قد دسستها بداخلها أثناء تجوالنا
    و فتحت النافذة ، ثم أشعلت السيجارة و التفت إلى سيف و قلت :

    " أتسمح بأن أدخن ؟؟ "

    صديقي سيف لم يكن من المدخنين ، أومأ برأسه إيجابا و فتح نافذته ، و انطلق بالسيارة ...

    بقيت صامتا شاردا طوال المشوار ، و لم يحاول سيف خلخلة صمتي بأي كلام
    بعد فترة ، و نحن نقف عند الإشارة الأخيرة قبل المبنى حيث نسكن ، و فيما أنا في شرودي و دهليز أفكاري اللانهائي ، قال سيف :

    " متى بدأت تدخن ؟؟ "

    لم أجبه مباشرة ، ليس لأنني لم أسمعه أو أستوعب سؤاله ، بل لأن لساني لم يكن يدخر أي كلام ...

    " السجن يعلّم الكثير ... "

    قلت ذلك و ابتسمت ابتسامة ساخرة باهتة شعرت بأن سيف قد رآها رغم تركيزه على الطريق ...
    تذكرت لحظتها تلك الأيام ...
    و أولئك الزملاء في السجن ...
    لماذا أشعر بهم الآن حولي ؟؟
    كأني أشم راحة الزنزانة !
    ربما أثارت رائحة السيجارة تلك الذكريات السوداء !
    و هل يمكن أن أنساها ؟
    و هل يعقل أن تختفي و أنا لم أبتعد عنها غير أيام فقط ...؟؟
    ليتهم ...
    ليتهم قتلوني معك يا نديم ...
    ليتنا تبادلنا الأرواح ...
    فمت ُّ أنا
    و بقيت أنت ... و خرجت لتعود لأهلك و بلدك و أحبابك ...
    أنا ... لا أهل لي و لا بلد ...
    و لا أحباب ...

    لمحت الإشارة تضيء اللون الأخضر و أنا أسحق سيجارتي في ( المطفئة)
    ثم انطلق وليد بالسيارة ...
    أنوار كثيرة كانت تسبح في الظلام ...
    مصابيح السيارات القادمة على الطريق المعاكس
    مصابيح المنازل
    مصابيح الشارع ...
    لافتات المحلات الضوئية
    نور على نور على نور ...
    كم هو أمر مزعج ... لم أعد أرغب في رؤية شيء ...
    أتمنى ألا تشرق الشمس يوم الغد ...
    أتمنى ألا يعود الغد ...
    أتمنى ... ألا أذكر رغد ...

    كانت المرة الثانية في حياتي ، التي تمنيت فيها لو أن رغد لم تخلق ...

    عندما دخلنا الشقة، و هي مكونة من غرفة نوم و صالة صغيرة و زاوية مطبخ و حمام واحد ... أسرعت الخطى نحو غرفة النوم و دون أن أنير المصباح دخلت و ألقيت بجسدي المخدر أثر صدمة النبأ على أحد السريرين ...

    ثوان ، و إذا بسيف يقبل و يشعل المصباح

    " كلا .. أرجوك أطفئه "

    قلت ذلك و أنا أرفع يدي ثم أضعها فوق عيني المغمضتين لأحجب عنهما النور ...
    سيف بادر بإطفاء المصباح و بقي واقفا برهة ... ثم أغلق الباب و أحسست به يتقدم ... ثم يجلس فوق السرير الآخر و الموازي لسريري ...

    ساد السكون لبعض الوقت ، إلا من ضوضاء تعشش في رأسي بسبب الأفكار التي تتعارك في داخله ...

    " ماذا حدث ؟؟ "

    سألني سيف بصوت هادئ منخفض ...
    لم أجبه ... و مرت دقائق أخرى فاعتقدت أنه حسبني قد دخلت عالم النيام ... لكنه عاد يقول :

    " أخبرني ... ، إنك لست على ما يرام "

    بعد ذلك أحسست بحركته على السرير المجاور و بصوته يقترب أكثر ...

    " وليد ؟؟ "

    الآن فتحت عيني قليلا و لدهشتي رأيه يقف عند رأسي و يحدق بي ...
    الظلام كان يطلي الغرفة بسواد تام ، إلا عن إضاءة بسيطة تتسلل بعناد من تحت الباب
    و يبدو إنها كانت كافيه لتعكس بريق الدموع التي أردت مواراتها في السواد .
    لحظة من لحظات الضعف الشديد و الانهيار التام .. توازي لحظة تراقُص الحزام في الهواء ... ثم سكونه النهائي على الرمال ... إلى حيث لا مجال للعودة أو التراجع ... فقد قضي الأمر ...

    جلست ، ليست قوتي الجسدية هي التي ساعدتني على النهوض ، و لا رغبتي الميتة في الحراك ، بل الدموع التي تخللت تجويف أنفي و ورّمت باطنه و سدت المعبر أمام أنفاسي البليدة البطيئة ... و كان لابد من إزاحتها ...

    تناولت منديلا من العلبة الموضوعة فوق المنضدة الفاصلة بين السريرين و جعلت أعصف ما في جوفي و صدري و كياني ... خارجا

    إلى الخارج ...
    يا دموعي و آلامي
    يا أحزاني و ذكريات الماضي
    إلى الخارج يا حبي و مهجة قلبي
    إلى الخارج يا بقايا الأمل
    إلى الخارج يا روحي ...
    و كل ما يختزن جسمي من ذرات الحياة ....
    و إلى الخارج ...
    يا اعترافات لم أكن أتوقع أنني سأبوح بها ذات يوم ... لأي إنسان ...

    " هل واجهت مشكلة مع أهلك ؟؟ ... بالأمس كنت ... كنت َ ... "

    و صمت ...

    فتابعت أنا مباشرة :

    " كنت ُ أملك الأمل الأخير ... و قد ضاع و انتهى كل شيء ...
    إنني لم أعد أرغب في العودة إليهم ! سأرحل معك يا سيف "

    قلت ذلك و كانت فكرة وليدة اللحظة ، ألا أنها كبرت فجأة في رأسي و احتلت عقلي برمته ، ففتحت عيني و حملقت في الفراغ الذي خلقت منه هذه الفكرة ثم استدرت نحو سيف و قلت :

    " أنا عائد معك إلى مدينتنا ! "

    طبعا سيف تفاجأ و لم يكن الظلام ليسمح لي برؤية ظاهر ردود فعله أو سبر غورها

    سمعته يقول :

    " ماذا ؟ ! "

    قلت مؤكدا :

    " نعم ! سأذهب معك ... فلم يعد لي مكان أو داع هنا "

    سيف صمت ، و لم يعلق بادئ الأمر ، ثم قال :

    " أما حدث ... كان سيئا لهذا الحد ؟؟ "

    و كأن جملته كان شرارة فجرّت برميل الوقود ...
    ثرت بجنون ، قفزت من سريري مندفعا هائجا صارخا :

    " سيئ ٌ فقط ؟؟ بل أسوأ ما يمكن أن يحدث على الإطلاق ... إنها خيانة ! إنهما خائنان ... خائنان ... خائنان "

    مشيت بتوتر و عصبية أتخبط في طريقي ... أبحث عن أي شيء أفرغ فيه غضبي بلكمة قوية من يدي لكنني لم أجد غير الجدار ...

    و هل يشعر الجدار ؟؟

    آلام شديدة شعرت أنا بها في قبضة يدي أثر اللكمة المجنونة نحو الجدار ، و استدرت بانفعال نحو سيف الذي ظل جالسا على السرير يراقبني بصمت ...

    " لقد سرقوا رغد مني ! "

    لأن شيئا لم يتحرك في سيف استنتجت أنه لم يفهم ما عنيته ... قلت :

    " أعود بعد ثمان سنوات من العذاب و الألم ... و الذل و الهوان الذي عشته في السجن بسبب قتلي لذلك الحقير الذي أذاها ... ثمان سنوات من الجحيم ... و المرارة ... و الشوق ... فقدت فيها كل شيء سوى أملى بالعودة إليها هي ... أعود فأجدها ... "

    و سكت ...
    لأنني لم أقو على النطق بالكلمة التالية ...
    و درت حول نفسي بجنون ، ثم تابعت ، و قد خرجت الكلمة من فمي ممزوجة بالآهة و الصرخة و الحسرة :

    " أجدها مخطوبة ؟؟ "

    هنا وقف سيف ...
    إلا أنني لم أكن قد انتهيت من إفراغ ما لدي

    قلت بصوت صارخ جاد مزمجر :

    " و لمن ؟؟ لأخي ؟؟؟ أخي ؟؟؟ "

    حتى لو كانت الغرفة منارة لم أكن لأستطيع رؤية شيء وسط انفعالي الشديد ساعتها ...
    لذا لا أعرف كيف كانت تعابير وجه سيف ...
    و لكن بإمكاني رؤية خياله واقفا هناك ...
    اندفعت كلماتي مقترنة بدموعي و زفيري القوي و صوتي الأجش المجلل ... و أنا أقول :

    " لو كان ... لو كان شخصا آخر ... أي شخص ... لكنت قتلته و محوته من الوجود ... لكنه أخي ... أخي يا سيف ... أخي ...
    كيف تجرأ على سرقتها مني ؟؟
    كيف فعلوا هذا بي ؟؟
    أهذا ما أستحقه ؟؟
    ليتني لم أخرج من السجن
    ليتني مت هناك
    ليتني أفقد الذاكرة و أنسى أنني عرفتها يوما
    الخائنة ...
    الخائنة ...
    الخائنة ... "

    و انتهيت جاثيا على الأرض في بكاء شديد كالأطفال ...

    " لقد أطعمتك ِ بيدي ... كيف تفعلين هذا بي يا رغد ؟؟ أنا قتلته انتقاما لك ِ أنت ِ ...
    أيتها الخائنة ... أكان هذا حلمك ...؟
    اذهبي بأحلامك إلى الجحيم ... "

    و أدخلت يدي إلى جيبي ، و أخرجت منه الصورتين اللتين رافقتاني و لازمتاني لثمان سنين ، لستين دقيقة من كل ساعة من كل يوم ...
    أخرجتهما و أخرجت معهما القصاصة التي وجدتها تحت باب غرفتي ...
    لم أكن أرى أيا مما أخرجت ، و لكن يدي تحس ... و تدري أيها صورة رغد ... فلطالما أمسكت بالصورة و احتضنتها في يدي لساعات و ساعات ...
    الدموع بللت الصورتين و كذلك الورقة ...

    " أيتها الخائنة ... اذهبي و أحلامك إلى الجحيم ... "

    و قبل أن أتردد أو أدع لعقلي المفقود لحظة للتفكير ...
    مزقت الورقة ... إربا إربا ...
    و رميت بها في الهواء ...
    و مزقت صورة رغد ... قطعة قطعة ... و بعثرتها في الفراغ ... إلى حيث تبعثرت آخر آمالي و أحلامي ...
    و انتهت آخر لحظات حبي الحالم ...
    و تلاشت آخر ذرات غبار الماضي ...
    و لم يبق لي ...
    غير حطام قلب ٍ منفطر ...

    انتظروا غدا المزيـــد من الأحداث..
    avatar
    بكل احترام
    قائد نشيط
    قائد نشيط


    المساهمات : 70
    تاريخ التسجيل : 08/06/2011

    رواية.. أنت لي Empty وكمان عايزنى اشتغل مش لما اخلص القصة

    مُساهمة  بكل احترام الثلاثاء 5 يوليو 2011 - 9:42

    صباح الخير
    لقد قراءت 3 فصول ولكنى انشغلت عن العمل واعتقد اننى سوف اعاود استكمال القصة فى اقرب وقت
    قصة جميلة عودة الى قصص الاسرة
    اتشوق الى استكمال باقى القصة
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty رد: رواية.. أنت لي

    مُساهمة  littledoctor الثلاثاء 5 يوليو 2011 - 11:09

    بكل احترام كتب:صباح الخير
    لقد قراءت 3 فصول ولكنى انشغلت عن العمل واعتقد اننى سوف اعاود استكمال القصة فى اقرب وقت
    قصة جميلة عودة الى قصص الاسرة
    اتشوق الى استكمال باقى القصة

    يا ريت تتابعها معانا و تعرفنا رايك
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty الحلقة الثالثة عشر و الرابعة عشر

    مُساهمة  littledoctor الثلاثاء 5 يوليو 2011 - 12:02


    الحلقةالثالثةعشر
    ****************


    ذهبنا أنا و دانة لرفع الأطباق عن المائدة
    كان الضيف مع أبي و سامر ، و وليد في غرفة الضيوف ، فيما تعد والدتي الشاي في المطبخ .
    لأن سامر يجلس عادة إلى يسار والدي ، فلا بد أن الضيف قد جلس إلى يمنه ، و لابد أن الكرسي المجاور له كان كرسي وليد ...

    " من كان يجلس هنا ؟ "

    سألت ، بشيء من البلاهة المفتعلة ، فأجابتني دانة بسخرية و هي ترفع الأطباق :

    " ما أدراني ؟ أتصدقين ... لم أكن معهم !
    أقصد كنت أجلس على الكرسي المقابل لكنني لم أنتبه لمن كان يجلس أمامي ! "

    قلت :

    " و ما دمت قد كنت جالسة معهم ، فلماذا لا أرى أطباقا أمام مقعدك ؟؟ "


    رفعت دانة نظرها عن السكاكين و الملاعق و الأشواك التي كانت تجمعها ، و هتفت بغضب و حدة :

    " رغد ! "

    و هي تحرك يدها مهددة برميي بالسكاكين !

    قلت بسرعة :

    " حسنا حسنا لن أسأل المزيد "

    و صمتنا للحظة

    ثم عدت أقول :

    " الشخص الذي كان يجلس هنا ... لم يأكل شيئا ! ربما لم يعجب الضيف طعامنا ! "

    كنت أريد منها فقط أن تقول شيئا يرجح استنتاجي بأن وليد كان هو من يجلس على هذا المقعد ...
    جلست على ذلك المقعد ، و أخذت إحدى الفطائر من الطبق الموضوع أمامي و بدأت بقضمها

    التفتت إلى دانة ناظرة باستهجان :

    " ماذا تفعلين ؟؟ !"

    مضغت ما في فمي ببطء شديد ثم ابتلعته ، ثم قلت :

    " أرى ما إذا كانت الفطائر في هذا الطبق غير مستساغة ! لكنها لذيذة ! لم لم تعجبه ؟؟ "

    طبعا كنت أتعمد إثارة غيظها ! فأنا أريدها أن تأمرني بالمغادرة فورا لأنجو من غسل عشرات الأطباق ... فقد تعبت !

    دانة كانت على وشك الصراخ بوجهي ، إلا أن والدتنا أقبلت داخلة الغرفة لتساعدنا في رفع الأطباق و تنظيفها ، فأسرعت بالنهوض و عملت بهمة و نشاط خجلا منها !

    بعد أن انتهيت من درس الغسيل هذا ذهبت إلى غرفتي و أنا متعبة و أتذمر
    كنت قلقة بشأن بشرة يدي التي لا تتحمل الصابون و المنظفات
    أخذت أتلمسها و شعرت بجفافها ، فأسرعت إلى المرطبات و المراهم ، و دفنت جلدي تحت طبقة بعد طبقة بعد طبقة منها !

    قلت في نفسي :

    " رباه ! إنني لا أصلح لشيء كهذا ! كيف سأصبح ربة منزل ذات يوم ؟ لا أريد أن أفقد نضارتي ! "

    و تذكرت حينها موضوع زواجنا الذي كدت أنساه !
    لا أعلم ما إذا كان سامر قد تحدث مع والدي بشأن الزواج أم لا ... فقد شغلنا جميعا حضور وليد عن التفكير بأي شيء آخر ...

    اضطجعت على سريري بعد فترة ، و أنا متوقعة أن أنام بسرعة من شدة الإرهاق ... إلا أن أفكارا كثيرة اتخذت من رأسي ملعبا ليلتها و حرمتني من النوم ... !

    حتى هذه اللحظة لا زلت أشعر بشيء يحرق داخل عيني ...
    إنها نظرة وليد المرعبة الحادة التي أحرقتني ...
    تقلبت على سريري كما تُقلّب السمكة أثناء شويها !
    كنت أشعر بالحرارة في جسدي و فراشي ...
    فنظرت من حولي أتأكد من عدم انبعاث الدخان !

    لماذا حدّق بي وليد بهذا الشكل ؟؟

    تحسست يدي اليمنى باليسرى ، و كأنني لا أزال أشعر بالألم فيها بل و توهمت توهجها و احمرارها ... و حرارتها ...
    إنه طويل جدا ! لا يزال علي ّ رفع رأسي كثيرا لأبلغ عينيه ...
    و رفعت رأسي نحو السقف ، أعتقد أنني رأيت عينيه هناك ! معلقتين فوق رأسي تماما ...

    بسرعة سحبت البطانية و غطيت رأسي كاملا ... و بقيت هكذا حتى نفذت آخر جزيئات الأوكسجين من تحت البطانية فأزحتها جانبا ، و انتقل الهواء البارد المنعش إلى صدري مختالا ، إلا أن حرارتي أحرقته ، فخرج حارا مخذولا !

    عدت أنظر إلى السقف ، و أتخيل عيني وليد ... و أنفه المعقوف !
    و أتخيله يضع نظارة سامر السوداء التي تلازمه كلما خرج من المنزل ، كم ستبدو مناسبة له !

    لا أعرف كم من الوقت مضى و أنا أتفرج على الأفكار السخيفة و هي تلعب بحماس داخل رأسي !
    كنت أريد أن أنام و لكن ...
    نظرت إلى ساعة الجدار و رأيت عقربيها الوامضين يشيران إلى الساعة الواحدة ليلا ...
    ليس من عادتي أو عادة أفراد عائلتي السهر ... لابد أن الجميع يغط الآن في نوم عميق فيما أنا مشغولة بعيني وليد !

    لدى رؤيتي للساعة تذكرت شيئا فجأة ، فجلست بسرعة :

    " الساعة ! "

    و بسرعة خاطفة ، نهضت عن سريري و خرجت من الغرفة و ركضت نحو غرفة الضيوف ...

    لقد وجدت الباب مغلقا ، فوقفت حائرة ...
    ترى هل يوجد أحد بالداخل ؟؟
    و خصوصا من النوع الذي تتعلق عيناه في الأسقف ؟؟

    قربت رأسي و تحديدا أذني من الباب ، قاصدة الإصغاء إلى أي صوت قد يدل على وجود شخص ما ، مع أنني واثقة من أن أذني ليستا خارقتين ما يكفي لسماع صوت تنفس بشر ما يفصلني عنه باب و عدة خطوات !

    لكني على الأقل ، لم أسمع صوت المكيف !

    لمست مقبض الباب الحديدي ، و لأنه لم يكن باردا اعتمدت على هذا كدليل قاطع يثبت أن المكيف غير مشغل ، و بالتالي فإن أحدا ليس بالداخل !

    أعرف !
    أنا أكثر ذكاءا من ذلك ، لكن هذه اللحظة سأعتمد على غبائي !
    فتحت الباب ببطء و حذر ... و تأكدت حينها أنه لم يكن هناك أحد...
    أضأت المصباح و توجهت فورا إلى المكان الذي وقعت فيه الساعة بعد ارتطامها بالحائط ... خلف المعقد الكبير ...

    كانت هناك مسافة لا تتجاوز البوصتين تفصل المقعد الكبير عن الجدار ...
    حاولت النظر من خلال هذا المجال الضيق إلا أنني لم أستطع رؤية شيء

    صحيح أن حجمي صغير إلا أن يدي أكبر من أن تنحشر في هذه المساحة الضيقة محاولة استخراج الساعة !

    " تبا ! ماذا أفعل الآن ؟؟ "

    شمّرت عن ذراعي ، و تأهبت ... ثم أمسكت بالمقعد الكبير و حاولت تحريكه للأمام محاولة مستميتة
    لكن مفاصلي كادت أن تنخلع دون أن يتزحزح هذا الجبل عن مكانه قدر أنملة !

    " أرجوك أيتها الساعة أخرجي من هناك ! "

    ليتها كانت تسمعني ! لماذا لم يصنع الإنسان ساعة تمشي على أرجل حتى يومنا هذا ؟؟

    شعرت بإعياء في عضلاتي فارتميت على ذلك المقعد ...
    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    رباه !
    ستضطر غاليتي للمبيت بعيدة عني ... مجروحة و حزينة و لا تجد من يواسيها !
    وضعت وسادة المقعد على صدري و أرخيت عضلاتي ...
    لم أشعر بنفسي ...
    و لا حتى بالحر الذي يكوي داخلي قبل خارجي
    و استسلمت للنوم !

    و لا للحظة واحدة بعد النبأ القاتل ، استطعت أن أرتاح ...
    متمدد على سريري منذ ساعات ... و أفكر في نهايتي البائسة ...
    طلع النهار منذ مدة و امتلأت الغرفة ضوءا مزعجا ، أصبحت أكرهه ... بل و أكره الشمس التي أجبرت عيني على استقبال النور ...

    نهضت عن السرير و أنا أحس بالآلام في جميع مفاصل بدني ... و ما أن جلست ، حتى وقعت أنظاري التائهة على أشلاء الصورة المبعثرة فوق أرضية الغرفة ..

    أتيتها ، و التقطتها قطعة قطعة و كومتها فوق بعضها البعض و ضممتها إلى صدري ...

    وضعتها في جيبي ، و هممت برمي أجزاء الورقة الممزقة ، لكنني لم أقو على ذلك ...

    كيف لي أن أمحو من الوجود شيئا جاءني منك ؟؟
    آخر شيء جاءني منك ...
    و آخر شيء سأستلمه على الإطلاق ...
    كان الصباح الباكر ... حملت علبة سجائري و خرجت من الشقة و إلى الشارع ، و أخذت أتمشى ...

    لم يكن هناك سوى بعض السيارات تمر بين الفينة و الأخرى ، و بعض عمال النظافة متناثرين في المنطقة بزيهم المزعج اللون ...

    لم يكن في المنظر ما يبهج النفس أو يريح الأعصاب ...

    بدأت أدخن السيجارة تلو الأخرى ، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يشعرني بالراحة المزيفة ...

    تفكيري لم يكن صافيا ، إلا أنني عزمت على الرحيل عائدا إلى بيتي ...

    بعد قرابة الساعتين ، عدت للشقة فوجدت سيف و قد خرج توه من دورة المياه بعد حمام منعش ، تفوح منه رائحة الصابون ...

    ألقى علي تحية الصباح بمجرد أن رآني ، فرددت و أنا أشعر بالخجل من رائحة السجائر المنبعثة مني إزاء رائحة النظافة و الصابون الصادرة منه !

    " هل نمت جديا ؟؟ لا تبدو نشيطا ! "

    قال سيف ذلك ، و هو يدقق النظر في الهالتين السوداوين اللتين تحيطان بعيني الكئيبتين الحمراوين ...

    لم يكن علي أن أجيب ، فقد جاءه الجواب بليغا من مظهري ...

    قال سيف :

    " أنني أفكر في الطعام ! ألديكم في البيت ما يؤكل أم أفتش عن مطعم !؟ "

    كان يقول ذلك بمرح و دعابة ، لكني كنت في حالة سيئة للغاية ... أسوأ من أن تسمح لي بأي تفكير لائق أو ذوق سليم ، قلت :

    " دعنا ننطلق الآن "

    سيف تسمر في موضعه و حدق بي بدهشة ! لكن إشارات الإصرار الصارخة في عيني طردت من رأسه أي شكوك حول جديتي في الأمر من عدمها ...

    " الآن ؟؟ "

    " نعم ... لم علينا الانتظار للغد ؟؟ تبدو في قمة النشاط و لا ضير من السفر الآن "

    سيف صمت قليلا ثم قال :

    " عائلتك ... أتظن أنهم .... ... "

    رفعت زاوية فمي اليمنى باستهتار و سخرية ثم تنهدت تنهيدة قصيرة و قلت :

    " لم يعد لي مكان بينهم ... فكما نسوني طوال السنوات الثمان الماضية ، و عاشوا حياتهم دون تأثر ، عليهم اعتباري قد مت من اليوم فصاعدا ...
    بل من البارحة فصاعدا "

    لقد كنت محبطا و لا أرى إلا سوادا في سواد ...

    بقيت واقفا عند الباب أنتظر أن يجمع سيف أشياءه و لم أبادر بمساعدته ، سيف لم يحاول مناقشتي في الأمر و إن كنت أرى الاعتراض مختبئا خلف جفونه

    كان الوقت لا يزال باكرا ، ركبنا السيارة و انطلقنا ...

    " سأمر لوداعهم "

    نعم وداعهم
    بعد كل الذي تكبلت من أجل العودة إليهم
    بعد كل تلك السعادة التي عشتها يوم الأمس
    بعد كل الحرمان و الضياع ...
    أودعهم !
    كيف لي أن أقيم معهم و قد انتهى كل معنى لوجودي ؟؟

    لم يكن في الشارع غير القليل من السيارات و الناس ... و كان المشوار قصيرا
    و حين وصلنا ، ركن سيف السيارة جانبا و نزلنا سوية .

    كان والدتي هي من استقبلنا عند المدخل
    و بمجرد أن دخلت ، أقبلت نحوي تعانقني و ترحب بي بحرارة ، و كأنها لم ترني يوم الأمس ...

    قلت :

    " سيف معي ... "

    و كان سيف لا يزال واقفا خلف الباب ينتظر الإذن بالدخول

    " دعه يتفضل ، خذه إلى غرفة المعيشة حيث والدك ، فغرفة الضيوف حارة الآن "

    ثم انصرفت نحو المطبخ ، فيما فتحت الباب لسيف :

    " تفضل "

    و ذهبنا إلى غرفة المعيشة حيث كان والدي جالسا يقرأ إحدى الصحف ...
    في الماضي ، كنت كثيرا ما أقرأ أخبار الصحف له !

    " صباح الخير يا أبي "

    والدي قام إلينا مرحبا بحرارة هو الآخر ... و اتخذ كلاهما مجلسه ، فيما استأذنت أنا و خرجت من الغرفة قاصدا المطبخ ، و تاركا الباب مفتوحا ، تشيعني نظرات سيف من الداخل !

    هناك كانت والدتي واقفة عند الموقد و قد وضعت إبريقا كبيرا مليئا بالماء ليغلي فوق النار ...

    ابتسمت لدى رؤيتي و قالت :

    " لم أعلم أنك غادرت البارحة إلا بعد حين ... اذهبا أنت و سامر اليوم لشراء طقم غرفة نوم جديد ، سنعد لك غرفة الضيوف لتتخذها غرفة لك "

    طبعا لم أملك من الشجاعة لحظتها ما يكفي لقول ما أخبئه في صدري ...
    قلت ـ محاولا تغيير سير الحديث :

    " هل تناولتم فطوركم ؟ "

    " ليس بعد ، فسامر و الفتاتان لا زالوا نياما !"

    و استطردت :

    " سأعد لكم فطورا شهيا ... ، شغّل المكيف في غرفة الضيوف الآن ثم خذ الضيف إليها "

    " حسنا "

    و هممت بالانصراف ، فقالت أمي :

    " قل لي ... أي طعام تود تناوله على الفطور يا عزيزي ؟؟ "

    إنني لا أفكر بالطعام و لولا سيف لكنت اختصرت المسافة و ودعتكم و انتهينا ...

    قلت بلا مبالاة :

    " أي شيء ... "

    ثم خرجت من المطبخ متجها إلى غرفة الضيوف لتشغيل المكيف .

    كان الباب مفتوحا ، دخلت و ذهبت رأسا إلى المكيف فشغّلته و استدرت لأعود خارجا
    فاصطدمت عيناي بشيء جعل قلبي يتدحرج تحت قدمي !

    ربما كان صوت المكيّف هو الذي جعل هذا الكائن الحي يفيق فجأة ، و يفتح عينيه ، و يهب جالسا في فزع !

    أخذت تنظر إلي بتوتر و اضطراب و تتلفت يمنة و يسرة ، بينما أنا متخشب في مكاني ... لا أعرف ماذا أفعل !

    ببساطة لا أعرف ماذا أفعل !

    ثم ماذا ؟

    رفعت الوسادة المربعة الشكل التي كانت موضوعة فوق حضنها و غطت بها وجهها و هبّت واقفة مستترة خلف الوسادة ، و ركضت نحو الباب !

    " رغد انتظري ! "

    توقفت ، و هي لا تزال تخبئ رأسها خلف الوسادة و أنا لا أزال واقفا مكاني لا أعرف ما أفعل من المفاجأة !

    ربما أخطأت و شغلت المكيف على وضع التدفئة ! الجو حار ... حار ... حار !
    و قطرات العرق بدأت تتجمع على جبيني و شعري أيضا ... !

    اعتقد أنه موقف لا يترك للمرء فرصة للتفكير ، إلا أنني تذكرت سيف ، و هو يجلس في موقع يسمح له برؤية العابر في الممر ... و الباب مفتوح !

    " أأ ... صديقي هنا ... سأغلق الباب ... لحظة ... "

    كانت تقف قرب الباب و حين أتممت جملتي تراجعت للوراء حتى التصقت بالجدار فسرت أنا نحو الباب و خرجت و عمدت إلى باب غرفة المعيشة فأغلقته دون أن أرفع بصري نحو سيف الذي و لا شك كان يراني ...

    عدت بعدها للفتاة الملتصقة بالحائط و الوسادة ... وقلت باضطراب :

    " أنا ... آسف ... لم أعلم ... أقصد لم أنتبه ... أأ... "

    و لم أجد كلمة مناسبة !

    مسحت العرق عن وجهي و قلت أخيرا :

    " يمكنك الذهاب "

    و أوليتها ظهري ، و سمعت خطاها تبتعد مسرعة...

    تهالكت على نفس المقعد الكبير الذي كانت رغد نائمة فوقه و شعرت بالحرارة تزداد ...

    لقد كان دافئا بل و حارا أيضا !

    ما الذي يدفعك للنوم في هذا المكان و بدون تكييف !؟

    و تتدثرين بالوسادة أيضا !

    يا لك من فتاة !

    لا أعرف كيف تسللت ابتسامة إلى قلبي ...

    لا ! ليست ابتسامة بل شيء أكبر من ذلك

    إنها ضحكة !

    لم يكن ظرفا مناسبا للضحك و حالتي كما تعرفون هي أبعد ما تكون عن السعادة ، لكنه موقف أجبر ضحكتي على الانطلاق ...

    لم يطل الأمر ... وقفت ، و أخذت أحدق بالمقعد الذي كانت رغد تنام عليه ... ثم أتحسسه بيدي ...

    عندما كانت رغد صغيرة ، كنت أجعلها تنام فوق سريري و أظل أراقبها بعطف ...

    و أداعب شعرها الأملس ...

    كانت تحب أن تحتضن شيئا ما عند النوم ... كدمية قماشية أو بالونة أو حتى وسادة !

    و كم كانت تبدو بريئة و ملائكية !

    لم يكن لضحكتي تلك أي داع لأن تولد وسط مجتمع الدموع الحزينة ، سرعان ما لقت حتفها بغزو دمعة واحدة تسللت من بين حدقتي قهرا ... و حسرة ... على ما قد فقدت ...
    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    لم أدرك أنني نمت حيث كنت ، على ذلك المقعد الكبير الثقيل ، ( الكنبة ) إلا بعد أن استفقت فجأة فرأيت عيني وليد تحدقان بي !

    فزعت ، و نظرت من حولي و اكتشفت أنني كنت هنا !

    كان جسمي حارا و العرق يتصبب منه ، و جلست مذعورة أتلفت باحثة عن شيء أختفي خلفه ... و لم أجد غير وسادة المقعد التي كنت ألتحفها
    غطيت بها وجهي و قمت مسرعة أريد الهروب !

    لا أصدق أنني وصلت غرفتي أخيرا بسلام ! يا إلهي ما الذي يحدث معي !؟
    كيف نمت بهذا الشكل ؟؟ و كيف لم يوقظني الحر ؟؟
    و ما الذي كان يفعله وليد هناك ؟؟؟

    كنت لا أزال أحتضن الوسادة و أسند ظهري إلى الباب الموصد ، و ألتقط أنفاسي بقوة !

    كانت غرفتي باردة و لكن ليس هذا هو سبب ارتعاش أطرافي !

    كم أنا محرجة من وليد !
    أمس يراني بقطعة عجين تغطي أنفي و اليوم بهذا الشكل !
    ماذا سيظنني ؟؟
    كما تقول دانة .. علي ّ ألا أغادر غرفتي بعد الآن !

    كنت أشعر بعينيه تراقباني ! أحس بهما معي في غرفتي الآن !

    ببلاهة نظرت إلى السقف ، في الموضع الذي توهمت رؤيتهما فيه البارحة و تورد خداي خجلا !

    لماذا أشعر بالحرارة كلما عبر وليد على مخيلتي ؟؟؟

    و لماذا تتسارع دقات قلبي بهذا الشكل ؟؟

    بعد أن تجمعت الأشياء التي تبعثرت من ذاتي أثر الفزع نعمت بحمام منعش و بارد و ارتديت ملابسي و حجابي و ذهبت بحذر إلى المطبخ ...

    كانت أمي تنظف السمك عند المغسل ، قلت باستياء :

    " صباح الخير أمي ! لا تقولي أن غذاءنا اليوم هو السمك ! "

    ابتسمت والدتي و قالت :

    " صباح الخير ! إنه السمك ! "

    أطلقت تنهيدة اعتراض ، فأنا لست من عشّاق السمك كما و أنني لا أريد حصة طبخ جديدة هذا اليوم !

    " ألم تنهض دانة بعد ؟؟ "

    سألتني ، قلت :

    " ليس بعد ... "

    ثم غيرت نبرة صوتي و قلت :

    " ألدينا ضيوف اليوم ؟؟ "

    " إنه صديق وليد ... سيف ... ، لسوف نستضيفه و نكرمه حتى يسافر غدا ، فهو الذي ساعد ابني على ... "

    و توقفت أمي عن الكلام ...

    " على ماذا ؟ "

    قالت بشيء من الاضطراب :

    " على ... على الحضور إلى هنا ... فلم يكن يعرف أين نحن ! "

    أنا تركت رسالة أخبر فيها وليد بأننا رحلنا إلى هذه المدينة ! لا أدري إن كان قد وجدها ! بالطبع لا ... كيف كان سيدخل إلى منزل موصد الأبواب !؟

    كم أنا متلهفة لمعرفة تفاصيل غيابه ... دراسته ... عمله ... كل شيء !

    سكبت لي بعض الشاي ، و توجهت نحو الطاولة الصغيرة الموجودة على أحد جوانب المطبخ قاصدة الجلوس و احتسائه على مهل

    فيما أنا في طريقي نحو الطاولة ، و إذا بوليد و سامر مقبلين ... يدخلان المطبخ !

    ما أن وقع بصري على وليد حتى اضطربت خطاي و اهتزت يدي ، و اندلق بعض الشاي الحار على أصابعي فانتفضت أصابعي فجأة تاركة قدح الشاي ينزلق من بينها و يهوي ... و يرتطم بالأرضية الملساء ساكبا محتواه على قدمي و ما حولها !

    " آي "

    شعرت بلسعة الشاي الحار و ابتعدت للوراء و أنا أهف على يدي لتبريدها ...

    سامر أقبل مسرعا يقول :

    " أوه عزيزتي ... هل تأذيت ؟ ! "

    قلت :

    " أنا بخير "

    و أنا أتألم ...

    سامر أسرع نحو الثلاجة و أخرج قطعة جليد ، و أتى بها إلي ، أمسك بيدي و أخذ يمررها على أصابعي ...
    لملامسة الجليد لأصابعي شعرت بالراحة ...

    قلت :

    " شكرا "

    و ابتسم سامر برضا .

    تركته مشغولا بتبريد أصابعي و سمحت لأنظاري بالتسلل من فوق كتفه ، إلى ما ورائه ...

    كان يقف عند الباب ، سادا بطوله و عرضه معظم الفتحة ، يحدق بنا أنا و سامر بنظرات مخيفة !

    لا أعرف لماذا دائما تشعرني نظراته بالخوف ... و الحرارة !

    الجليد أخذ ينصهر بسرعة ....

    رفعت أنظاري عنه و بعثرتها على أشياء أخرى ، أقل إشعاعا و حرارة ... كالثلاجة كإبريق الشاي ، أو حتى ... لهيب نار الموقد !

    لكني كنت أشعر بها تحرقني عن بعد !

    أأنتم واثقون من أنكم لا تشمون شيئا ؟؟

    وليد الآن تحرك ، متقدما للداخل ... و مبتعدا عنا ، و متوجها نحو أمي ...

    قال :

    " ماذا تصنعين أماه ؟ "

    " سأحضر لكم السمك المشوي هذا اليوم ... ألم يكن صديقك يحبه في الماضي حسب ما أذكر ؟؟ "

    سكت وليد برهة ثم قال :

    " لا داعي ... يا أمي .. "

    و سكت برهة أخرى ثم واصل :

    " سوف يسافر سيف الآن ... "

    جميعنا ، أنا و سامر و أمي ، نظرنا إلى وليد باهتمام ...

    قالت أمي :

    " يسافر ؟ ألم تقل أنه سيبقى حتى الغد ؟ "

    " بلى ... لكن خطته تغيرت و سيخرج ... فورا "

    قال ( فورا ) هذه بحدة و هو ينظر باتجاهنا أنا و سامر

    أمي قالت :

    " اقنعه يا وليد بالبقاء حتى وقت الغذاء على الأقل ... اقنعه بني ! "

    وليد كان لا يزال ينظر باتجاهنا ، و رأيت يده تنقبض بشدة و وجهه يتوهج احمرارا و على جبينه العريض تتلألأ قطيرات العرق ...

    لم يكن الجو حارا و لكن ...

    هذا الرجل ... ناري ... ملتهب ... حار ... يقدح شررا !

    نظر إلى أمي نطرة مطولة ثم قال :

    " أنا ... ذاهب معه "

    سامر ، ترك قطعة الجليد فوق أصابعي و استدار بكامل جسده نحو وليد ، كما فعلت أمي ...

    قال سامر :

    " عفوا ؟؟ ماذا ؟؟ "

    وليد لم ينظر إلى سامر بل ظل يراقب تعابير وجه أمي ، المندهشة الواجمة ، و قال :

    " نعم أمي ... سأسافر معه ... حالا "

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    لم تجد ِ الدموع و النداءات و التوسلات التي أطلقها أفراد عائلتي في صرف نظري عن السفر ...

    بل إنني و في هذه اللحظة بالذات ، أريد أن أختفي ليس فقط من البيت ، بل من الدنيا بأسرها
    لقد كانت حالة أمي سيئة جدا ... و لكن صورة الخائنين و أيديهما المتلامسة ... و قطعة الجليد المنزلقة بدلال بين أصابعهما أعمت عيني عن رؤية أي شيء آخر ...

    و أقيم مهرجان مناحة كبير ساعة وداعي ...

    كان يجب أن أذهب ، و لم يكن لدي أية نوايا بالعودة ... فقد انتهى كل شيء ...

    تحججت بكل شيء ...

    أوراقي ... شهادتي ... أشيائي ... و كل ما خطر لي على بال ، من أجل إقناعهم بتسليمي مفاتيح المنزل ...

    سيف ينتظرني في السيارة ، و هم متشبثون بي يعيقون خروجي ، محيطون بي من الجهات الأربع ... أمي و أبي ، و أختي و أخي الخائن ...

    أما الخائنة رغد ... فكانت تراقب عن بعد ... إذ أنني لم أعد شيئا يجوز لها الاقتراب منه ...

    للحظة اختفت رغد ، و صارت عيناي تدوران و تجولان فيما حولي ...

    أين أنت ...؟؟

    أين ذهبت ؟؟

    أعليها أن تحرمني حتى من آخر لحظة لي معها ؟؟

    آخر لحظة ؟؟

    كنت ممسكا بالباب في وضع الخروج ... أردت أن أسير خطوة نحو الخارج إلا أن قبضة موجعة في صدري منعتني من الخروج قبل أن ... أراها للمرة الأخيرة ...
    فقط ... للمرة الأخيرة ...

    " أين رغد ؟؟ "

    قلت ذلك ، و عدت نحو الداخل أفتش عنها

    وجدتها في غرفة الضيوف و كانت للعجب ... تحاول تحريك المقعد الكبير عن مكانه !

    " رغد ... ! "

    التفتت إلي ، فرأيت الدموع تغرق عينيها فيما هي تحاول جاهدة زحزحة المقعد

    دموع رغد تقطع شرايين قلبي ...

    أشعر بالدماء تغرق صدري و رئتي ... و تسد مجرى هوائي ....

    إنني أختنق يا رغد !

    ليتك تحسين بذلك ...

    " ماذا تفعلين ؟؟ ألن ... تودعيني ؟؟ "

    هزّت رأسها نفيا و اعتراضا ...

    تقدمت نحوها ، و أمسكت بالمقعد و حركته عن موضعه نحو الأمام بالشكل الذي أرادت ، فأسرعت هي إلى خلفه ، و انحنت على الأرض و التقطت شيئا ما ، لم يكن غير ساعتي القديمة ...

    رغد أقبلت نحوي تمد يدها إلي بالساعة و تقول :

    " لقد تركت الجميع يسخر مني ... و أنا محتفظة بها و أرتديها في انتظار عودتك كما وعدت ! لكنك كذبت علي ... و لم تعد ! "

    و رمت بالساعة نحوي فأصابت أنفي ...

    انحنيت و رفعت الساعة عن الأرض ... و بقينا نحدق ببعضنا لبرهة ، ثم قلت :

    " لم تعودي بحاجة للاحتفاظ بها ... فصاحب الساعة ... لم يعد موجودا "

    و أوليتها ظهري ، و انصرفت نحو باب المدخل ...

    لم أعط بصري الفرصة لإلقاء أي نظرة على أي منهم ... لم ألتفت للوراء ... و كنت اسمع نداءاتهم دون أن أستجيب لها ...

    تريدون عودتي ؟؟
    أعيدوا رغد إلي أولا !
    أم تظنون أنني سأحتمل العيش بينكم ، و هي ... خطيبة لأخي ؟؟
    دون رغد ... فإن وليد لم يعد له وجود على وجه الأرض ...
    ألا تدركون ذلك ؟؟
    ألا تدركون ما فعلتم بي ؟؟
    قتلتموني ...
    شر قتلة ...


    " وليـــــــــــــــــــــد "


    كان هذا صوت رغد ... يخترق أذني ... و رأسي ... و قلبي ... و كل خلية ... و كل ذرة من جسدي ...

    لم أستطع أن أقاوم ... التفت نحو الوراء و لم أر شيئا ... غير طفلة صغيرة ... ضئيلة الحجم ... دائرية الوجه ... واسعة العينين ... خفيفة الشعر ... يتدلى شعرها القصير الأملس على جانبيها بعفوية ... ترفع ذراعيها نحوي بدلال و تقول :

    " وليـــــــــــــــد ... احملني ! "

    " رغد ... تعالي ! "

    رأيت شبحها يقبل نحوي ... راكضا ... ضاحكا ... حاملا في يده اليمنى دفتر تلوين ... و في الأخرى صندوق الأماني ... و يمد ذراعيه إلي ...
    فأطير به إلى الهواء ...
    إلى الفضاء ...
    إلى السماء ...
    إلى حيث ترتفع أرواح الموتى ...
    و تصعد دعوات المعذبين ...

    يا رب ...
    أتوسل إليك ...
    أرجوك ...
    خذني إليك ...
    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~


    الحلقةالرابعةعشر
    ****************


    طريق العودة لم يكن بأقل مشقة من طريق الذهاب ...
    ألا أنني بسبب التعب و الإجهاد النفسي نمت معظم ساعات النهار الأول .

    حطام الأشياء التي أراها من حولي لا يختلف عن حطام قلبي ... إلا أن الجماد لا ينزف دما

    التلاوة المنبعثة من مذياع السيارة بصوت قارئ رخيم عذب هي الشيء الوحيد الذي خفف على قلبي آلام التمزق و التقطع و الاحتراق ...

    توالت الساعات ، و كنت أتابع باهتمام مزيف كل ما أسمعه من المذياع هروبا من التفكير في الطريق الذي ولى ... و الطريق القادم ...

    في الماضي ... و المستقبل ...

    بلغنا مدينتنا قبيل غروب الشمس الثالثة التي أنارت دربنا ...

    " خذني إلى بيتي "

    قلت ذلك و نحن أمام مفترق طرق ، يؤدي أحدهم إلى بيتي و آخر إلى بيت سيف

    " الآن ؟ دعنا ننزل بيتنا و نرتاح من عناء المشوار الطويل ... "

    " أرجوك يا سيف ... إلى بيتي ... "

    لم أكن هذه المرة أشعر بأي شوق أو حماس لدخول المنزل المهجور

    و سيف هم ّ بالحضور معي أل أنني قلت :

    " لابد أن والديك في انتظارك الآن ... سأشكرك كما ينبغي لاحقا ، بلغهما تحياتي "

    كان سيف قلقا بشأني و لكنني صرفته ، و دخلت المنزل المظلم وحيدا .

    رفعت يدي لإنارة المصباح ، بل المصابيح واحدا تلو الآخر فاكتشفت أن الكهرباء مقطوعة .

    و على الضوء الباقي من آخر خيوط الشمس ، سرت في منزلي الكئيب الساكن و صعدت إلى الطابق العلوي ...

    ذهبت رأسا إلى غرفة نومي ... أخرجت المفاتيح ، ثم فتحت الباب ببطء ...

    و خطوت خطوة إلى الداخل ...

    سرعان ما عادت بي السنين إلى الوراء ...

    حين كنت فتى مراهقا في بداية التاسعة عشر من العمر ... أجلس على هذا الكرسي أذاكر بشغف ...
    يا إلهي !
    لا تزال كتبي التي تركتها على المكتب في مكانها !
    مفتوحة كما تركتها قبل ثمان سنين !

    جلت ببصري في الغرفة ... و فوجئت برؤية الأشياء كما هي ...

    تقدمت خطوة بعد خطوة ...

    السرير ... نفس البطانية و الأغطية التي كانت عليه قبل رحيل ...

    اقتربت من المكتب ... إنه كتاب الرياضيات الذي كنت أقرأه آخر ليلة قبل الرحيل ، استعدادا لامتحان الغد !

    و قلم الرصاص لا يزال موضوعا على الصفحة المفتوحة ...

    و بقية الكتب مبعثرة على الطاولة تماما كما تركتها منذ ذلك الزمن ...

    مددت يدي فلمست الغبار الذي يغطي الكتاب ، و كل شيء ...

    فتحت الأدراج لألقي نظرة ... لا شيء تغير ! لا يبدو أن أحدا قد وطأ أرض هذه الغرفة مذ هجرتها

    استدرت نحو سريري ... لطالما احتضنني هذا السرير و امتص تعبي و أرقي ... ألا زال يصلح للنوم ؟ أأستطيع رمي أثقال صدري و جسدي عليه ؟؟

    كان أيضا غارقا في الغبار ... و مع ذلك رميت بجسدي المهموم عليه و سمحت لسحابة الغبار أن تحلق ... و تنتشر ... و تهاجم أنفي و تخنقني أيضا ...

    داهمتني نوبة من العطاس إثر استنشاقي لغبار الزمن ، فنهضت و تلفت من حولي بحثا عن علبة المناديل
    لابد أنها ستكون مدفونة تحت طبقات من الغبار هي الأخرى ...

    لكن أنظاري التصقت فجأة بشيء يقف على أحد أرفف مكتبتي القديمة ...

    شيء أسطواني الشكل ، مغطى بطوابع و ملصقات صغيرة طفولية ...

    و من بين تلك الملصقات ، يظهر جزء من كلمة مكتوبة عليه : ( أمـاني )

    سرت ببطء شديد ، بوصة بوصة ، نحو هذا الصندوق الصغير ...

    أكان حلما أم حقيقة ؟؟

    لقد رأيته أمامي مباشرة ، و لمسته بيدي ... و رججته ، و سمعت صوت قصاصات الورق تتضارب داخله !

    صندوق أماني رغد ... لا يزال حيا ؟؟

    أمسكت بالصندوق الأسطواني ، و قربته من عيني ، ثم من صدري ، و أرخيت جفني ، و سحبت نفسا عميقا مليئا بالغبار ...

    رأيت الصغيرة مقبلة نحوي بانفعال و فرح ، حاملة كتابها بيدها :

    " وليد اصنع صندوق أماني لي "

    و رأيتها تساعدني في صناعته ...

    ثم تغطيه بالملصقات الصغيرة ...

    ثم تجلس هناك على سريري ، قرب المنضدة ، و تكتب أمنيتها الأولى ...

    (( عندما أكبر سوف أتزوج ...... ؟؟ ))

    عند هذا الحد ... ارتفع جفناي فجأة ، و انقبضت يدي بقوة ... ضاغطة على الصندوق بلا رحمة حتى خنقت أنفاسه ...

    تدحرجت عبرة كبيرة حارقة من مقلتي اليمنى ، فاليسرى ، تبعها سيل عارم من الدموع الكئيبة التائهة ، تغسل ما علق بوجهي و أنفي من الغبار العتيق ...

    شقت نظرتي طريقا سالكا بين الدموع ، مسافرة نحو صندوق الأماني المخنوق ... محرضة يدي ّ على التعاون للفتك به ... و تمزيقه كما تمزقت كل آمالي و أحلامي ... و صورة رغد و رسالتها ... و قلبي و روحي ...

    لكنني توقفت في منتصف الطريق ...

    لم أعد أرغب في رؤية ما بداخله ...

    فأنا أعرف كل شيء ...

    ( أريد أن أصبح رجل أعمال ضخم ! )

    ( أريد أن تصبح ابنة عمي رغد زوجة لي )

    ( يا رب اشف سامر و أعده كما كان )

    ( عندما أكبر سوف أتزوج .... ؟؟؟ )

    سامر قطعا ...

    كم كنتُ غبيا !

    ضغطت على الصندوق بقوة أكبر فأكبر ... و لو كان شيئا مصنوعا من الحديد لتحطم في قبضتي ...

    " أيتها الخائنة ... رغد "

    رميت الصندوق بعنف بعيدا عني ... إلى أبعد زاوية في الغرفة ، ثم خرجت هاربا من الذكرى الموجعة

    أول شيء التقيت به في طريقي كان غرفة رغد !

    فهي الأقرب إلي ...

    وقفت عند الغرفة لدقائق ... و يدي تفتش عن المفتاح بتردد ...

    رفعت يدي ... و طرقت الباب طرقا خفيفا

    ثم مددتها نحو المقبض و أمسكت به و بقيت في هذا الوضع لزمن طويل ...

    سأفتح الباب ببطء و حذر و هدوء ... قد تكون صغيرتي نائمة بسلام ... لا أريد إزعاجها

    أريد فقط أن ألقي نظرة عليها كما أفعل كل ليلة ... لا أحب إلى قلبي من رؤيتها نائمة بهدوء كالملاك .. و ملامسة شعرها الناعم بخفة ...

    نظرة أخيرة ... واحدة فقط ... أريد أن ألقيها على طفلتي ...

    رغد ... لقد اشتقت إليك كثير! ... منذ أن رأيتك و أنت نائمة ... هنا قبل ثمان سنين ، و جفناك متورمان أثر البكاء الشديد الذي بكيته ذلك اليوم المشؤوم ...

    أتذكرين كيف لعبنا يومها ؟؟

    أتذكرين البطاطا التي أطعمتك إياها ...؟؟

    ما كان يدريني أننا لن نلتقي بعد تلك اللحظة ...

    و أنها كانت المرة الأخيرة التي أتسلل فيها إلى غرفتك ، و ألقي عليك نظرة ، و أداعب خصلات شعرك ، و أقبل جبينك ...

    ارتجفت رجلاي و كذا يداي و جسمي كله ، و فقدت أي قدرة على تحريك أي عضلة في جسدي ، حتى جفوني

    لم أجسر على فتح الباب ...

    عدت أطرقه و أنادي ...

    " رغد ... صغيرتي ... افتحي ! أنا وليد ... "

    لكنها لم تفتح

    و أخذت أطرق بقوة أكبر ...

    " افتحي يا رغد ... لقد عدت إليك "

    و بقي الباب ساكنا جامدا ...

    لم تعد رغد موجودة

    و لم يعد وليد موجودا ...

    و لم يعد لفتح هذا الباب ... أي داع ...

    هويت على الأرض ... كسقف أزيلت أعمدته فجأة ... و رفعت ذراعي إلى الباب و صرخت ...

    " رغد ... عودي إلي ... "

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    من تتوقعون زارنا قبل أسبوع ؟؟

    إنها عائلة اللاعب الشهير ( نوّار ) !

    و هل استنتجتم ما سبب الزيارة ؟؟

    أجل !

    مشروع زواج !

    بصراحة أنا فوجئت بشدة ! لم أكن أعتقد أن الأمر سيسير حسبما كانت دانة ترسم ! و لكن يبدو أن هناك أمور أخرى لا أعلم عنها شيئا ...

    زيارتهم كانت بعد رحيل وليد بثلاثة أسابيع ...

    خلال الأسابيع الثلاثة تلك ، كان الجميع يعيش حالة كآبة و حزن مستمرين

    لم تطلع أو تغرب علي شمس دون أن أفكر بوليد ... و بلقائنا الحميم ، ثم نظراته القاسية ، ثم رحيله المفاجئ ...

    والدتي أصابها حزن شديد لازمت بسببه الفراش فترة من الزمن ...

    أنا أيضا حزنت كثيرا جدا ...

    أنا لم أكد أره ... لم أكد أشعر بوجوده ... إنني لا أصدق أنه عاد بالفعل ... لقد كبرت على الاعتقاد بأنه لن يعود ...

    و حقيقة ... هو لم يعد ...

    " رغد ! ألم تنهي حمّامك بعد ؟؟ "

    جاءني صوت دانة من الخارج ، تحثني على الخروج بأقصى سرعة ... كنت لا أزال أمشط شعري القصير المبلل أمام المرآة المغطاة بطبقة من الضباب !

    فتحت الباب فانطلق بخار الماء متسربا للخارج ، و وجدت دانة واقفة و ذراعاها مضمومان إلى صدرها ، تنظر إلي بحنق !

    " أهو حمام بخاري ؟ هيا اخرجي يكاد ضيوفي يصلون و أنا لم أستعد بعد ! "

    سرت ببطء شديد ، متعمدة الإطالة أقصى ما يمكن ... ! دانة تحدق بي بغضب و نفاذ صبر و تصرخ :

    " أوه يا لبرودك ! هيا أخرجي ! "

    " لم كل هذا الانفعال !؟ كأنك ستقابلين جلالة الملكة ! "

    " أنت لا تفهمين شيئا ! لا يمكنك أن تحسي بمثل أحاسيسي الآن ! لم تجربي ذلك و لن تجربيه ! "

    قالت هذا ثم دفعتني قليلا بعيدا عن الباب ، و دخلت الحمام الغارق في البخار و صفعت بالباب بقوة !

    ذهبت إلى غرفتي بكسل ... و أخذت أتابع تمشيط شعري المبلل أمام مرآتي ...

    هل تحس كل فتاة على وشك مقابلة أهل عريسها بكل هذا التوتر ؟؟
    إنهم سيعلنون الموافقة الرسمية و يناقشون شروط العقد هذه الليلة ، و سنقيم حفلة صغيرة بعد أيام لعقد القران ...

    دانة أصبحت لا تطاق بسبب توترها و عصبيتها ، لكنها سعيدة ! سعيدة جدا ...

    أنا لم أجرب هذا الإحساس ... و لا أعرف كيف يكون ... إنني فقط أعرف أنني مخطوبة لابن عمي سامر لأنني يجب أن أكون مخطوبة له ...
    و سأتزوج منه لأنني يجب أن أتزوج منه ...

    سامر في الوقت الحالي مسافر إلى مدينة أخرى ، من أجل العمل

    موضوع زواجنا تم تأجيل النقاش فيه ، بسبب حضور و رحيل وليد الذي أربك الأجواء ، ثم خطبة دانه التي شغلتنا أواخر الأيام ...

    وليد لم يتصل بنا منذ رحيله ، و والدي يحاول جاهدا الاتصال به بطريقة أو بأخرى من أجل إبلاغه عن خطبة دانه و حفلة العقد

    مجرد تفكيري بهذا الأمر يشعرني بالسعادة ... فوليد سيأتي و لا شك ... لحضور حفلة شقيقته و المشاركة فيها ...

    ألقيت بالمشط جانبا و خرجت من الغرفة في طريقي إلى المطبخ ، و وصلني صوت دانه و هي تغني داخل دورة المياه !

    أنا لم أغنِّ عند خطبتي !

    حين وصلت ، كانت أمي تتبادل الحديث مع والدي بشأن دانه ... لكنهما توقفا عن الكلام لدى رؤيتي !

    " أمي ... ماذا عن وليد ؟؟ "

    فهو كان شغلي الشاغل منذ أن رحل ...
    بل منذ أن وصل !
    أمي و أبي تبادلا نظرة سريعة ، قال والدي بعدها :

    " لقد استطعت التحدث إلى سيف ، و أوصيته بزيارة وليد بأسرع ما يمكنه ، و إبلاغه بأنتا ننتظر مكالمة ضرورية منه "

    فرحت بذلك ، و قلت تلقائيا :

    " إذن سأعتكف عند الهاتف ! "

    في ذات اللحظة رن هذا الأخير ، و قفزت مسرعة إليه !

    " مرحبا ! هنا منزل شاكر جليل ... من المتحدث ؟ "

    كانت ابتسامتي تعلو وجهي ، و حين وصلني صوت الطرف الآخر :

    " رغد ! أهذه أنت ؟؟ "

    تلاشت الابتسامة بسرعة ، و قلت بشيء من الخيبة :

    " نعم ... سامر ، إنها أنا "

    و بعد بضع عبارات تبادلناها ، دفعت بالسماعة إلى والدي :

    " إنه سامر ... لن يحضر الليلة "

    و انصرفت عن المطبخ .
    حين سافر سامر ... لم أبك كما بكت أمي ...
    و كما بكيت لسفر وليد ...

    لم يكن هناك أي هاتف في غرفة نومي ، لذا جلست في غرفة المعيشة قريبة من التلفاز ، و كلما رن هاتف بادرت برفع السماعة قبل أن تنقطع الرنة الأولى !
    و في كل مرة أصاب بخيبة أمل ....
    لكن ...
    لماذا أنا متلهفة جدا للتحدث إليه ؟؟

    بعد فترة ، حضر الضيوف المرتقبون ، العريس و والداه و أفراد أسرته .. لو أؤلف كتابا في وصف دانه لسببت أزمة ورق !

    سألخص ذلك بقول : كانت غاية في الجمال ، و الخجل ، و اللطف ، و السعادة !

    تم الاتفاق على كل شيء ، و تعين تحديد ليلة الخميس المقبلة لعقد القران !

    لم أجلس مع ضيفاتنا غير دقائق متفرقة ، و تمركزت عند الهاتف في انتظار اتصال من اتصل رجال العالم كلهم ببيتنا سواه !

    عند العاشرة و النصف ، استسلمت ...
    و ذهبت في اتجاه غرفتي ..
    مررت بغرفة دانه ، فوجدتها مشغولة بإزالة المساحيق و الإكسسوارات التي تزين بها شعرها !

    " كنت جميلة ! "

    نظرت إلي بغرور ، و قالت :

    " اعرف ! "

    ثم استطردت :

    " و سأكون أجمل في الحفلة ! علي أن أذهب للسوق غدا لشراء الحاجيات ! "

    " عظيم ! أنا أيضا سأشتري فستانا جديدا و بعض الحلي ! "

    ابتسمت دانه بسعادة ، و قالت :

    " كم أنا متوترة و قلقة ! ستكون حفلة رائعة "

    ثم أضافت ببعض الخبث :

    " أروع من حفلتك "

    لم أكن في السابق أتضايق كثيرا لتعليق كهذا ، إلا أنني الآن شعرت بالانزعاج ... قلت :

    " أنا لم تقم لي حفلة حقيقية ... لم يكن يوما مميزا "

    قالت :

    " وضعي أنا يختلف ! سأتزوج من أشهر لاعبي الكرة في المنطقة ، و أغناهم أيضا ... شيء مميز جدا ! ... والدي وعدني بليلة لا تنسى ! "

    أصابني كلامها بشيء من الخذلان و الحزن ، فأنا لم يعمل والدي لأجلي شيئا يذكر ليلة عقد قراني ... هممت بالانصراف ، توقفت قبل أن أغلق الباب ، و سألت :

    " هل سيكون وليد موجودا ؟؟ "

    شيء ما برق في عينيها و قالت :

    " نعم ، بالتأكيد سيكون موجودا ... لا يمكنه أن يتخلى عني أنا ! "

    ذهبت إلى غرفتي و أنا حزينة ...
    فوليد لم يتصل
    و دانه تسخر مني
    و من الطريقة التي تمت خطبتي بها ...
    رغم أنها كانت أكثر من أقنعني بأنه لابد لي من الزواج من سامر ...
    فهو أقرب الناس إلي ، و هو يحبني كثيرا ، و هو مشوه بشكل يثير نفور بقية الفتيات ...
    و بسببي أنا ...

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    فيما كنت أسخن بعض الفاصوليا على لهيب الموقد في المطبخ ، حضر صديقي سيف .

    لم أكن أتوقع زيارته ،كانت الساعة السادسة مساءا ، لكنني سررت بها

    " تفضل ! إنني أعد بعض الفاصوليا ... عشاء مبكر ! ستشاركني فيه "

    قلت ذلك و أنا أقوده إلى المطبخ ...

    حينما وصل و شم رائحة الفاصوليا قال بمرح :

    " تبدو شهية ! سأتناول القليل فقط ، فلدي ضيوف على العشاء هذا المساء "

    وضعت مقدارين منها في طبقين صغيرين ، مددت بأحدهما نحو صديقي و قلت :

    " جرب طهو ـ أو بالأحرى تسخين يدي ! "

    تناول سيف بعضها و استساغ الطعم ... ثم قال :

    " لكنها لا تقارن بأطباق والدتي ! يجب أن تشاركنا العشاء الليلة يا وليد "

    ابتسمت ابتسامة باهتة ، و لم أعلق ...

    " هيا يا وليد ! سأعرفك على زملائي و أصدقائي في العمل "

    قلت :

    " كلا لا يمكنني ، لدي ارتباطات أخرى "

    سيف نظر إلي باستنكار ...

    " أية ارتباطات ؟؟! "

    ابتسمت و قلت :

    " سآخذ الأطفال إلى الملاهي ! فقد وعدتهم بذلك "

    سيف كان يحرك الملعقة باتجاه فمه ، فتوقف في منتصف الطريق و قال :

    " أي أطفال ؟؟ "

    قلت بابتسام و أنا أقلب الفاصوليا في الطبق لتبرد قليلا :

    " رغد و دانة و سامر ! سأجعلهم يستمتعون بوقتهم ! "

    أعاد سيف الملعقة و ما حوت على الطبق ... و ظل صامتا بضع ثوان ...

    " ما بك ؟ ألم يعجبك ؟ "

    أعني بذلك الفاصوليا

    سيف تنهد ثم قال :

    " وليد ... ما الذي تهذي به بربك ؟؟ "

    تركت الملعقة تنساب من يدي ، و قد ظهرت علامات الجدية على وجهي الكئيب و قلت :

    " أتخيل أمورا تسعدني ... و تملأ فراغي ... "

    هز سيف رأسه اعتراضا ، و قال :

    " ستصاب بالجنون إن بقيت هكذا يا وليد ! بل إنك أصبت به حتما ... ينبغي أن تراجع طبيبا "

    دفعت بالكرسي للوراء و أنا أنهض فجأة و استدير موليا سيف ظهري ...
    سيف وقف بدوره ، و تابع :

    " لا تفعل هذا بنفسك ... أتريد أن تجن ؟؟ "

    استدرت إلى سيف ، و قلت :

    " ما الفرق ؟ لم يعد ذلك مهم "

    " كلا يا وليد ... لا تعتقد أن الدنيا قد انتهت عند هذا الحد ... لا يزال أمامك المستقبل و الحياة "

    قاطعته بحدّة و زمجرت قائلا :

    " المستقبل ؟؟ نعم المستقبل ... لرجل عاطل عن العمل متخرج من السجن لا يحمل سوى شهادة الثانوية المؤرخة قبل ثمان سنين ! و يخبئ بعض النقود التي استعارها من أبيه في جيب بنطاله ليشتري بها الفاصولياء المعلبة فيسد بها جوعه ... نعم إنه المستقبل "

    سيف بدأ يتحدّث بانفعال قائلا :

    " تعرف أن فرص العمل في البلد ضئيلة بسبب الحرب ، لكنني سأتدبر الأمر بحيث أتيح الفرصة أمامك للعمل معي ... "

    قلت بسرعة :

    " معك ؟ أم عندك ؟؟ "

    استاء سيف من كلمتي هذه و همّ بالانصراف .

    استوقفته و قدمت إليه اعتذاري ...

    لقد كان اليأس يقتلني ... و لا شيء يثير اهتمامي في هذه الدنيا ...

    قال سيف :

    " المزيد من الصبر ... و سترى الخير إن شاء الله "

    ثم تقدّم نحوي و قال :

    " و الآن ... تعال معي ... فالأشخاص الذين سيتناولون العشاء معنا سيهمك التعرف إليهم "

    لكنني رفضت ، لم أشأ أن أظهر أمام رجال الأعمال و أحرج صديقي ، لكوني شخص تافه خرج من السجن قبل أسابيع ...

    " كما تشاء ... لكنك ستحضر غدا ! عشاء خاص بنا نحن فقط ! "

    أومأت إيجابا ، إكراما لهذا الصديق الوفي ...

    قال سيف :

    " يا لك من رجل ! لقد أنسيتني ما جئت لأجله ! "

    " ما هو ؟؟ "

    " تلقيت اتصالا من والدك اليوم ، يريد منك أن تهاتفه للضرورة "

    شعرت بقلق ، فلأجل ماذا يريدني والدي ؟؟

    " أتعرف ما الأمر ؟؟ "

    " لا فكرة لدي ، لكن عليك الاتصال بهم فورا "

    و أشار إلى الهاتف المعلق على الجدار ...

    قلت :

    " الخط مقطوع ! "

    " حقا ؟؟ "

    " كما كانت الكهرباء و المياه أيضا ! تصور أنني عشت الأيام الأولى بلا نور و لا ماء ! "

    ضحك سيف ثم قال :

    " معك أنت يمكنني تصور كل شيء ! هل تريد هاتفي المحمول ؟ "

    " لا لا ، سأتصل بهم من هاتف عام "

    سار سيف نحو الباب مغادرا ، التفت قبل الانصراف و قال :

    " موعدنا غدا مساءا ! "

    " كما تريد "

    و عدت إلى طبقي الفاصوليا التي بردت نوعا ما ، و أفرغتهما في معدتي ...

    لم يكن في المنزل أي طعام ، و كنت اشتري المعلبات و التهم منها القدر الذي يبقيني حيا ...

    تعمدت عدم الاتصال بأهلي طوال الأسابيع الماضية ، و عشت مع أطيافهم داخل المنزل

    حاولت البحث عن عمل و لكن الأمر كان أصعب من أن يتم في غضون بضع أسابيع أو أشهر ...

    في ذلك المساء ذهبت إلى أحد المحلات التجارية لشراء بعض الحاجيات ، قبل أن أجري المكالمة الهاتفية .

    حين حان دوري للمحاسبة ، أخذ المحاسب يدقق النظر في ّبشكل غريب !

    نظرت إليه باستغراب ، فقال :

    " ألست وليد شاكر ؟؟ "

    فوجئت ، فلم يبد ُ لي وجه المحاسب مألوفا ... قلت :

    " بلى ... هل تعرفني ؟؟ "

    قال :

    " و هل أنساك ! متى خرجت من السجن ؟؟ "

    عندما نطق بهذه الجملة أثار اهتمام مجموعة من الزبائن فأخذوا ينظرون باتجاهي ...

    شعرت بالحرج ، و تجاهلت السؤال ... فعاد المحاسب يقول :

    " ألم تعرفني ؟ لقد كنت ُ زميلا للفتى الذي قتلته ! عمّار "

    أخذ الجميع ينظر باتجاهي ، و شعرت بالعرق يسيل على صدغي ...

    جاء صوت من مكان ما يقول :

    " أتقول أن المجرم قد خرج من السجن ؟؟ "

    تلفت من حولي فرأيت الناس جميعا ينظرون إلي بعيون حمراء ، يقدح الشرر من بعضها ، و ينطلق الازدراء من بعضها الآخر ...

    شعرت بجسمي يصغر ... يصغر ... يصغر ... ثم يختفي ...

    خرجت من المكان بسرعة ... دون أن آخذ حاجياتي ، و ركبت سيارتي و انطلقت مسرعا تشيعني أنظار الجميع ...

    لقد أصبحت ذا سمعة سيئة تشير إلي أصابع الناس بلقب مجرم ...

    توقفت عند أحد الهواتف العامة ، و اتصلت بمنزل عائلتي في المدينة الأخرى ...

    كانت الساعة حينئذ الحادية عشر ... و رن الهاتف عدة مرات و لم يجب أحد ...

    و أنا واقف في مكاني أراقب بعض المارة ، تخيلتهم ينظرون إلي و يتحدثون سرا ...

    ربما كانوا يقولون : إنه وليد المجرم !

    و مرت مني سيارة شرطة تسير ببطء ...

    شعرت برعشة شديدة تسري في جسدي لدى رؤيتها ، كانت النافذة مفتوحة و أطل منها الشرطي و أخذ ينظر باتجاهي

    كدت أموت فزعا ... و تخيلته مقبلا نحوي ليقبض علي و يزج بي في السجن من جديد ...

    شعور مرعب مفزع ...

    ظلت يدي تضغط على أزرار عشوائية ، تتصل ربما بالمريخ أو المشتري ، دون أن أملك القدرة على التحكم بها ... حتى ابتعدت السيارة شيئا فشيئا و استعدت بعض الأمان ...

    أعدت الاتصال بمنزل عائلتي و بعد ثلاث رنات أو أربع ، أجاب الطرف الآخر ...

    " نعم ؟ "

    لم أميز الصوت في البداية ، لكنه عندما كرر الكلمة أدركت أنها كانت رغد ...

    " نعم ؟ من المتحدث ؟؟ "

    كان فكي الأسفل لا يزال يرتجف أثر رؤية سيارة الشرطة ... و ربما سمعت رغد صوت اصطكاك أسناني بعضها ببعض ...

    قربت السماعة من فمي أكثر ، و بيدي الأخرى أمسكت بفكي و طرف السماعة كمن يخشى تسرب صوته للخارج ...

    ربما سمع رجال الشرطة صوتي و عادوا إلي !

    قلت :

    " أنا وليد "

    لم أسمع أي صوت فظننت أن الطرف الآخر قد أقفل السماعة ، قلت :

    " رغد ألا زلت ِ معي ؟؟ "

    " نعم "

    ارتحت كثيرا لسماع صوتها

    أو ربما ... تعذبت كثيرا ...

    " وليد كيف حالك ؟ "

    " أنا بخير ، ماذا عنكم ؟ "

    " بخير . كنت أنتظرك ، أقصد كنا ننتظر اتصالك "

    قلت بقلق :

    " ما الأمر ؟؟ "

    رغد قالت :

    " لقد نام الجميع ، والدي يريد التحدث معك ، يجب أن تحضر "

    أقلقني حديثها أكثر ، سألت :

    " ما الخطب ؟؟ "

    " إنه موضوع زواج دانه ! لن أخبرك بالتفاصيل و إلا وبختني ! يجب أن تحضر قبل مساء الأربعاء المقبل "

    كان أمرا فاجأني ، و هو أكبر من أن أناقشه مع رغد و رغد بالذات على الهاتف في مثل هذا الوقت ... و المكان ...

    لذا اختصرت المكالمة بنية الاتصال نهار اليوم التالي لمعرفة التفاصيل ...

    " حسنا ، سأتصل غدا ... إلى اللقاء "

    " وليد ... "

    حينما سمعت اسمي على لسانها ارتجف فكي أكثر مما كان عند رؤية سيارة الشرطة ....

    خرجت الكلمة التالية مبعثرة الحروف ...

    " نـ ... ـعم ... صـ ... ـغيـ ... ـرتي ؟؟ "

    " عد بسرعة ! "

    و التي عادت بسرعة هي ذكريات الماضي ...
    و الذي طردها بسرعة هو أنا
    لم أكن أريد لشيء قد مات أن يعود للحياة ...

    قلت :

    " سأرى ، وداعا "
    و بسرعة أيضا أغلقت السماعة ...
    كم شعرت بقربها ... و بعدها ...

    حينما عدت إلى المنزل ، وقفت مطولا أمام غرفة رغد أحدق ببابها ... حتى هذه اللحظة لم أجرؤ على فتحها هي بالذات من بين جميع غرف المنزل الموحش ...

    دخلت إلى غرفتي الغارقة في الظلام ، و تمددت على سريري بهدوء ...

    ( عد بسرعة ... عد بسرعة ... عد بسرعة ... )

    ظلت تدور برأسي حتى حفرت فيه خندقا عميقا !

    سمعت طرقا على الباب ... طرقا خفيفا ... جلست بسرعة و ركزت نظري ناحية الباب ... كان الظلام شديدا ...

    شيئا فشيئا بدأ الباب ينفتح ... و تتسلل خيوط الضوء للداخل

    و عند الفتحة المتزايدة الحجم ، ظهرت رغد !

    رغد وقفت تنظر إلي و وجهها عابس ... و الدموع منحدرة على خديها الناعمين ...

    هتفت ...

    " رغد ! "

    بدأت تسير نحوي بخطى صغيرة حزينة ... مددت ذراعي و ناديتها :

    " رغد تعالي ... "

    لكنها توقفت ... و قالت :

    " وليد ... عد بسرعة "

    ثم استدارت عائدة من حيث أتت

    جن جنوني و أنا أراها تغادر

    قفزت عن سريري و ركضت باتجاهها و أنا أهتف :

    " رغد انتظري ...
    رغد لقد عدت ...
    رغد لا تذهبي "

    لكنني عندما وصلت إلى الباب كانت قد اختفت ...

    أسرعت إلى غرفتها أطرق بابها بعنف ...
    كدت أكسره ، أو أكسر عظامي ... لكنه ظل موصدا ...
    كما هي أبواب الدنيا كلها أمام وجهي ...


    أفقت من النوم مذعورا ، فوجدت الغرفة تسبح في الظلام و الباب مغلق ...
    لم يكن غير كابوس
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty الحلقة الخامسة عشر و السادسة عشر

    مُساهمة  littledoctor الأربعاء 6 يوليو 2011 - 0:16


    الحلقةالخامسةعشر
    ****************


    أكاد أطير من الفرح ... لأن وليد سيأتي اليوم ...

    إنني منذ وقعت عيناي عليه يوم حضوره قبل شهر ، و أنا أحس بشيء غريب يتحرك بداخلي !

    أهي كريات الدم في عروقي ؟؟

    أم شحنات الكهرباء في أعصابي ؟؟

    أم تيارات الهواء في صدري ؟؟

    بين الفينة و الأخرى ، أخرج إلى فناء المنزل ... و أترقب حضوره

    متى سيصل ؟؟

    سامر أيضا سيعود هذه الليلة ، فمنذ سافر للمدينة الأخرى قبل أسابيع من أجل العمل لم نره ...

    استدرت للخلف ، فإذا بأمي واقفة عند المدخل الرئيسي ، تنظر إلي !

    " رغد ... ما ذا تفعلين ؟؟ "

    اضطربت قليلا ، ثم قلت :

    لا شيء ...

    والدتي ابتسمت ، و قالت :

    " لقد قال سامر إنه سيصل ليلا ! لا تُقلقي أعصابك ! "

    شعرت بغصة في حلقي و كدت أختنق !

    إنني لم أر سامر منذ أسابيع ... و أعلم أنه سيعود ليلا ... لكنني ... لكنني كنت أرتقب وليد !

    كان هذا يوم الأربعاء ... ، و في هذا المساء سيتم عقد قران دانة ...

    إنها مشغولة جدا هذا اليوم ، و كذلك هي أمي ... و الاضطراب يسود الأجواء ...

    " تعالي و ساعدينا ! "

    ألقيت نظرة على الباب الخارجي للمنزل ، و مضيت مذعنة لطلب أمي !

    كانت دانة تجفف شعرها بمجفف الشعر الكهربائي المزعج ، قلت :

    " فيم أساعدك ؟؟ "

    و يبدو أن صوته الطاغي منعها من سماعي ، فكررت بصوت عال :

    " دانة فيم أساعدك ؟؟ "

    انتبهت لي أخيرا ، و قالت :

    " تعالي رغد و جففي هذا المتعب ! "

    دانة كان لها شعر طويل و كثيف مع بعض التموج ، على العكس من شعري القصير الأملس الناعم !

    تناولت المجفف الساخن من يدها و بدأت العمل !

    صوت هذا الجهاز قوي و أخشى أن يعيق أذني عن سماع صوت جرس الباب !

    مرت الدقائق و أنا أحاول الإسراع من أجل العودة للفناء !

    " رغد ! جففي بأمانة ! "

    قالت ذلك دانة و هي تنظر إلي عبر المرآة ... فابتسمت !

    فستان دانة كان جميلا و أنيقا جدا ، و موضوعا على سريرها بعناية
    لدانة ذوق رائع جدا في اختيار الملابس و الحلي و أدوات التجميل !

    لدى عبور هذه الفكرة برأسي تذكرت طقم الحلي الذي رأيته ليلة الأمس و أثار إعجابي الشديد و أردت اقتنائه ، غير أن نقودي لم تكن كافية فأجلت الأمر لهذا اليوم

    " يجب أن أذهب مع أبى لشراء ذلك الطقم قبل أن يحل الظلام ! "

    " حقا ستشترينه ؟ إنه باهظ الثمن ! "

    " طبعا سأشتريه ! ماذا سأضع هذه الليلة إذن ؟؟ "

    " لم لا تضعين العقد الذي أهدتك إياه والدتي قبل أسابيع ؟؟ "

    لم تعجبني الفكرة ، فلقد رأته لمياء ـ شقيقة نوّار ، خطيب دانة ـ يوم حفلة تخرجي !

    إنها أمور نكترث لها نحن الفتيات !

    أو على الأقل ، معظمنا !

    قلت :

    " بل سأشتري شيئا جديدا ! يليق بقرانك ! "

    و ضحكنا !

    لمحت والدتي مقبلة من ناحية الباب فأوقفت تشغيل الجهاز و قلت بسرعة :

    " هل حضر ؟ "

    ثم أضفت بسرعة ، تغطية على الحقيقة :

    " أقصد والدي ؟ أريد أن يصحبني لسوق المجوهرات ! "

    قالت والدتي :

    " ماذا تودين من سوق المجوهرات ؟؟ "

    " سأشتري عقدا جديدا أرتديه الليلة ! "

    بدا على والدتي بعض الاستياء ... ثم قالت :

    " أليس لديك ما يناسب ؟ سأعيرك مما عندي إن شئت "

    عرفت من طريقة كلامها أنها لا تريد مني شراء المزيد .

    أعدت تشغيل الجهاز و واصلت تجفيف شعر دانة الطويل حتى انتهيت ... بصمت ...
    بعدها خرجت من الغرفة قاصدة الذهاب إلى غرفتي ، إذ أن بي شحنة استياء أريد إفراغها ...

    و أنا أمر من والدتي قالت :

    " رغد اذهبي للمطبخ و أتمي تحضير الكعك ، سأوافيك بعد قليل "

    أذعنت للأمر ... و قضيت قرابة الساعة في عمل المطبخ الممل ، حتى أتت والدتي وتقاسمنا العمل ...

    بعد فترة هممت بالانصراف ، فبالي مشغول بانتظار وليد ، و حين رأتني أمي سائرة نحو الباب :

    " إلى أين رغد ؟؟ "

    " سأذهب للاستحمام ! "

    " انتظري ! تعرفين ما من مساعد لي غيرك اليوم ... ! اغسلي الأطباق و الصواني و رتبي الأواني في أماكنها ، ثم تولي كي و طي الملابس ! العمل كثير هذا اليوم ! "

    شعرت بالضيق ! لم أكن أحب العمل في المطبخ و كنت أتولى أقل من ثلث العمل المقسم بيننا نحن الثلاثة ، أمي و دانة و أنا ، لكنني اليوم مضطرة للتضحية بنعومة يدي !

    أثناء ترتيبي للأواني سمعت صوتا مقبلا من جهة مدخل المنزل الرئيسي

    ربما يكون وليد !

    أسرعت بوضع الأواني على عجل فانزلق من يدي بعضها و تحطم على الأرضية الملساء الصلبة !

    " أوه رغد ! ماذا فعلت ! "

    والدتي نظرت إلي بانزعاج ، فزاد ضيقي ..

    " انزلقت من يدي ! "

    و تركت كل شيء و هممت بالانصراف

    " إلى أين ؟؟ "

    " سأرى من عند الباب أمي ! "

    و لم أكد أغادر ، إذ أن والدي قد وصل ، و دخل المطبخ يحمل الكثير من الأغراض

    عدت إلى الأواني المحطمة أرفعها عن الأرض و أنظف الأرضية من شظايا الزجاج

    ثم كان علي ترتيب الأغراض التي جلبها أبي في أماكنها المخصصة ... و الكثير الكثير قمت به فيما دانة في غرفتها ، تسرح شعرها و تتزين !

    حالما انتهيت من جزء من عمل المطبخ ، قلت لوالدي و الذي كان يجلس على المقعد عند الطاولة يكتب بعض الملاحظات على ورقة صغيرة :

    " أبي ... هلا اصطحبتني إلى أحد محلات الحلي ؟ لي حاجة سأشتريها و أعود "

    أمي نظرت إلي و قالت مباشرة :

    " عدنا لذلك ؟ خذي ما تشائين من حليي و لا داعي لإضاعة المال و الوقت ! لدينا الكثير لنفعله الآن ! "

    قلت :

    " و لكن ... إنه جميل جدا و أريد أن أرتديه الليلة ! "

    قالت :

    " هيا يا رغد ! عوضا عن ذلك رتبي الملابس أو غرفة الضيوف و الصالة ... النهار يودعنا "

    لم أناقش أمي ، بل نظرت إلى أبي و هو منهمك في تدوين كلمات على الورقة و قلت :

    " أبي ... لن أتأخر ! سأشتريه و نعود فورا ! "

    والدي قال دون أن يرفع عينيه عن الورقة :

    " فيما بعد رغد ، لدي مهام أخرى أقوم بها الآن "

    خرجت من المطبخ و أنا أشعر بالخيبة و الخذلان ... و ذهبت إلى الغرفة الخاصة بالملابس ، أكويها و أطويها و أرتبها ، و دمعة تتسلل من بين حدقتي من حين لآخر ...

    كنت أكوي فستاني الجديد الذي سأرتديه الليلة بشرود و أسى ...

    لماذا علي أن أعمل بهذا الشكل !؟

    لماذا لا يجلب والدي خادمة للمنزل ؟؟

    هنا سمعت صوت جرس الباب يقرع ...

    لابد أنه وليد !

    تركت كل شيء بإهمال و طرت نحو باب المخرج ، في نفس اللحظة التي أقبل فيها والدي نحو الباب ...

    قال :

    " اذهبي و ارتدي الحجاب ، قد يكون وليد ! "

    رجعت فورا إلى غرفة الملابس و سحبت حجابا لي من كومة الملابس
    ( المجعدة ) و لبسته كيفما اتفق ، و هرعت نحو المدخل ...

    فتحت باب المدخل لأطل على الفناء الخارجي ، و أرى أبي و وليد متعانقين عند البوابة الخارجية ...

    أقبلت أمي مسرعة و فتحت الباب و خرجت مهرولة إلى وليد ...

    وقفت أنا عند الباب الداخلي أنظر و دموعي تفيض من عيني رغما عنها ...

    لقد كان وليد واقفا بطوله و عرضه و جسده العظيم ، يحجب أشعة الغروب عن وداع ما غطاه ظله الكبير ، يضم والديه إلى صدره و ينهال برأسه البارز على رأسيهما بالقبل ...

    وقفت أراقب ... و أنتظر ...

    لقد طال العناق و الترحيب ... و لم يلتفت أو لم ينتبه إلي !
    و فيما أنا كذلك ، و إذا بالباب يفتح ، و تنطلق منه دانة مسرعة كالقذيفة الموجهة نحو وليد !

    تعانقا عناقا حميما جدا ، و دانة تقول بفرح :

    " كنت واثقة من أنك ستحضر ! كنت واثقة من ذلك "

    و وليد يضمها إلى صدره ثم يقبل جبينها و يقول :

    " طبعا سآتي ! كم شقيقة لدي ؟؟ ... ألف مبروك عزيزتي "

    كل هذه الحرارة المنبعثة من اللقاء الحميم أمام عيني جعلتني أنصهر !
    و بدا أن دموعي على وشك التبخر من فرط حرارة خدي ّ
    وليد !
    من أي طينة خلقت أنت ؟؟ و لماذا تنبعث منك حرارة حارقة بهذا الشكل !
    ألا تحس الأشجار أن الشمس قد ارتفعت بعد الغروب !؟
    و أخيرا ، تحرك الثلاثة مقبلين نحوي ... نحو المدخل ...

    أخيرا لامست نظراتي الجمرتين المتقدتين ، المتمركزتين أعلى ذلك الرأس ... مفصولتين بمعقوف حاد ، يزيدهما شرارا ... و حدة ... و اشتعالا !

    توهج وجهي احمرارا و تلعثم قلبي في نطق دقاته المتراكضة ... و شعرت بجريان الأشياء الغريبة في داخلي ...
    الدماء
    سيالات الأعصاب
    و الأنفاس !

    و هو يخطو مقتربا ، و حجمه يزداد ... و رأسه يعلو ... و عنقي يرتفع !

    سقطت أنظاري فجأة أرضا و كأن عضلات عيني قد شلت ! لم أستطع رفعهما للأعلى لحظتها ...

    و جاء صوته أخيرا يدق طبلتي أذني ...

    بل يكاد يمزقهما !

    " كيف حالك صغيرتي ؟؟ "

    و كلمة صغيرتي هذه تجعلني أحس أكثر و أكثر بصغر حجمي و ضآلتي أمام هذا العملاق الحارق !

    رفعت عيني أخيرا ببعض الجهد و أنا أضم شفتي مع بعضهما البعض استعدادا للنطق !

    " بخير ... "

    و لكن ... حين وصلت عيناي إلى جمرتيه ، كانتا قد ابتعدتا ...

    لم يكن وليد ينظر إلي ، و لا حتى ينتظر جوابي !

    لقد ألقى سؤاله بشكل عابر و أشاح بوجهه عني قبل أن يسمع حتى الإجابة ... و هاهي دانة تفتح الباب ... و هاهو يدخل من بعدها ... و يدخل والداي من بعده ... و ينغلق الباب من بعدهم !

    وقفت متحجرة في مكاني لا شيء بي يتحرك ... حتى عيناي بقيتا معلقتين في النقطة التي ظنتا أنهما ستقابلان عيني وليد عندها ...

    مرت برهة ... و أنا أحدق في الفراغ !

    هل كان وليد هنا ؟؟

    هل مر وليد من هنا ؟؟

    هل رأته عيناي حقا ؟؟؟

    لم أجد جوابا حقيقيا ...

    بدا كل شيء كالوهم و الخيال !


    أفقت من شرودي و استدرت ، و فتحت الباب فدخلت ... و وصلتني أصوات أفراد أسرتي من غرفة المعيشة ...
    حركت قدمي بإعياء شديد متجهة إلى حيث هم يجلسون ...
    كان وليد يجلس على مقعد كبير ، و هم إلى جانبيه ... لا أظن أن أحدا انتبه لوجودي ! وقفت عند مدخل الغرفة أراقبهم و جميعهم مسرورون و أنا تعيسة !

    بعد قليل ، أمي قالت فجأة :

    " أتشمون رائحة شيء يحترق ؟؟ "

    الشيء الذي قفز إلى رأسي هو المقعد الذي يجلسون عليه ! ربما احترق من حرارة وليد !

    و بالفعل شممت الرائحة !

    " إنها قادمة من هناك ! "

    و أشارت والدتي نحوي ... طبعا كانت تقصد من خارج الغرفة إلا أنني ألقيت نظرة سريعة على ملابسي لأتأكد من أنها لا تقصدني !

    و قفت أمي و كذلك وقف الجميع ، و أقبلت هي مسرعة قاصدة التوجه نحو المطبخ ...

    لم تجد ما يحترق هناك ... ثم سمعت صوتها تنادي بقوة:

    " رغد تعالي إلى هنا "

    ذهبت إليها ، كانت في غرفة الملابس ... تفصل سلك المكواة عن مقبس الكهرباء !

    صحت :

    " أوه ! يا إلهي ! "

    و أسرعت إلى الفستان الذي نسيت المكواة فوقه و خرجت مسرعة لاستقبال وليد !

    " انظري ما فعلت ! سترتدينه الليلة محروقا بهذا الشكل ! "

    أخذت الفستان و جعلت أدقق النظر في البقعة المحروقة ، و أعض شفتي أسفا و حسرة ...

    " ماذا سأفعل الآن ؟؟ "

    قلت بيأس ... فأجابت أمي بغضب :

    " ترتدينه محروقا ! فنحن لم نشتره لنرميه "

    عند هذا الحد ... و لم أتمالك نفسي ...

    و انخرطت في بكاء شديد رغما عني ...

    في نفس اللحظة التي كانت أمي تغادر فيها الغرفة كان البقية مقبلين يتساءلون عما حدث و ما احترق ...

    والدي قال :

    " ماذا حصل ؟؟ "

    أمي أجابت باستياء :

    " تركت فستانها يحترق ! و قبل قليل كسرت الأطباق ! لا أعرف متى ستكبر هذه الفتاة "

    كان الأمر سيغدو مختلفا لو أن وليد لم يكن موجودا يرى و يسمع ...
    كم شعرت بالحرج و الخجل ...
    إنني لست طفلة و مثل هذه الأمور لم تكن لتحدث لو أنني لم أكن مضطربة و مشتتة هذا اليوم ... كما و أن أمي لم تكن لتصرخ بوجهي هكذا لو لم تكن هي الأخرى مضطربة و قلقة ، بسبب الليلة ...

    رميت بالفستان جانبا و أسرعت الخطى قاصدة الهروب و الاختفاء عن الأنظار ...

    كان وليد يقف عند الباب و يسد معظمه ، و حين وصلت عنده لم يتحرك ...

    كنت أنظر إلى الأرض لا أجرؤ على رفع نظري إلى أي منهم ، إلا أن بقاء وليد واقفا مكانه دون أن يتزحزح جعلني أرفع بصري إليه ....

    الدموع كانت تغشي عيني عن الرؤية الواضحة ...

    وليد نظر إلي نظرة عميقة دون أن يتحرك ...

    " إذا سمحت ... "

    قلت ذلك ، فتنحى هو جانبا ، و انطلقت أسير بسرعة نحو غرفتي ...

    في غرفتي ، أطلقت العنان لدموعي لتفيض بالقدر الذي تريد
    كان يومي سيئا ! كم كنت سعيدة في البداية !
    و الآن ...
    حزينة ... محرجة ... مجروحة الخاطر ... مخذولة ...
    بدموع جارية ... و قلب معصور ... و فستان محروق ! و بلا حلي !

    أكثر ما أثر بي ... هو الاستقبال البليد الذي استقبلني به وليد ...
    و أنا من كنت أحترق شوقا لرؤيته !

    غمرت وسادتي البريئة من أي ذنب بالدموع الحارة المالحة ... و بقيت حبيسة الألم و الغرفة فترة طويلة ....

    بعد مدة سمعت طرق الباب ... قمت بتململ و فتحته ، فرأيت أمي ...

    تحاشيت النظر إليها ، فأنا خجلة منها و لست مستعدة لتلقي أي توبيخ هذه الساعة ...

    أمي قالت :

    " رغد ! على الأقل ابدئي الاستعداد ! ألم تستحمي بعد ؟؟ "

    وجدت نفسي أقول بغضب و انفعال :

    " لن استحم ، و لن أحضر معكم و سأنام حتى الغد "

    أمي صمتت قليلا ثم قالت بنبرة عطوفة :

    " يا عزيزتي لم أقصد توبيخك ، لكنك تتصرفين بشكل غريب اليوم ! هيا ابدئي الاستعداد ... "

    رفعت رأسي إليها و قلت :

    " بم ؟ لا فستان و لا حلي ! "

    تنهدت أمي و قالت :

    " ارتدي أي شيء ! ما أكثر ما لديك "

    لم اقتنع ، فأنا أريد أن أظهر جديدة في كل شيء الليلة ! أليست ليلة مميزة؟ إنه عقد قران أختي دانه !

    قلت :

    " لن أحضر دون فستان جديد و مجوهرات ! دعوني أبقى في غرفتي فهذا أفضل و متى ما انتهيتم سأساعدكم في تنظيف المنزل "

    و بكيت

    بكيت بشدة ، و ليس سبب بكائي هو الفستان أو الأواني المكسورة ! إنه قلبي الذي يعتصر ألما من تجاهل وليد لي بهذه الطريقة !

    لماذا فعل ذلك ؟؟

    ألم أعد مهمة لديه ؟؟

    ألم يعد بألا يسمح لدموعي بالانهمار ؟؟

    إنه الذي يفجرها من عيني بغزارة هذه اللحظة ...

    أعرف أن أمي تحبني و تدللني ، مثل أبي ... و هذا ما اعتدته منهما ... لذلك حين قالت :

    " حسنا ... اذهبي بسرعة مع أبيك لشراء شيء مناسب على عجل "

    لم أفاجأ ، بل مسحت دموعي مباشرة خصوصا و هي تنظر إلى الساعة بقلق ...

    أخرجت حقيبتي من أحد الأدراج ... و قلت :

    " لا أملك مبلغا كافيا "

    ذهبت أمي و عادت بعد قليل تحمل بعض الأوراق المالية ، و قالت :

    " سأخبر أبيك كي يشغل السيارة ، أسرعي رغد "

    و ذهبت ، و ارتديت عباءتي و خرجت بعدها ...

    و فيما أنا أجتاز الردهة ، إذا بها مقبلة نحوي تقول :

    " لا فائدة يا رغد لقد خرج والدك ! "

    كان والدي مشغولا طوال اليوم ، و ها قد غادر من جديد ...

    أطلقت تنهيدة يأس مريرة و رميت بالحقيبة جانبا و قلت :

    " قلت لك أنني لن احضر ... دعوني و شأني "

    و أوشكت على البكاء

    أمي قالت :

    " قد يعود بعد قليل ... "

    لكنني كنت قد فقدت الأمل !

    جلست على المقعد و أسندت خدي إلى يدي في أسى ...

    " أيمكنني فعل شيء ؟؟ "

    كان هذا صوتا رجاليا جعلني أسحب يدي فجأة من تحت خذي فينحني رأسي للأسفل ثم يرتفع للأعلى ...

    للأعلى ...

    للأعلى !

    العملاق وليد !

    أمي و وليد تبادلا النظرات ، ثم قالت أمي :

    " ننتظر أن يعود والدك ليصحبها إلى السوق ! "

    قال :

    " لدي سيارة ... إذا كان الأمر طارئا ... "

    الأشياء الغريبة الثلاثة بدأت تجري في داخلي و تتسابق !

    أمي قالت :

    " أنت ... قدمت لتوك ! اذهب و نم قليلا في غرفة سامر ... "

    " لست متعبا جدا "

    " ... ثم أنك لا تعرف المنطقة ! "

    قال و هو ينقل بصره بيني و بين أمي :

    " لكنكما تعرفان ! "

    أي نوع من الأفكار تعتقدون أنني رأيتها ؟؟

    مجنونة !

    قالت أمي بتردد :

    " إنني مشغولة في المطبخ "

    فاستدار وليد إلي و قال :

    " و أنت ِ ؟أتحفظين الطريق ؟؟ "

    ربما كان سؤاله عاديا

    أو ربما استهانة بي ! فهل أنا طفلة صغيرة لا أعر ف الطرق ؟؟

    قلت :

    " نعم ! طبعا "

    ثم نظرت إلى أمي أحاول قراءة رأيها من عينيها ...

    أمي بدت مترددة ... لكنها قالت بعد ذلك موجهة كلامها لي أنا:

    " ما رأيك رغد ؟؟ "

    أنا أقرر قبل أن أفكر في أحيان ليست بالقليلة ! قلت :

    " حسنا "

    و وقفت و سحبت حقيبتي ...

    التفتت أمي نحو وليد و قالت :

    " انتبه لها "

    وليد دخل إلى غرفة المعيشة و أحضر مفتاح سيارته ، و الذي كان قد تركه على المنضدة ...

    تقدمت نحو باب المنزل و وقفت في انتظاره ، حتى إذا ما أقبل فتحت الباب و خرجت قبله !

    خطواتي أنا قصيرة و بسيطة ، كيف لها أن تضاهي خطواته الواسعة الشاسعة !؟

    سبقني و خرج من البوابة الخارجية لفناء المنزل ... و سمعت صوت باب سيارة ينفتح ...

    ما إن خرجت من البوابة ، حتى وقعت عيناي على سيارة وليد ... نفس السيارة التي كان يقودها منذ سنين ...

    المرة الأخيرة التي ركبت فيها هذه السيارة كانت في أسوأ أيام حياتي ...

    شعرت بقشعريرة شديدة تجتاحني و ثبت في مكاني و لم أجرؤ على المضي خطوة للأمام ...

    وليد شغل السيارة و انتظرني ... و طال انتظاره !

    التفت نحو الباب فوجدني واقفة هناك بلا حراك

    ضغط على بوق السيارة لاستدعائي لكنني لم أتحرك

    الشيء الذي تحرك هو شريط الذكريات القديمة البالية ... الموحشة البائسة ... التي طردتها من خيالي عنوة ...

    وليد فتح الباب و خرج من السيارة و نظر باتجاهي و قال :

    " ألن تذهبي ؟؟ "

    تحركت قدماي دون إدراك مني و اقتربت من السيارة

    مددت يدي فإذا بها تلقائيا تتوجه إلى الباب الأمامي ، فأجبرتها على الانحراف نحو الباب الخلفي ، فتحته و جلست على المقعد الخلفي فيما وليد يجلس في المقدمة و إلى اليسار مني ... يكاد شعره الكثيف يلامس سقف السيارة !

    عندما كنا صغارا ، أنا و دانة ... كنا نتشاجر من أجل الجلوس على المقعد الذي أجلس خلفه مباشرة الآن !

    وليد انطلق بالسيارة نحو الشارع الرئيسي ثم سألني و هو يراقب الطريق :

    " أين نتجه ؟ "

    سار وليد ببطء نسبيا يسألني عن الطرق و المنعطفات ، و أرشده إليها حتى بلغنا المكان المطلوب .

    كان سوقا صغيرا مليئا بالناس ...

    أوقف وليد السيارة ، ففتحت الباب و خرجت و تقدمت للأمام

    وليد لم يخرج ، و سمعت صوته عبر نافذة الباب الأمامي المفتوحة يقول :

    " كم ستبقين ؟؟ "

    تعجبت ، فقلت و أنا أقرب وجهي من النافذة بعض الشيء :

    " ألن تأتي معي ؟؟ "

    وليد صمت قليلا ، و ربما ارتبك ، ثم قال :

    " و هل يجب أن آتي معك ؟؟ "

    قلت :

    " نعم ! "

    قال :

    " سأنتظرك هنا ... هذا أفضل "

    بقيت واقفة في مكاني لحظة ، فعاد يقول :

    " هل يجب أن أرافقك ؟؟ "

    قلت :

    " أو تعيدني للبيت "

    و تراجعت للوراء و مددت يدي قاصدة فتح الباب الخلفي ...

    وليد فتح بابه و نزل و دار حول السيارة نصف دورة حتى صار إلى جانبي

    قلت :

    " من هنا "

    و سرنا نحو بوابة المجمع الصغير ، هو مجمع اعتدنا أنا و دانة و أمي شراء حاجياتنا منه

    حينما بلغنا المتجر المقصود ، و هو متجر للملابس ، و كان يعج بالكثيرين، دخلته و توجهت نحو زاوية معينة ...

    التفت إلى الخلف فوجدت وليد واقفا في الخارج ينظر من خلال زجاج المتجر ...

    عدت أدراجي إليه بسرعة ... ثم قلت :

    " ألن تدخل معي ؟؟ "

    وليد بدا مترددا حائرا ... ربما هو غير معتاد على ارتياد الأسواق !

    لذا تحرك ببطء ...

    لأنني قمت بزيارة المتجر يوم أمس فأنا أعرف ما يوجد و ما يناسب ، لذا لم استغرق سوى دقائق حتى اشتريت فستانا مختلفا عن فستاني المحروق !

    إنه أجمل و أغلى !

    حينما هممت بالمحاسبة أخرج وليد محفظته ، و دفع الثمن !

    كم أنا خجلة منه ! آمل ألا يفعل ذلك في متجر المجوهرات !

    لم يكن وليد يتحدث ، بل كان يسير على مقربة مني بصمت و اضطراب ...

    أنا أيضا كنت خرساء جدا !

    أقبلنا نحو متجر المجوهرات ، و كان الآخر مزدحما بالناس ، و معظمهم سيدات

    دخلناه و أخذت عيناي تفتشان عن الطقم الجميل الذي أغرمت به يوم أمس ... لم يكن موجودا في مكانه فخشيت أن تكون سيدة ما قد سبقتني بشرائه !

    جلت ببصري في المتجر حتى وجدت ضالتي ، التفت للوراء فلم أجد وليد ...

    تلفت يمنة و يسرة و لم أجده ...

    أقبل صاحب المتجر يسألني :

    " ماذا أعجبك سيدتي ؟ "

    أسرعت مهرولة نحو الباب و نظرت من حولي فوجدت وليد واقفا يتأمل بعض التحف المعروضة في متجر مجاور ...

    " وليد "

    نادينه و أنا مقبلة إليه أحث الخطى ...

    التفت إلي :

    " هل انتهيت ؟ "

    " لا "

    تعجب ! و قال :

    " إذن ؟؟ "

    قلت :

    " لا تبتعد عني "

    بقى متعجبا برهة ثم أقبل معي و عدنا لذلك المتجر ...

    اشتريت الطقم الباهظ الثمن و حين سمع وليد بالسعر اضطرب قليلا

    فتح محفظته ليلقي بنظرة على ما بداخلها إلا أنني أسرعت بإخراج النقود من حقيبتي و دفعتها إليه

    قبل أن نغادر المتجر قال وليد :

    " أي شيء يصلح هدية صغيرة لدانة ؟ فأنا لا أعرف ماذا تحب ! "

    أما أنا فاعرف ماذا تحب !

    اعتقد أن الرجال لا يحتارون كثيرا في اختيار هدية لامرأة ! لأن المجوهرات موجودة دائما ... و تتجدد دائما ... و غالية دائمة ... و نعشقها دائما !

    اخترت شيئا جميلا و بسيطا ، و معتدل السعر ، فاشتراه وليد دون تردد

    خرجنا بعد ذلك من المتجر متجهين نحو البوابة ، و أثناء ذلك عبرنا على أحد محلات الأحذية الرجالية فقال وليد :


    " سألقي نظرة "


    و سار خطى سريعة نحو المدخل ...

    كان في المتجر عدد من الرجال و الأطفال ...

    و أنا أرى وليد يبتعد ... و يهم بدخول المتجر ... و المسافة بيننا تزداد خطوة بعد خطوة ... و الناس يتحركون من حولي ... ذهابا و إيابا ...
    و رجال يدخلون ... و رجال يخرجون ... و وليد يكاد يختفي بينهم ، ناديت بصوت عال :

    " وليد "

    و رغم الازدحام و الضوضاء الصادرة من حركة الناس و كلامهم ، سمعني وليد فالتفت إلي ...

    أنا أسرعت الخطى المضطربة باتجاهه ... و هو اقترب خطوتين ... و حين أصبحت أمامه قلت :

    " لا تتركني وحدي "

    وليد يعلوه الاستغراب ، قال مبررا :

    " سألقي نظرة سريعة فحسب ... لدقيقة لا أكثر "

    عدت أقول :

    " لا تتركني وحدي "

    عدل وليد عن فكرة إلقاء تلك النظرة ، و قال :

    " هل تريدين شيئا آخر ؟؟ "

    قلت :

    " كلا "

    قال :

    " إذن ... هيا بنا "

    عندما عدنا إلى المنزل ، و قبل أن يفتح لنا الباب بعد قرع الجرس ، التفت إليه و قلت :

    " شكرا ... وليد "

    لكن أذهلني الوجوم المرسوم على وجهه !

    كأنه مستاء أو أن مرافقتي قد أزعجته

    إنني لم أطلب منه ذلك بل هو من عرض المساعدة !

    دخلنا إلى الداخل ، فتوجه هو تلقائيا نحو المطبخ ، فسرت خلفه ...

    والدتنا كانت لا تزال منهمكة في العمل ، حين رأتنا بادرت بسؤالي :

    " هل وجدت ما أردت ؟؟ "

    و أخذت تنظر إلى الكيس الذي أحمله ...

    " نعم "

    و فتحت الكيس ، و أخرجت منه كيسا آخر صغير يحتوي على علبة المجوهرات ...

    ما أن رأتها أمي حتى هزت رأسها اعتراضا و استنكارا ... فهي لم تكن تشجعني على شراء المزيد ، فقلت بسرعة مبررة :

    " إنه طقم رائع جدا ! انظري ... "

    و قربته منها فتأملته و قالت :

    " نعم رائع و لكن ... "

    لم تتم الجملة ، بل قالت :

    " و لكنك اشتريته على أية حال ! "

    ابتسمت ابتسامة النصر !

    و التفت نحو وليد الذي كان يتابع حديثنا و قلت :

    " أليس رائعا ؟ ما رأيك ؟؟ "

    وليد بدا مضطربا بعض الشيء ، ثم قال :

    " لا أفهم في هذه الأمور ، لكن ... نعم رائع "

    و توجه نحو أحد المقاعد و جلس باسترخاء ...

    أمي قالت :

    " بني ... اذهب و استرخ في غرفة سامر لبعض الوقت ! إنك مجهد "

    الآن وليد ينظر باتجاه والدتي ، و لا أقع أنا في مجال الرؤية لديه ... باستطاعتي أن ادقق النظر في أنفه المعقوف دون أن يلاحظ !

    ما حكاية هذا الأنف يا ترى !؟

    أخذت أتخيل شكل وليد قبل أن يسافر ... كم يبدو مختلفا الآن !

    " رغد ألن تستعدي ؟؟ "

    انتبهت على صوت والدتي تكلمني ، أجبت باضطراب و كلي خشية من أن تكون شاهدتني و أنا أتأمل ذلك الأنف !

    " حاضر ، نعم سأذهب "

    و انطلقت نحو غرفتي ...

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    بعد أن غادرت رغد ، هممت بالذهاب إلى غرفة أخي سامر و تأدية الصلاة ثم الاسترخاء لبعض الوقت ...

    إنني متعب بعد مشوار الحضور الطويل

    نظرت إلى فتحة الباب لأتأكد من أن رغد قد ابتعدت ، ثم قلت :

    " أمي ... لم كانت رغد تبكي ؟؟ "

    أمي كانت تزين قالب الكعك بطبقة من الشيكولا ، و كانت الكعكة شهية المنظر !

    قالت أمي :

    " لأنها أحرقت فستانها كما رأيت ! تصور ! لقد اشترته يوم الأمس بمبلغ محترم ... ! "

    صمت برهة ثم قلت :

    " و الآخر أيضا غال الثمن ، و حتى هذا الطقم "

    ابتسمت والدتي و قالت :

    " إنها تبذر النقود ، هذا أحد عيوبها ! "

    أوه هكذا ؟ جيد ... !
    لقد عرفت شيئا جديدا عن طفلتي ... أصبحت مبذرة للمال أيضا ؟؟ و ماذا بعد ...؟؟
    قلت بتردد :
    " هل ... هل ... تحسنون معاملتها ؟؟ "

    رفعت أمي بصرها عن الكعكة و نظرت نحوي باستغراب ... ثم قالت :

    " طبعا ! بالتأكيد ! بل إننا ... ندللها كثيرا ! "

    تنهدت بارتياح نسبي ، و عدت أقول :

    " إذن ... لماذا كانت تبكي ؟؟ "

    أمي تعجبت أكثر ، و قالت :

    " قلت لك ... بسبب الفستان ! "

    قلت :

    " لا أمي ... أعني قبل ذلك "

    " قبل ذلك ؟؟ "

    " عندما خرجت لاستقبالي فور وصولي ... "
    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    في غرفة أخي سامر ، و الذي سيصل بعد قليل قادما من المدينة الأخرى حيث يعمل ، اضطجعت على السرير و سبحت في محيط لا نهائي من الأفكار ...

    الشيء الذي أثار قلقي هو الطريقة التي وبخت فيها والدتي رغد بعد وصولي بقليل ...

    فهل حقا يحسن الجميع معاملتها و يدللها ؟؟

    لم أتحمل رؤيتها تبكي ...

    عندما كنا في منزلنا القديم ، لم أكن لأسمح لأحد بأن يحزنها بأي شكل من الأشكال ، مهما فعلت

    كانت دانه دائما تتشاجر معها أو تضربها ، و كنت دائما أقف في صف صغيرتي ضد أي كان ...
    ترى ... هل تذكر هي ذلك ؟؟ أم أنني أصبحت من الماضي المنسي ... و الأحلام الوهمية ... و الذكريات المهجورة ؟؟

    حاولت النوم و لم استطع ، لذا عدت إلى غرفة المعيشة فوجدت والديّ و رغد هناك ...

    تبادلنا بعض الأحاديث عن عريس دانة ، و هو لاعب كرة ذاع صيته و اشتهر في الآونة الأخيرة ...

    قلت :

    " و لكن ألا تفكر في متابعة دراستها ؟ إنها لا تزال صغيرة على الزواج ! "

    قال أبي :

    " لا تريد الدراسة ، و هو عريس جيد ! كما و أنها في سن مناسب ! فليوفقهما الله ! "

    لحظات و إذا بسامر يحضر ، و يحظى بترحيب لا يقل حرارة عن ترحيبهم بي ...

    بدأ سامر بأكبرنا ، ثم حين جاء دوري ، صافحني بحرارة و شوق كبيرين جدا ... و أطال عناقي الأخوي ...

    أشعرني هذا بقربه مني ، بعدما فرقت السنين بيننا ... و بأنني لازلت أملك عائلة تحبني و ترغب في وجودي في أحضانها ...

    شيء رفع من معنوياتي المتدهورة

    لكن ...

    سرعان ما انحطت هذه المعنويات و اندفنت في لب الأرض تحت آلاف الطبقات من الحجر و الحديد و الفولاذ ، حين أقبل إلى رغد يصافحها و يضمها إلى صدره و يقبل جبينها بكل بساطة ...

    لو كنت بركانا ... أو قنبلة ... أو قذيفة نارية ، لكنت انفجرت لحظتها و دمرت كوكب الأرض بأسره و نسفته نسفا و حولته إلى مسحوق غبار

    لكنني كنت وليد

    أو بالأصح ...

    شبح وليد ...

    ما الذي دعاني لتمالك نفسي ؟؟ لا أعرف ...

    لقد كان باستطاعتي أن أحطم رأس أي مخلوق يقف أمامي شر تحطيم

    و لو ضربت الجدار بقبضتي هذه لسببت زلزالا مدمرا و لهوى السقف و قضى علينا جميعا ...

    لكنني اكتفيت بان أحفر أسناني من شدة الضغط ، و أمزق أوتار يدي من قوة القبض ...

    ليت أمي لم تلدك يا سامر

    ليتك تتحول إلى أي رجل آخر في العالم ، لكنت استأصلت روحك من جسدك و مزقتك خلية خلية ...

    " أين العروس ؟؟ "

    سأل أخى و هو لا يزال ممسكا بيد رغد ...

    " في غرفتها ! تتزين ! "

    قالت رغد ، فقال :

    " سأذهب لرؤيتها "

    و شد رغد يحثها على السير معه ... و ذهب الاثنان و غابا عن ناظري ...

    ليتني لم أعد

    أي جنون هذا الذي جعلني أعود فاحترق ؟؟ إنني أكاد انفجر

    هل يحس أحد بي ؟؟

    سمعت أمي تقول :

    " ما بك وليد ؟ أ أنت متعب بني ؟؟ "

    متعب ؟؟

    فقط متعب ؟؟

    ابتعدوا عني و إلا فأنني سأحرقكم جميعا !

    رميت بجسدي المشتعل على المقعد و أخذت أتنفس بعمق أنفاس متلاحقة عل الهواء يبرد شيئا مما في داخلي

    مرت لحظة صامته إلا عن تيار الهواء المتلاعب في صدري

    أمي و أبي لا يزالان واقفين كما هما ... و أنا أشعر بحر شديد و أكاد أختنق ....

    رفعت رأسي فإذا بهما يراقبانني ... أظن أن وجهي كان شديد الاحمرار و يتصبب عرقا ...

    القلق كان باد على وجهيهما

    قلت :

    " الجو حار ... "

    أمي سارت نحو المكيف و زادت من قوة دفعه للهواء ...

    التفت إلى أبي و قلت :

    " و هذان ؟؟ متى ارتبطا ؟؟ "

    لم يجب أبي مباشرة ، ثم قال :

    " عقدنا قرانهما قبل ما يزيد عن السنوات الثلاث "

    مزيد من الاختناق و الضيق ... كأن الهواء قد سحب من الغرفة تماما ...

    قلت :

    " ألا ترى يا والدي أنهما لا يزالان صغيرين ؟ على الأقل رغد ... صغيرة جدا "

    أبي قال :

    " إننا لن نزوجهما قريبا على أية حال ، فرغد تود الالتحاق بالجامعة أولا و لا أدري إن كان سامر سيفلح في إقناعها بغير ذلك "

    أثارت الجملة اهتمامي ، قلت :

    " غير ذلك ؟؟ "

    قالت أمي :

    " قد نزوج الثلاثة في ليلة واحدة قريبا ! "

    و ابتسمت ، ثم قالت :

    " و يأتي دورك ! "

    وقفت مستاء ، و يممت وجهي شطر المطبخ فأنا أحس بعطش شديد و بحاجة لنهر كامل ليرويني و يخمد نيراني ... و تركت والدي ّ في حيرة من أمرهما ...
    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    تم عقد القران و انتهت الليلة بسلام أخيرا !

    لقد بذلت جهودا مضاعفة في تنظيف المنزل بعد مغادرة الضيوف !

    أما دانه فكان القلم مرفوعا عنها هذا اليوم !

    طلبت من أمي أن تذهب للراحة و توليت أنا ، مع سامر تنظيف الأطباق ...

    أما الرجل الناري فلا علم لي بأي أرض يحترق هذه الساعة !

    كنت واقفة أمام صنبور الماء البارد أغسل الأطباق ، و سامر إلى جانبي ...

    سألته :

    " كيف بدا العريس ؟؟ "

    أجاب :

    " مهذبا و خلوقا و بشوشا ! "

    قلت :

    " لا يعجبني ! "

    ابتسم سامر و قال :

    " و لكن لم ؟؟ "

    أجبت :

    " لا أعرف ! لكنني أجده ثقيل الظل ! إنه مغرور و يتحدث عن نفسه بزهو و خيلاء أمام الكاميرات ! كيف تتحمل دانه زوجا كهذا ؟؟ "

    سامر ضحك ، فضحكت معه ...

    قال :

    " ليس المهم رأيك أنت به ! المهم رأي العروس به ! "

    ثم غير نبرة صوته حتى غدت أكثر لطفا و رقة ، و قال :

    " و رأيك بي أنا ... "

    ارتبكت .. و اضطربت تعبيرات وجهي ، و أخفيت نظراتي في حوض الغسيل !

    وصلنا هذه اللحظة صوت حركة عند الباب ، فالتفتنا للخلف فإذا به وليد ...

    و صدقوني ، شعرت بماء الصنبور يحرقني !

    تبادلنا النظرات ...

    قال وليد :

    " هل لي بلحاف ؟ سأنام في غرفة الضيوف "

    نظف سامر يده و استدار نحو وليد قائلا :

    " أوه كلا يا أخي ، بل ستنام في غرفتي و على سريري ، سأنام أنا على الأرض أو في غرفة الضيوف أو أي مكان ! "

    لم يظهر على وليد أنه يرحب بالفكرة أو حتى سماعها !

    قال :

    " أريد لحافا لو سمحت "

    كان وجهه جامدا صارما ، و رغم أن سامر كان يبتسم ، ألا أن وليد كان عابسا ...

    قال سامر :

    " أرجوك استخدم غرفتي ! أنا سأسافر بعد الغد على أية حال "

    قال وليد :

    " و أنا كذلك . هلا أحضرت لحافا الآن ؟؟ "

    وليد شخص غريب ... نعم غريب !

    نحن لا نعرفه ! و لا نعرف كيف هي طباعه و لا كيف كانت حياته في الخارج ... ربما كان صارما جدا ... قلما رأيته يبتسم مذ عودته !

    انتهى الأمر بأن نام وليد في غرفة الضيوف ، على المقعد الكبير ، الذي نمت عليه ذلك اليوم ! أتذكرون ؟؟

    توقعت أن أجد صعوبة في النوم ... طالما تفكيري مستعمر من قبل وليد ... ألا أنني نمت بسرعة مدهشة !

    في اليوم التالي ، اجتمعت العائلة في غرفة الطعام لتناول الفطور الصباحي ، في ساعة متأخرة من الصباح !

    أعددنا الأطباق في غرفة المائدة ، و جاء الجميع ليتخذوا مقاعدهم ...

    كالعادة جلس والداي على طرفي المائدة ، و دانة إلى يمين أبي ، و سامر إلى يساره ، و هممت بالجلوس على مقعدي المعتاد يمين أمي ، لكنني انتظرت وليد ...

    وليد حرك ذات المقعد و قال :

    " مقعدك ... "

    و تركه و ذهب للجهة المقابلة و جلس إلى يسار أمي ...

    جلست أنا على مقعدي المعتاد ، و صار وليد مواجها لي ... وضع يسمح للأشعة المنبعثة من ناحيتة لاختراقي مباشرة !

    فجأة ، وقف وليد ... و خاطب دانة قائلا :

    " هلا تبادلنا ؟؟ "

    و تبادلا المعقدين ...

    ربما رأى الجميع هذا التصرف عاديا ... و فسروه بأن وليد يرغب بالجلوس قرب والده .... أو أي تفسير آخر ... ألا أنني فسرته بأن وليد لا يرغب في الجلوس مقابلا لي ...

    صار هذا الوضع هو الوضع الذي نجلس عليه خلال الأيام التي قضاها وليد معنا ...

    وليد كان يلتزم الصمت ، و أنا أريد أن أسمع منه أخباره ، و لا أجرؤ على طرح الأسئلة عليه ...

    بين لحظة و أخرى ، ألقي نظره باتجاهه ، لكن أعيننا لم تلتق مطلقا ...

    بعد الفطور ، ذهب الجميع إلى غرفة المعيشة ، والدي يطالع الصحف و سامر يقلب قنوات التلفاز ، و دانه شاردة الذهن ... فيما وليد و أمي يتبادلان الحديث ، يشاركهما البقية بتعليق أو آخر من حين لآخر

    تركت الجميع كما هم ، و ذهبت إلى غرفة الضيوف لرفع اللحاف و ترتيب ما قد يكون مضطربا ...

    دخلت الغرفة ، فوجدت اللحاف مطويا و موضوعا على المقعد الكبير ، و على المنضدة المجاورة وجدت سلسة مفاتيح وليد ، و محفظته ...

    مشيت بخفة حتى صرت أمام المنضدة و جعلت أحدق في المحفظة بفضول !

    و انتقل فضولي من عيني إلى يدي ، فمددتها و نظرت من حولي لأتأكد من أن أحدا لا يراقبني !

    انفتحت المحفظة المثنية ، فظهرت بطاقة وليد الشخصية و فيها صورة حديثة له !
    بأنفه المعقوف !
    و الآن ... ما هي الفكرة المجنونة التي قفزت إلى رأسي ؟
    سأرسمه !
    لم أدع أي فرصة لعقلي ليفكر ، و أخذت المحفظة و طرت مسرعة إلى غرفتي

    و بدأت أرسم رسمة سريعة خفيفة لمعالم وجهه و أنظر للساعة في وجس و خوف ...

    ما أن انتهيت ، حتى أسرعت الخطى عائدة بالمحفظة إلى غرفة الضيوف ... و توقفت فجأة و اصفر وجهي و ارتجفت أطرافي ... حين رأيت وليد في الغرفة مقبلا نحو الباب ، يحمل في يده سلسلة المفاتيح ...

    أول شيء وقعت عينا وليد عليه هو محفظته التي تتربع بين أصابع يدي !

    رفع وليد بصره عن المحفظة و نظر إلي ، فأسرعت بدفن أنظاري تحت قدمي قال باستنكار :

    " أظن أنها ... تشبه محفظتي المفقودة تماما ! "

    ازدردت ريقي و تلعثمت الكلمات على لساني من شدة الحرج و الخجل ...

    قال وليد :

    " خائنة ... مبذرة ... و ماذا بعد ؟ هل تسرقين أيضا ؟؟ "


    رفعت نظري إليه و فغرت فاهي بذهول ... من هول ما سمعت !
    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~


    الحلقةالسادسةعشر
    ****************


    لقد قضيت خمسة أيام في بيت عائلتي ، كان يمكن أن تكون من أجمل أيام حياتي ... لكنها كانت من أسوأها

    كنت أود الرحيل عنهم في أقرب فرصة ، لكنني اضطررت كارها للبقاء بإلحاح من أبي و أمي

    سامر غادر يوم الجمعة ، و قد ودعته وداعا باردا ... و غادرت أنا صباح الثلاثاء التالي باكرا .

    خلال تلك الأيام الخمسة ...
    كنت أتحاشى الالتقاء برغد قدر الإمكان و لا أنظر أو أتحدث إليها إلا للضرورة
    و هي الأخرى ، كانت تلازم غرفتها معظم الوقت و تتحاشى الحديث معي ، خصوصا بعد أن قلت لها :

    " هل تسرقين ؟ "

    اعترف بأنني كنت فظا جدا ألا أنني لم أجد طريقة أفضل لأعبر بها عن غضبي الشديد و مرارتي لفقدها

    في آخر الأيام ، طلبت مني والدتي اصطحاب رغد إلى المكتبة لتشتري بعض حاجياتها .

    لم أكن لأفعل ذلك ، غير أنني شعرت بالحرج ... إذ أن والدي كان قد عاد قبل قليل من العمل و يسترخي ... فيما أنا أنعم بالراحة و الكسل ، دون مقابل ...
    و ربما كان ذلك ، نوعا من الإعتذار ...
    في ذلك اليوم كان نوار في زيارة مطولة لشقيقتي ، و مدعو للعشاء معها !

    ذهبنا أنا و رغد إلى تلك المكتبة العظمى المترامية الأطراف ...
    رغد توجهت إلى الزاوية الخاصة ببيع أدوات الرسم و التلوين و خلافها ... و بدأت تتفرج و تختار ما تريد ...

    و على فكرة ، علمت أنها رسامة ماهرة ...
    لكم كانت تعشق التلوين منذ الصغر !

    أخذت أتفرج معها على حاجيات الرسم و التلوين ... ثم انعطفت في طريقي ، مواصلا التفرج ... و لم يعد باستطاعتي رؤية رغد أو باستطاعتها رؤيتي

    شغلت بمشاهدة بعض الرسوم المعلقة أعلى الحائط و ما هي إلا ثوان حتى رأيت رغد تقف بجواري !

    قلت :

    " رسوم جميلة ! "

    " نعم . سأشتري الألوان من هناك "

    و أشارت إلى الناحية الأخرى التي قدمنا منها ... فعدت معها ...
    انهمكت هي باختيار الألوان و غيرها ، فسرت أتجول و أتفرج على ما حولي حتى بلغت زاوية أخرى فانعطفت ...

    مضت ثوان معدودة ، و إذا بي أسمع صوت رغد يناديني مجددا ...
    استدرت للخلف فرأيتها تقف قربي !
    و بيني و بينها مسافة بضع خطوات
    تخيلت أنها تريد قول شيء ، فسألتها :

    " هل انتهيت ؟؟ "

    قالت :

    " لا "

    تعجبت !

    قلت :

    " إذن ؟؟ "

    قالت :

    " لا تبتعد عني "

    يا لهذه الفتاة !

    قلت :

    " حسنا ! "

    و مضيت ُ معها إلى حيث كانت أغراضها موضوعة على أحد الأرفف
    رأيتها تأخذ أغراضا أخرى كثيرة ، فتلفت من حولي بحثا عن سلة تسوق ، و لم أجد . ذهبت لأبحث عن سلة فإذا بي أسمعها تناديني :

    " وليد "

    قلت :

    " سأحضر سلة لحمل الأغراض "

    فإذا بها تترك ما بيدها و تأتي معي !

    عدنا مجددا للأغراض ، و تابعت هي اختيار ما تشاء، و تجولت أنا حتى بلغت ناحية الكتب ...
    الكثير من الكتب أمام عيني !
    يا له من بحر كبير ! كم أنا مشتاق للغطس في أعماقه !
    لم أكن قد قرأت ُ كتابا منذ مدة طويلة ... أخذت أتفرج عليها و أتصفح بعضها ... و انتقل من رف إلى آخر ، و من مجموعة إلى أخرى ... حتى غرقت في البحر حقا !

    كانت أرفف الكتب مصفوفة على شكل عدة حواجز تقسم المنطقة ...
    و الكثير من الناس ينتشرون في المكان و يتفرجون هنا أو هناك ...

    دقائق ، و إذا بي أسمع صوت رغد من مكان ما !
    كان صوتها يبدو مرتبكا أو قلقا ... لم أكن في موقع يسمح لي برؤيتها ... فسرت بين الحواجز بحثا عنها و أنا أقول :

    " أنا هنا "

    و لم أسمع لها صوتا !
    أخذت ُ ألقي نظرة بين الحواجز بحثا عنها
    ثم وجدتها بين حاجزين ...

    " أنا هنا ! "

    حينما رأتني رغد أقبلت نحوي مسرعة تاركة السلة التي كانت تحملها تقع على الأرض و حين صارت أمامي مباشرة فوجئت بها تمسك بذراعي و ترتجف !

    كانت فزعة !!

    وقفت أمامي ترتعش كعصفور مذعور !

    نظرت إليها بذهول ... قلت :

    " ما بك ؟؟ "

    قالت و هي بالكاد تلتقط بعض أنفاسها :

    " أين ذهبت ؟ "

    أجبت :

    " أنا هنا أتفرج على الكتب ! ... ما بك ؟؟ "

    رغد ضغطت على ذراعي بقوة ... و قالت بفزع :

    " لا تتركني وحدي "

    نظرت ُ إليها بشيء من الخوف ، و القلق ... و الحيرة ...

    فقالت :

    " لا تدعني وحدي ... أنا أخاف "

    لكم أن تتصوروا الذهول الذي علاني لدى سماعي لها تقول ذلك ... و رؤيتها ترتجف أمام عيني بذعر ...

    لقد ذكرني هذا الموقف ، باليوم المشؤوم ...

    قلت :
    " أ أنت ِ ... بخير ؟؟ "

    فعادت تقول :
    " لا تتركني وحدي ... أرجوك ... "

    لم يبدُ لي هذا تصرفا طبيعيا ... توترتُ خوفا و قلقا ... و تأملتها بحيرة ...

    سرنا باتجاه السلة ، فأردت سحب ذراعي من بين يديها لحمل السلة و إعادة المحتويات إلى داخلها ... لكنها لم تطلقها بسهولة ...
    و عوضا عن ذلك تشبثت بي أكثر ثم بدأت بالبكاء ...

    لم يكن موقفا عاديا ، لذا فإن أول شيء سألت أمي عنه بعد عودتنا للبيت :

    " ما الذي جعل رغد تفزع عندما تركتها في المكتبة و ابتعدت قليلا ؟؟ "

    أمي نظرت إلي باهتمام ... ثم قالت :

    " ماذا حدث ؟؟ "

    " لا شيء ... ذهبت ألقي نظرة على الكتب و بعد دقائق وجدتها ترتجف ذعرا ! "

    عبس وجه والدتي ، و قالت :

    " و لماذا تتركها يا وليد ؟ قلت لك ... انتبه لها "

    أثار كلام أمي جنوني ، فقلت :

    " أمي ... ماذا هناك ؟؟ ما الأمر ؟؟ "

    قالت أمي بمرارة :

    " لديها رهبة مرضية من الغرباء ... تموت ذعرا إذا لم تجد أحدنا إلى جانبها ... إنها مريضة بذلك منذ سنين ... منذ رحيلك يا وليد ! "

    لقد صدمت بالنبأ صدمة هزت كياني و وجداني ...

    أخبرتني أمي بتفاصيل حدثت للصغيرة بعد غيابي ... و الحالة المرضية التي لازمتها فترة طويلة و الذعر الذي ينتابها كلما وجدت نفسها بين غرباء ...
    لم يكن صعبا علي أن أربط بين الحادث المشؤوم و حالتها هذه
    و كم تمنيت ...
    كم تمنيت ...
    لو أن عمّار يعود للحياة ... فأقتله ... ثم أقتله و أقتله ألف مرة ...
    إنه يستحق أكثر من مجرد أن يقتل ....

    قالت أمي :

    " و عندما توالت الهجمات على المنطقة ، اشتد عليها الذعر و المرض ... و وجدنا أنفسنا مضطرين للرحيل مع من رحل عن المدينة ... لم يكن الرحيل سهلا ، لكن العودة كانت أصعب ... قضيت معها فترات متفرقة في المستشفى ... لم تكن تفارقني لحظة واحدة ! بمشقة قصوى ذهب والدك و شقيقك لزيارتك في العاصمة ، تاركين الطفلة المريضة و أختها في رعايتي في المستشفى ، إلا أنهما منعا من الزيارة و أبلغا أن الزيارة محظورة تماما على جميع المساجين ! "

    أمي تتحدث و أنا رأسي يدور ... و يدور و يدور ... حتى لف المجرة بأكملها
    تساؤلات كان تملأ رأسي منذ سنين ، و جدت إجابة صاعقة عليها دفعة واحدة ...
    أسندت رأسي إلى يدي ...

    رأتني أمي أفعل ذلك فقالت :
    " بني ... أأنت بخير ؟؟ "

    رفعت يدي عن رأسي و قلت :
    " و لماذا ... لماذا زوجتموها لسامر و هي بذلك السن المبكر جدا ؟؟ "

    قالت :
    " لمن كنت تظننا سنسلم ابنتنا ؟؟ إنها تموت ذعرا لو ابتعدت عنا ... هل تتصور أنها تستطيع الخروج من هذا المنزل ؟؟ لا تخرج في مكان عام إلا بوجود أبيك أو سامر ... كانت ستتزوجه إن عاجلا أم آجلا ... فرفعنا الحرج عنهما لبقائهما في بيت واحد "

    قلت :
    " لكن يا أمي ... إنها ... إنها .... "

    و لم تخرج الكلمة المعنية ...
    أتممت :
    " إنها صغيرة جدا ... ما كان يجب أن تقرروا شيئا كهذا ... "

    و تابعت :
    " كان يجب ... كان يجب ... إن ... "
    و لم أتم ...
    ماذا عساي أن أقول ... ؟؟ لقد فات الأوان و انتهى كل شيء ...
    لكن الأمور بدت أكثر وضوحا أمامي ...
    هممت بالذهاب إلى غرفة سامر التي أستغلها ، من أجل تنفس الصعداء وحيدا ...

    توقفت قبل مغادرتي لغرفة المعيشة حيث كنا أنا و أمي ...
    التفت إليها و قلت :

    " أ لهذا لم تخبروها بأنني دخلت السجن ؟؟؟ هل أخبرتموها أنني ... لن أعود ؟؟ "

    والدتي قالت :
    "أخبرناها بأنك قد تعود ... و لكن ... بعد عشرين عاما ... و قد لا تعود ... "

    كانت أمي تبكي ...
    بينما قلبي أنا ينزف ...

    قلت :
    " و لكنني عدت ... "

    والدتي مسحت دموعها وابتسمت ، ثم تلاشت الابتسامة عن وجهها ... و نظرت إلي باهتمام و قلق ...

    قلت :
    " و يجب أن أرحل "

    و تابعت طريقي إلى غرفة سامر ...

    فضول لم استطع مقاومته ، و قلق شديد بشأنها دفعني للاقتراب من غرفة رغد المغلقة ... و من ثم الطرق الخفيف ...

    " أنا وليد "

    بعد قليل ... فتح الباب ...
    كنت أقف عن بعد ... أطلت رغد من الداخل و نظرت إلي
    رأيت جفونها الأربعة متورمة و محمرة أثر الدموع

    قلت :
    " صغيرتي ... أنا آسف ... "

    ما إن قلت ذلك ... حتى رفعت رغد يديها و غطت وجهها و أجهشت بكاءا
    زلزلني هذا المشهد ... كنت أسمع صوت بكائها يذبذب خلايا قلبي قبل طبلتي أذني ّ

    قلت بعطف :
    " رغد ... "

    رغد استدارت للخلف و أسرعت نحو سريرها تبكي بألم ...
    بقيت واقفا عند الباب لا أقوى على شيء ... لا على التقدم خطوة ، و لا على الانسحاب ...

    " رغد يا صغيرتي ... "

    لم تتحرك رغد بل بقيت مخفية وجهها في وسادتها تبكي بمرارة ... و يبكي قلبي معها ...

    " رغد ... أرجوك كفى ... "

    ثم قلت :
    " توقفي أرجوك ... لا احتمل رؤية دموعك ! "

    و لم تتحرك رغد ...
    تقدمت خطوة واحدة مترددة نحو الداخل ... و نظرت إلى ما حولي بقلق و تردد ...

    المرآة كانت على يميني ، و حين تقدمت خطوة رأيت صورتي عليها ... و حين التفت يسارا ... رأيت صورتي أيضا !

    فوجئت و تعلقت عيناي عند تلك الصورة !
    لقد كانت رسمة لي أنا على لوحة ورقية ، لم تكتمل ألوانها بعد !

    نقلت بصري بين رغد الجالسة على السرير تغمر وجهها في الوسادة ، و صورتي على الورقة !
    كيف استطاعت رسمي بهذه الدقة !؟ و بمظهري الحالي ... فأنفي محفور كما هو الآن !
    كيف حصلت على صورة لي لترسمها ، أم أنها رسمتها من خلال المرات القليلة العابرة التي نظرت فيها إلي ... !؟

    " يشبهني كثيرا ! أنت بارعة ! "

    ما إن أنهيت جملتي حتى قفزت رغد بسرعة ، و عمدت إلى اللوحة فغطتها بورقة بيضاء بسرعة و ارتباك !

    ثم بعثرت أنظارها في أشياء كثيرة ... بعيدا عني ... و أخذت تفتح علب الألوان الجديدة التي اشترتها من المكتبة باضطراب ...

    رجعت للوراء ... لم أكن أملك فكرة لما علي فعله الآن ! ماذا علي أن أفعل ؟؟
    أظن ... أن علي الخروج حالا

    الجملة التي ولدت على لساني هذه اللحظة كانت :
    " أحب أن أتفرج على رسوماتك ! "

    و لكن أهذا وقته !
    رجعت خطوة أخرى للوراء و أضفت :

    " لاحقا طبعا ... إذا سمحت ِ "
    رغد توجهت نحو مكتبتها و أخرجت كراسة رسم كبيرة ، و أقبلت نحوي و مدتها إلي ...
    في هذه اللحظة التقت نظراتنا
    كان بريق الدموع لا يزال يتلألأ في عينيها الحمراوين ، ينذر بشلال جارف ...
    أخذت الكراسة ....
    و قلت و قلبي يتمزق :

    " لا تبكي أرجوك ... "

    لكن الدمعة فاضت ... و انسكبت ... و انجرفت ... تقود خلفها جيشا من الدموع المتمردة ...

    " رغد ... سألتك ِ بالله كفى ... أرجوك ... "

    " لا أستطيع أن أتغلب على ذلك ... كلهم مرعبون ... مخيفون ... أشرار ... يريدون اختطافي "

    و انفجرت رغد في بكاء مخيف ... هستيري ... قوي ... و ارتجفت أطرافي ذعرا و غضبا و قهرا كدت أصرخ بسببه صرخة تدوي السماء ...
    أراها أمامي كما رأيتها ذلك اليوم المشؤوم ... و أضغط على الكراسة في يدي و أكاد أمزقها ...
    تمنيت لو أستطيع تطويقها بين ذراعي بقوة ... كما فعلت يومها ... لكنني عجزت عن ذلك
    تمنيت لو ...
    لو أخرج جثة عمار من تحت سابع أرض ... و أقتله ، ثم أمزقه قطعة قطعة..
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty رد: رواية.. أنت لي

    مُساهمة  littledoctor الجمعة 8 يوليو 2011 - 11:32

    على فكرة انا مش هكمل الا لو حسيت ان في تفاعل علشان اعرف ان في حد متابع... مش كده يا جدعاااااااان

    Evil or Very Mad Sad Evil or Very Mad Sad Evil or Very Mad
    Tarek
    Tarek
    مؤسس المنتدى
    مؤسس المنتدى


    المساهمات : 458
    تاريخ التسجيل : 09/11/2009

    رواية.. أنت لي Empty رد: رواية.. أنت لي

    مُساهمة  Tarek السبت 9 يوليو 2011 - 7:42

    littledoctor كتب:على فكرة انا مش هكمل الا لو حسيت ان في تفاعل علشان اعرف ان في حد متابع... مش كده يا جدعاااااااان

    Evil or Very Mad Sad Evil or Very Mad Sad Evil or Very Mad

    يعنى بعد ماتشوقنا للروايه الجميله الرائعه دى
    تقول مش هاكمل
    هاخنقك

    يلا بقى كمل lol!
    avatar
    بكل احترام
    قائد نشيط
    قائد نشيط


    المساهمات : 70
    تاريخ التسجيل : 08/06/2011

    رواية.. أنت لي Empty البداية مشوقة جداواعتقد النهاية جميلا جدا

    مُساهمة  بكل احترام السبت 9 يوليو 2011 - 15:08

    هيا اكملى المشوار اكملى القصة
    لاتحرمينا من الادب العائلى
    لكل كل تقدير واحترام
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty الحلقة السابعة عشرة

    مُساهمة  littledoctor الثلاثاء 19 يوليو 2011 - 0:10


    الحلقةالسابعةعشر
    ----------------

    بين يوم و آخر ، يحضر نوار لزيارة دانة أو الخروج معها للعشاء في أحد المطاعم أو للتنزه ... أو شراء مستلزمات الزفاف و عش المستقبل !

    " إلى أين ستذهبان اليوم ؟؟ "

    سألتها ، و هي ترتدي عباءتها استعدادا للخروج ، قالت :

    " إلى محلات التحف أولا ، ثم إلى الشاطئ ! سأعود ليلا ! "

    قلت :

    " الشاطئ ؟ رائع ! كم أشتاق الذهاب إليه ! "

    قالت بمكر :

    " تعالي معنا ! "

    نظرت إليها باستهتار ثم أشحت بوجهي عنها ... قلت :

    " كنت سأفعل لو أن خطيبك لم يكن ليرافقنا !"

    قالت بخبث :

    " نذهب وحدنا ؟ أنا و أنت ؟؟ "

    " نأخذ أبي و أمي ! ما رأيك دانة ؟؟ اصرفيه و دعينا نذهب نحن الأربعة ! "

    " لا تكوني سخيفة ! "

    و انصرفت عني ترتب عباءتها أمام المرآة ...

    قلت :

    " في كل يوم تخرجين معه ! لم لا تتنازلين عن هذا اليوم لنخرج معا ؟؟ إنني أشعر بالملل "

    قالت :

    " غدا يعود سامر و اذهبي معه حيث تريدين ! "

    و غدا هو موعد زيارة سامر ، الذي يأتي مرة أو مرتين من كل شهر ... ليقضي عطلة نهاية الأسبوع معنا ...
    لكن ...

    لكنني لا أشعر بالحماس للذهاب معه ...

    حين أقارن بين وضعي و وضع دانة أشعر بفارق كبير ... إنها منذ لحظة ارتباطها تعيش سعادة و بهجة متواصلة ... و تستمتع بحياتها كل يوم

    خطيبها رجل ثري و يغدق عليها الهدايا و الهبات !

    كل يوم أذهب أنا للكلية ثم أعود و أقضي وقتا لا بأس به في الواجبات و في الرسم ، بينما تستمتع دانه بالنزهات و الرحلات مع خطيبها المغرور ...
    و في أحيان أخرى تقضي ساعات طويلة في التحدث معه عبر الهاتف !
    حين يتصل سامر فإن حديثنا لا يستغرق غير دقائق ...
    فهل كل المخطوبين مثل دانه سواي أنا ؟؟

    قلت أستفزها :

    " و على كل ... فخطيبك شخص مغرور و بغيض ! لا أعرف كيف تحتملين البقاء معه كل هذه الساعات ! "

    التفتت دانه نحوي و نظرت إلي بخيلاء و قالت :

    " مغرور ؟ و حتى لو كان كذلك ! يحق له ... فهو أشهر و أغنى لاعب في المنطقة ! أما بغيض ... فلا تعني شيئا ! فهو رأيك في جميع الرجال ! "

    و صمتت لحظة ثم قالت :

    " و ربما حتى سامر ! أنت خالية من الرومانسية يا رغد ! و لا تعرفين كيف تحبين أو تدللين خطيبك ! "

    و هنا سمعنا صوت جرس الباب ، فانطلقت دانه مسرعة تحثني على الخروج من غرفتها ، ثم تقلق الباب ... و تغادر ...

    ربما نسيت دانه ما قالت حتى قبل أن تغادر ، لكن كلماتها ظلت تدق مسمارا مؤلما في قلبي لوقت طويل ...

    أنا فعلا لا أشعر باللهفة للقاء سامر ! لكنه دائما يشتاق إلي ... و في الآونة الأخيرة ، بعد أن انتقل إلى مدينة أخرى ، صار يعاملني بطريقة أشد لطفا و حرارة كلما عاد

    ذهبت إلى غرفتي و أنا متأثرة من جملة دانه الأخيرة هذه ... فهل أنا فعلا خالية من الرومانسية ؟؟
    و هل بقية الفتيات يتصرفن مثل دانه ؟؟
    أنا لم أحتك مباشرة بصديقة مخطوبة فأنا أول من خطبت من بين صديقاتي رغم أنني أصغرهن سنا !

    أردت طرد هذه الأفكار عن رأسي ، فعمدت إلى كراساتي ... و أقبلت على الرسم ...

    شيء ما دعاني لأن أفتش بين لوحاتي المتراكمة فوق بعضها البعض عن صورة وليد !

    لا تزال الصورة كما هي ... منذ رحل ... لم أملك أي رغبة في إتمام تلوينها ...
    لست من النوع المتباهي بنفسه ، لكن هذه اللوحة بالذات ... رائعة جدا !

    وليد ... له وجه عريض ... و جبين واسع ... و شعر كثيف ... و عينان عميقتا النظرات ... و فك عريض منتفخ العضلات ... و أنف معقوف حاد !

    إنه أكثر وسامة من نوّار الذي تتباهى دانه به !

    و من سامر المشوه طبعا ...

    لم أكن لأرسم شيئا مشوها كوجه سامر ... إنه لا يصلح عملا فنيا ...

    في لقائي الأخير بوليد ..عند رحيله ليلا ... بكيت كثيرا جدا ... ربما أكثر مما بكيت يوم علمت أنه سافر للدراسة دون وداعي قبل سنوات ...

    أوصدت الباب و دخلت ، و العبرات منزلقة بانطلاق على خدي الحزين

    فوجئت برؤية والدتي تقف عند النافذة المشرفة على الفناء ، و التي تسمح للناظر من خلالها أن يرى البوابة ، و من يقف عند البوابة ، و ما يحدث قرب البوابة !

    لم أعرف لحظتها ما أفعل و ما أقول ... أصابني الهلع و الخرس ... أمي اكتفت برشقي بنظرات مخيفة و حزينة في آن واحد ، ثم انصرفت ...

    منذ ذلك الحين و هناك شيء ما يقف بيني وبينها ... لا أعرف ما كينونته و لا أجله

    في المساء ، زارتني ابنة خالتي نهلة ، و طبعا سارة معها فهي تلازمها كالذيل ليلا و نهارا !

    كنت أرغب في التحدث مع نهلة عن أمور تشغل تفكيري و تحيرني ... و أشياء لا أستطيع التحدث عنها لشخص آخر ... و لكن كيف لي أن أصرف هذه الصغيرة المتطفلة ؟؟

    " ساره ... هل تحبين الذهاب إلى غرفتي و التفرج على رسوماتي ؟؟ يمكنك أيضا رسم ما تشائين ! "

    " سأذهب حين تذهب أختي "

    أوه ... كيف لي أن أصرفها ...؟؟

    " إذن ... ما رأيك بمشاهدة فيلم هزلي جديد مدهش ... أحضره أبي يوم أمس ؟ اذهبي لغرفة المعيشة و تفرجي مع أمي ! "

    "سأبقى معكما "

    نهلة نظرت إلي نظرة استنتاج ، ثم قالت لشقيقتها :

    " عزيزتي ساره ... شاهدي الفيلم و نحن سنأتي بعد قليل ! "

    " سأذهب حين تذهبان "

    يا لها من فتاة مزعجة ! ألا أستطيع أن أنفرد بصديقتي لبعض الوقت ؟؟

    قالت نهلة :

    " لا بأس رغد ! فهي لا تكترث لما نقول ! ... أهناك شيء ؟؟ "

    ترددت ، و لكنني بعد ذلك أطلقت لساني لقول أمور لم أظن أن سارة ستفهمها ... فهي إلى كونها لا تزال صغيرة ، و غبية لحد ما !

    قلت :

    " سامر سيأتي غدا ! "

    قالت :

    " و ...؟؟ "

    قلت :

    " سيفتح موضوع زواجنا من جديد ، كما في كل مرة ! إنه يريد أن نتزوج مع دانه ... و يبدو أن والدتي اقتنعت بالفكرة و صارت تشجعني عليها ... "

    قالت :

    " و أنت ؟؟ "

    تنهدت ثم قلت :

    " تعرفين ... إنني أريد أن أنهي دراستي أولا ... و ... و ... أعرف رأي وليد "

    نهلة ترفع حاجبا ، و تخفض آخر ... و تميل إحدى زاويتي فمها بمكر !

    " و أعرف رأي وليد ! و إذا قال وليد : الزواج ممنوع !؟ "

    قلت بسرعة :

    " لن أتزوج ! "

    قالت :

    " و إن قال : الزواج واجب !؟ "

    لم أرد ... نهلة تأملتني برهة ، ثم قالت :

    " رغد ! و لماذا تنتظرين رأي وليد ؟؟ إنه ليس ولي أمرك أو المسؤول عنك ! "

    استأت من هذه الحقيقة الموجعة ...
    فلطالما كان وليد مسؤولا عني منذ الصغر ... و لطالما قال أنه لن يتخلى عني ... و لطالما اعتبرته أهم شخص في حياتي ... إلى أن غاب ...

    قلت :

    " لكنه ... لكنه ... أكبرنا ... و أنا أحترم رأيه كثيرا ... و ... سأعمل بما يقول "

    نهلة قالت :

    " ألا يزال كما كان في الماضي ؟ أذكر أنه كان طويلا و قويا ! كان يلعب معك كثيرا سابقا ! "

    ابتسمت ، و توسعت الشعيرات الدموية في وجهي ! و قلت بخجل :

    " إنه كذلك ! لكن ... لا مزيد من اللعب فقد أصبح رجلا كبيرا ! "

    قالت :

    " صحيح ! على فكرة هل تزوج ؟؟ "

    الشعيرات التي كانت متفتحة قبل ثوان انقبضت و خنقت الدماء في داخلها ...

    أيقظت جملة سارة في نفسي شيئا كان نائما بسلام ... قلت بارتباك أمحو السؤال و أطرده من الوجود :

    " لا ... لا "

    قالت نهلة :

    " إذن لابد أنه يفكر في الزواج الآن ! بعدما عاد للوطن و استقر في العمل ! "

    ثم أضافت مداعبة :

    " هل تريدين عروسا له ؟؟ جميلة و جذابة و رائعة مثلي !؟ "

    قلت بحنق بدا معه جليا استيائي من الفكرة :

    " لا تكوني سخيفة يا نهلة ! "

    استغربت نهلة استيائي هذا ، ثم قالت :

    " إنه كبير على أية حال ! و لا يناسب فتاة تصغره بتسع سنين ! "

    فكرة أخرى ـ أن يتزوج وليد ـ رافقت الفكرة الأولى ـ خالية من الرومانسية ـ في اللعب بالمضرب و الكرة في رأسي طوال الساعات التالية !

    قلت :

    " إنه ... لا يفكر في الإقامة هنا ... أتمنى لو نعود إلى بيتنا السابق ... معه "

    قالت :

    " ماذا عن خطيبك ؟؟ هل سيستقر هو الآخر في المدينة الأخرى ؟؟ "

    قلت :

    " لا أعرف ... ! عمله هناك ... و لابد له من البقاء هناك "

    " و إن تزوجتما ؟؟؟ ستنتقلين للعيش معه حتما ! "

    لم تعجبني الفكرة !
    لا أريد أن أبتعد عن أهلي ... إنني لا أستغني عنهم ... أريد البقاء في بيتهم ...

    " سأنتظر رأي وليد "

    تقوس حاجبا نهلة دهشة و قالت ببلاهة :

    " رأي وليد ؟؟ في أن تقيمي مع زوجك أو مع والديك ؟؟ "

    قلت بغضب :

    " حمقاء ! أعني في أن نؤجل موضوع الزواج لوقت لاحق ... فربما تتغير الأوضاع ... "

    " عليكم أن تقرروا بسرعة ! فموعد زواج دانه يقترب ! أين هي على فكرة ؟؟ "

    " دانه ؟ خرجت كالعادة تتنزه مع خطيبها ! "

    ابتسمت نهلة ... لكنني أزحت ابتسامتها جانبا بسؤالي :

    " نهلة ...هل يشعر جميع المرتبطين بسعادة مميزة عندما يتنزهون مع بعضهم البعض ... أو يتبادلون الهدايا ... أو المكالمات الهاتفية ؟؟ "

    طبعا نهلة اندهشت ، و قالت :

    " أكيد ! طبعا ! "

    صمت لثوان ، ثم قلت :

    " لكنني لا أشعر بشيء كهذا ! إنني أتحدث معه كما أتحدث معك ! لا شيء مميز ... ليس كما تكون دانه حين تتحدث مع خطيبها أو تخرج معه ! غاية في السرور ! "

    فوجئت نهلة بكلماتي هذه ... ة قالت :

    " أنت ِ ... لا تحبينه ؟؟ "

    قلت بسرعة :

    " بالطبع ... أحبه ! "

    نظرت نهله نحو سارة البليدة ... ثم قالت :

    " كما تحب دانه خطيبها ؟؟ "

    " لا ! كما تحبين أنت ِ حسام ! "

    دانة عادت تسأل :

    " ليس كما تحب امرأة ٌ رجلا ؟؟ "

    توترت من سؤالها ... و بعثرت نظراتي فيما حولي ... و وقع سهم منها على سارة ، و التي كانت تنظر إلينا ببلادة و غباء مزعجين !

    قلت بعصبية :

    " و كيف يجب أن تحب امرأة رجلا ؟؟ "

    قالت نهلة بأسى :

    " أوه يا عزيزتي ! رغد ! إنك لا تزالين طفلة ! "



    عادت دانه من سهرتها الخارجية عند العاشرة و النصف ...

    كنت أشاهد الفيلم الذي أحضره والدي مؤخرا ، و حين دخلت غرفة المعيشة رمت بحقيبة يدها على المقعد و تهالكت عليه بتنهد ...

    " لم لم تنامي بعد رغد ! عادة ما تنامين باكرا جدا ! "

    لم ألتفت إليها ، و أجبت :

    " سأتابع الفيلم حتى النهاية "

    صمتت لحظة ، ثم قالت :

    " سأريك شيئا "

    و سحبت حقيبتها ، و منها أخرجت علبة مجوهرات صغيرة ، و فتحتها لتريني الخاتم الذهبي الرائع الذي بداخلها ...

    " رائع ! كم ثمنه ؟؟ "

    رفعت رأسها و نظرت إلي من طرف عينيها و قالت :

    " كم ثمنه ؟؟ لا أعرف طبعا ، و لكن بالتأكيد باهظ ... أهداني إياه خطيبي الليلة ! كم هو رائع ! "

    قلت و أنا أتأمل هذه التحفة المبهرة :

    " نعم ! رائع هنيئا لك ! "

    قالت دانة :

    " حقا ! هل غيرت رأيك فيه أخيرا ! "

    قلت :

    " الخاتم ؟؟ "

    " بل خطيبي يا نبيهة ! "

    حدقت بها قليلا ثم قلت :

    " بغيض و مغرور ... "

    ثم أشحت برأسي عنها ...

    و إن كان بغيضا في عيني ، فهو في عينيها شيء رائع ... و مميز !

    لم تكترث دانة لقولي ، و أخذت تنقل الخاتم من إصبع لإصبع بسرور و دلال !

    " دانه ... "

    " نعم ؟ "

    كنت أريد أن أسألها ... و شعرت بالخجل ... و لزمت الصمت !

    دانة نظرت إلي باستغراب :

    " نعم رغد ؟؟ ماذا أردت القول ؟؟ "

    ترددت قليلا ثم قلت بحياء و بصوت منخفض و نبرة متوترة :

    " هل ... تحبين نوّار ؟ "

    دهشت دانة من سؤالي ، لذا حملقت بي وهلة ، ثم قالت :

    " ما هذا السؤال !؟ "

    ندمت لأنني طرحته ! إنه موضوع حساس لم أجرؤ من قبل على التحدث فيه مع أي كان ...
    و لما لحظت دانة تراجعي الخجل ، قالت :

    " نعم أحبه ! إنه شريك حياتي ... ! نصفي الآخر ! "

    صمت قليلا ثم سألت :

    " إذن ... كيف تشعرين حين يكون معك ؟؟ "

    أنا بنفسي لاحظت ذلك ... رغم المساحيق التي تغطي وجهها إلا أن اللون الأحمر المتوهج طلى وجهها و هي تجيب على سؤالي :

    " أشعر ... ؟؟ ... بالحرارة ! "

    و أشارت إلى قلبها بيديها كلتيهما ...

    الحرارة ... في صدري و جسمي كله ، هي شعور لم أحس به في حياتي ... إلا عندما اقتربت من شخص واحد فقط ...
    هو وليد ... !

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    " وليد ! هل فقدت صوابك !!؟؟

    قال سيف و هو فاغر فاه لأقصى حد من هول المفاجأة ...
    لقد أخبرته بخبر فعلتي الجنونية الأخيرة ...

    " نعم يا سيف ! استقلت و انتهى الأمر "

    أخذ يهز رأسه و يضرب يدا بالأخرى من الغيظ و الأسف ...

    " أرجوك يا سيف ... قضي الأمر ... لم أكن لأستطيع الاستمرار و الجميع ينظر إلي و يعاملني بهذا الشكل ... يحتقرونني و يتحاشون الاقتراب مني و كأنني وباء خطير "

    " و ما لك و لهم ؟ وليد ! لم يكن الحصول على هذه الوظيفة بالأمر السهل ... لقد تسرعت "

    استدرت بغضب ، و قلا بانفعال :

    " فليذهبوا بوظيفتهم للجحيم "

    أعرف أن العثور على عمل هو من أكثر الأمور صعوبة في الوقت الحالي ، لكنني ضقت ذرعا بالهمزات و اللمزات التي يرمي بها الآخرون علي بقسوة ، لكوني قاتل و خريج سجون ...

    كما و أنني سمعت بعضهم يذكر صديقي سيف بالسوء بسبب علاقته الوطيدة معي ...
    بقائي في العمل بشركته صار يهدد سمعته هو ... و أنا لم أكن لأرضى عليه بأي أذية ...
    أليس هو الباقي لي من الدنيا ؟؟

    تلا هذا صمت مغدق ...
    سيف استاء كثيرا جدا من إقدامي على هذه الخطوة التي وصفها بالتهور ... ألا أنني كنت أراها حلا لابد منه

    قال :

    " ما أنت فاعل الآن ؟؟ "

    ابتسمت ابتسامة سخرية ...

    " أفتش من جديد "

    نعم ... عدنا للصفر !

    لو أنني أتممت دراستي ، مثلك يا سيف ، لكنت الآن ... رجلا محترما مهابا ... أتولى إدارة إحدى الشركات كما كنت أحلم منذ الصغر ...

    و فشلي في تحقيق أي من أحلامي ، هو أمر لا يجب أن تتحمل أنت مسؤولياته ، أو ينالك سوء بسبب علاقتك بي

    سيف كان قلق ... أردت أن أغير الموضوع ، فقلت :

    " اخبرني ... ما النبأ الجميل الذي تحمله ؟؟ "

    و كان سيف قد أبلغني بأن لديه خبر جميل ، عندما وصل إلى بيتي قبل دقائق !

    سيف قال :

    " لقد ... عزمت على إتمام نصف الدين ! "

    فاجأني الخبر ، و أسرني كثيرا ، فأمطرت صديقي بالتهاني القلبية ! إنه أول خبر سعيد أسمعه منذ شهور ...

    " أخيرا يا رجل ! فليبارك الله لك ! "

    " شكرا أيها العزيز ... العقبة لك ! متى يحين دورك ؟؟ "

    دوري أنا !
    إن مثل هذا الموضوع لم يكن ليخطر على بالي !
    و هل يفكر في الزواج رجل خرج من السجن قبل شهور ، و بالكاد بدأ يتنفس الهواء ... و كان و عاد عاطلا عن العمل ! ...
    و فوق كل هذا ... ذو جرح لم يبرأ بعد ...

    قلت :

    " قد تمضي سنوات و سنوات قبل أن تعبر الفكرة على رأسي مجرد العبور ! "

    " لم يا رجل !؟ إننا في السابعة و العشرين ! وقت مناسب جدا ! "

    قلت :

    " لأجد ما يعيلني أولا ! كيف لي أن أتحمل مسؤولية زوجة و أطفال ! "

    قال سيف :

    " إنك تحب الأطفال يا وليد ! ألست كذلك ؟ "

    " بلى ! ... "

    " ستكون أبا عطوفا جدا ! "

    و ضحكنا !

    يمكنني أن أضحك بين حلقات سلسة همومي التي مذ بدأت لم تنته ...


    قضيت أسابيع أفتش عن عمل ... و فشلت
    حتى أقاربي الذين لجأت إليهم طالبا الدعم ، خذلوني
    لو كان سبب دخولي السجن شيء آخر ، لربما عاملني الناس بطريقة أفضل ...
    كرهت الدنيا و كرهت نفسي و كرهت كل شيء من حولي ...
    و بدأت نقودي التي جمعتها خلال الأشهر الماضية تنفذ ... و أعود للفقر من جديد ...
    كنت جالسا في حديقة المنزل الميتة ... أدخن السيجارة تلو الأخرى ... غارقا في التفكير و الهموم ...

    كانت الأرض أمامي قاحلة ... لا زرع فيها و لا حياة ...
    تماما مثل حياتي ...

    تزوج صديقي سيف بعد بضعة أشهر خطوبة ... و ينعم الآن بحياة جديدة ، و يتولى مسؤوليات أكبر ... و لم يعد متفرغا لي ...

    حصلت على عمل بسيط جدا في أحد المحلات التجارية ... إلا أنني لم استمر فيه بسبب المشاكل التي واجهتني ، لكوني موصوم بالإجرام و القتل ...

    أصبت بإحباط شديد ... و أنا افقد القليل الذي كنت قد حصلت عليه ... و ضاقت بي الدنيا ... كما و داهمني الإعياء و المرض ... فقررت الهروب من مدينتي إلى مكان ألقى فيه شيء من الاحترام و المودة
    بعيدا عن السمعة المجروحة ... إلى حيث يوجد من يحبني و يرغب بوجودي و يتقبلني على ما أنا عليه من عيوب و وصم عار ...
    إلى أهلي ....


    كانت شهور عشرة قد انقضت منذ رحلت عنهم ...
    كلما اتصلوا بي أو اتصلت بهم ، أخبرتهم بأنني في أحسن حال ، بينما أنا في أسوئه

    انفث الدخان السام من صدري ... و أفكر ... أأعود إليهم ؟؟ أم لمن ألجأ ؟؟
    أتخيل نفسي بينهم من جديد ... فتظهر صورة رغد لتحتل منطقة الخيال من رأسي ... فأبعدها و أبعد الفكرة ...

    " لا ... لن أعود "

    و أرمي بالسيجارة على الأرض ، و أدوسها بحذائي فتندفن تحت الرمال ... إلى جانب شقيقاتها ... في قبور متجاورة و مزدحمة ...

    لماذا لا أموت أنا مثلها ؟؟

    إلى متى أستمر في تدخين هذه الأشياء القذرة ؟؟

    ألا يكفي السجن أن لوث سمعتي و ضيع مستقبلي ؟

    أأترك دروسه و مخلفاته تلوث صدري و تفسد صحتي ؟؟

    أتذكر قول نديم لي ... لا تدع السجن يفسدك يا وليد ...

    هل أنا شخص فاسد الآن ؟؟

    نديم ...

    ليتك معي الآن ... ...

    فجأة ... تذكرت شيئا غاب عن مذكرتي تماما !

    يوم وفاته ، نديم أوصاني بشيء ...

    طلب مني أن أزور عائلته و أطمئن عليهم !

    وقفت منفعلا ... يا للأيام ! لم يخطر هذا الأمر ببالي من ذي قبل ...

    و كيف له أن يجد فرصة للظهور فيما يحتل تفكيري أمور أخرى ...

    ربما وفاء ً لذكرى صديق عزيز لطالما كان يدعمني في أسوأ أيام حياتي ...

    أو ربما كان فراغا طويلا لم أجد معه ما أفعله

    أو حتى هروبا من هذه المدينة و سمعتي المنحطة فيها

    أيا كان الدافع ، فقد قررت يومها زيارة عائلة نديم !

    نديم أخبرني بأنه يملك مزرعة في المدينة الشمالية ، و هذه المدينة بعيدة عن مدينتي و هي أقرب إلى المدينة الصناعية حيث يعيش أهلي ...

    جمعت كل ما أحتاجه و ما قد أحتاجه ، و عزمت الرحيل ...

    الهدف لم يكن زيارة عائلة نديم تنفيذا لوصيته التي ماتت يوم وفاته ، بقدر ما كان الفرار من الفشل الذريع الذي أعيشه في هذه المدينة

    الآن أدرك لم قرر والدي الرحيل ، و لم لا يفكر في العودة

    لا بد أنه تعرض لمثل ما تعرضت له ... بسبب جريمتي النكراء ...

    ذهبت لزيارة سيف في مسكنه الجديد ، و أبلغته أنني راحل ...

    كان وداعنا مؤلما إلا أنه قال :

    " في أي وقت ... و كل وقت ... تشعر بأي حاجة لأي شيء ، تذكر أنني موجود "

    و دفع إلي مبلغا من المال قبلته على شرط أن أرده له في أقرب فرصة ... و لا أعلم كم تبلغ المسافة بيني و بين هذه الفرصة !

    أقفلت أبواب المنزل الكئيب ... و تركت الذكريات القديمة سجينة ... تغط في سبات أبدي ...
    بما فيها صندوق الأماني المخنوق ، و الملقى بلا اهتمام عند إحدى زوايا الغرفة
    إن كتب لي أن أعود يوما ... فسأفكر في فتحه !

    انطلقت مستعينا بالله و متوكلا عليه ... متجها إلى المدينة الشمالية ... لم أكن قد زرتها في حياتي من قبل ، إلا أنني أعرف أن الطريق إلى المدينة الصناعية يؤدي إليها ، و أنها لا تبعد عن الأخيرة إلا قليلا

    وصلت إلى المدينة الصناعية ... و شوقي سحبني نحو بيت عائلتي سحبا ...
    كيف لي أن أعبر من هنا ... ثم لا أمر لألقي و لو نظرة عابرة على أهلي ..؟؟

    كان الوقت عصرا ... أوقفت سيارتي إلى جانب سيارة أبي ، و السيارة الأخرى التي تبدو جديدة و آخر طراز !
    ---------------------------------------------
    مؤخرا صار سامر يأتي إلينا مرة واحدة في الشهر ... أصبح يعمل عملا مضاعفا و قلت حتى اتصالاته !

    و حين جاء البارحة ، طلبت منه أن يصطحبني إلى الشاطئ هذا اليوم !

    طبعا سامر فرح كثيرا بهذا الطلب ... و أنا كنت أريد أن أرفه عن نفسي و أقلد دانة !
    إنها دائما تشعرني بأنني لا أصلح امرأة !
    الجميع من حولي يعاملونني على أنني لا أزال طفلة !
    إنني الآن في الثامنة عشر من العمر ... و أحس بأنني خلال الأشهر الماضية كبرت كثيرا !

    لقد بدأت استخدم المساحيق بكثرة مثلها ، و أشتري الكثير من الحلي و الملابس... بالرغم من أنني لا أجهز للزفاف مثلها !

    فكرة الزواج الآن لم أقتنع بها ... و لسوف أنتظر حتى أنهي دراستي و أكتسب صفات المرأة التي تعرف كيف تحب و تدلل شريك حياتها !

    أليس هذا هو المطلوب ؟؟

    " هيا رغد ! الوقت يمضي ! "

    سامر يناديني ، و هو يقف خلف الباب ، ينتظر خروجي ...
    أجبت و أنا ارتدي شرابي ثم حذائي الجديد ذا الكعب العالي ، على عجل :

    " قادمة ... لحظة "

    و في ثوان كنت أفتح الباب ...
    حين صرت أمامه راح يحدق بي باستغراب ، ثم قاد بصره إلى حذائي !

    " رغد ! لقد طلت بسرعة ! لم تكوني هكذا البارحة ! "

    ابتسمت و قلت و أنا أظهر حذائي الطويل من خلف عباءتي :

    " إنها الموضة ! "

    سامر ضحك و قال :

    " و لكن يا عزيزتي هل ستسيرين بحذاء هكذا على الشاطئ ؟؟ "

    " لا يهم ! أنا أريد أن أظهر أطول قليلا حتى لا يظنني الناس طفلة ! "

    " كما تشائين ! هيا بنا "

    و خرجنا ، و مررنا بالمطبخ حيث وضعت سلة صغيرة تحتوي بعض الحاجيات فحملها سامر و هممنا بالانصراف ....

    و إذا بدانة تقول :

    " هل آتي معكما ؟؟ "

    أنا و سامر تبادلنا النظرات ...

    طماعة ! ألا يكفيها أنها تخرج مع خطيبها كل يوم فيما أنا جالسة وحيدة في المنزل ؟؟

    قلت :

    " لا ! إنها رحلة خاصة ! "

    سامر ابتسم بخجل ، و دانه نظرت إلي من طرف عينها مع ابتسامة خبيثة أعرفها جيدا ... و أعرف ما تعنيه منها !

    تجاهلتها و سرت مبتعدة ...

    " انتبهي لئلا تنزلقي زرافتي ! "

    و أخذت ْ تضحك !

    قلت بحنق :

    " ليس من شأنك "

    و خرجت مسرعة ....
    دانه تتعمد التعليق على أي شيء يخصني ... و دائما تعليقها عنه يوحي بعدم رضاها أو سخريتها منه !

    إلا أنها تشعر بالغيرة من طولي الذي يسمح لي بارتداء أحذية كهذه ، و هي محرومة منها !

    خرجنا على الفناء الخارجي و سامر يبتسم بسرور !

    حتى و إن كانت نظارته السوداء الكبيرة تخفي عينيه ... كنت أعرف أنه يحدق بي !

    اعتقد أنه سعيد جدا ... السعادة المميزة ... التي لم أذق لها أنا طعما حتى الآن ...

    فيما نحن نقترب من الباب ، قرع الجرس !

    تقدم سامر و فتحه ...

    و توقفت الكرة الأرضية عن الدوران !

    اعتقد أن شهابا قد ارتطم بها ... هنا خلف هذا الباب !

    شعور مفاجئ ... و اصطدام مجلجل ... و حرارة محرقة شاوية ... و حمم ... و ضباب ... و اختناق ... و ارتجاف ... و عرق ... و ذهول ... كلها مجتمعه انبثقت فجأة من عند الباب و اجتاحتني ...

    هل أصدق عيني ! ؟

    هل يقف أمامي المارد الناري الضخم المرعب ... متمثلا في صورة ... وليد ؟؟؟

    هتف سامر بذهول و بهجة عارمة :

    " أخي وليد !! "

    و تعانقا عناقا طويلا ...

    يا لها من مفاجأة مذهلة !

    اعتقد أنه كان علي الأخذ بنصيحة سامر و تغيير حذائي ... إنني أوشك على الانزلاق ! لماذا فقدت توازني بهذا الشكل ؟؟

    بعد لقائهما الحميم ... استدارا نحوي ...

    حينما وقت عيناه على عيني ، طردهما بسرعة و غض بصره ... و قال بهدوء لا يتناسب و الحمم و البركاين و الانفجار و النيران الذي تولدت لحظه ظهوره من فتحة الباب :

    " كيف حالك صغيرتي ؟ "

    لقد حاولت أن أحرك لساني لقول أي شيء ... لكن بعد احتراقها ، فإن كلماتي قد تبخرت و صعدت للسماء !

    طأطأت رأسي للأرض خجلا ... حين عبرت ذكرى لقائنا الأخير سريعة أمام عيني ! ...

    الرجلان يقتربان ...

    رفعت رأسي فإذا بعينيه تطيران من عيني إلى الشجرة المزروعة قرب الباب الداخلي ...

    سمعته يقول :

    " ألا يبدو أنها كبرت !؟ "

    التفت إلى الشجرة ... صحيح ... لقد كبرت خلال الشهور الطويلة التي غاب فيها وليد عنا !

    لكني سمعت سامر يضحك و يقول :

    " إنه الكعب ! "

    أدركت أنه كان يقصدني أنا ! كم أنا غبية !

    قال وليد :

    " أ كنتما ... خارجين ؟؟ "

    قال سامر :

    " أوه نعم ... لكن يمكننا تأجيل ذلك لما بعد ... تعال للداخل ستطير أمي فرحا ! "

    قال وليد :

    " أرجوكما امضيا إلى حيث كنتما ذاهبين ! إنني سأبقى في ضيافتكم فترة من الزمن ! "

    مدهش !

    عظيم !

    ممتاز !

    و أقبلا نحو الباب الداخلي ، و دخلنا نحن الثلاثة ...

    كانت مفاجأة مذهلة أحدثت في بيتنا بهجة لا توصف ...

    عشر شهور مضت ... و هو بعيد ... لا يتصل إلا قليلا ... و حين يتصل يتحدث مع الجميع سواي ... و إن تحدث معي صدفة ، ختم جمله المعدودة بسرعة ...

    لكنه الآن موجود هنا !

    أنا فرحة جدا !

    علمنا في وقت لاحق أنه مر منا قبل ذهابه إلى المدينة الشمالية لأمر خاص ...

    " كم ستظل هناك ؟؟ "

    سألته أمي ، فأجاب :

    " لا أعرف بالضبط ، ربما لبعض الوقت ... سأفتش عن عمل هناك فقد أجد فرصة أفضل ! "

    دانة قالت :

    " و ماذا عن عملك في المدينة ؟؟ "

    وليد اضطربت تعبيرات وجهه ، و قال :

    " تركته "

    ثم غير الموضوع لناحية أخرى ...

    فجأة سألني :

    " كيف هي الكلية ؟؟ "

    أنا تلفت من حولي بادئ الأمر ... كأنني أود التأكد من أن وليد يتحدث إلي أنا !

    بالطبع أنا !

    لا يوجد من يدرس بالكلية غيري الآن !

    قلت بصوت خفيف خجل :

    " الحمد لله ... تسير الأمور على ما يرام "

    قال سامر :

    " أنها مجتهدة و نشيطة ! و مغرمة بالفن أكثر من أي شيء آخر ! حتى مني ! "

    الجميع أخذوا يضحكون ...

    سواي أنا و وليد ...

    أنا لم تعجبني هذه الجملة ... أما وليد ... فلا أعرف لم اكفهر وجهه هكذا ... ؟؟

    قالت دانة :

    " إذن فقد أفسدت رحلتك الخاصة أيتها الببغاء الصغيرة ! "

    و استمرت في الضحك ...

    أنا استأت أكثر ...

    وليد سأل دانة :

    " أية رحلة ؟ "

    أجابت :

    " كانا يودان الذهاب للشاطئ ! سامر لا يأتي غير مرة في الشهر و خطيبته متلهفة لقضاء وقت ممتع و متميز معه ! إنها تغار مني ! "

    و رفعت رأسها بتباهي ...

    ربما كانت تقصد مداعبتي ، لكنني حملتها محمل الجد ... و وقفت فجأة ، و استأذنت للانصراف ...

    ذهبت إلى غرفتي مستاءة ... و غاضبة ...

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    قلت :

    " يبدو أنها تضايقت ... "

    فجميعنا لاحظ ذلك ... أما زالت دانه على ما كانت عليه منذ الطفولة ؟؟

    نظرت إلى شقيقتي باستياء ... و كذلك كان سامر ينظر إليها ...

    قالت :

    " كنت أداعبها فقط ! "

    سامر قال :

    " لكنها انزعجت منك ! سأذهب إليها "

    و غادر من فوره ...

    أنا طبعا لم أملك من الأمر من شيء ...

    قلت لدانة :

    " أحقا كانا يودان الذهاب للشاطئ ؟ أنا آسف أن حضرت و أفسدت مشروع نزهتهما ! "

    " لا تكترث وليد ! فهي فكرت في الذهاب فقط لأنني أوحيت لها بأن تذهب ! إنها لا تحب الخروج من المنزل خصوصا للأماكن العامة "

    التزمت الصمت و لم أعلق على جملتها الأخيرة ...

    قالت :

    " ما رأيكم أن نذهب جميعا غدا لنزهة عند الشاطئ ! كم سيكون ذلك رائعا ! "

    نزهة عند الشاطئ ؟ يبدو حلما ! إنني لم أقم بهكذا نزهة منذ سنين !

    و يبدو أن الفكرة قد راقت للجميع ...

    سألت :

    " و ماذا عن نوّار ؟؟ "

    قالت :

    " في البلدة المجاورة ! إنها مباريات حاسمة ! ألا تتابع الأخبار ؟؟ "

    في الواقع ، أخبار كرة القدم ليست من أولويات اهتماماتي !

    تحدثنا عن أمور عدة ... و شعرت براحة كبيرة ... هنا حيث أحظى باهتمام أناس يحبونني و يعزونني ...

    أنا أرغب في العيش مع أهلي فقد سئمت الوحدة ... ألا يكفي أنني حرمت منهم كل هذه السنين ؟؟

    خرجت من كنفهم و أنا فتى مراهق ... مليء بالحماس و الحيوية و مقبل على الحياة ... طموح و ماض في طريق تحقيق أحلامه ...

    و عدت إليهم ... و أنا رجل كئيب محبط مثقل بالهموم ... فاقد الاهتمام بأي شيء ... صقلني الزمن و شكلتني الأقدار ...

    لكنهم لا زالوا يحترمونني ...

    بعد مدة ، عاد سامر لينضم إلينا ... لم تكن رغد معه

    كنت أريد أن أسأله عنها ، و لم أجرؤ !

    إنها لم تعد طفلتي ... لم يعد لي الحق في الإهتمام بها ...

    " إذن فتلك السيارة الرائعة في الخارج هي لك يا سامر ! "

    سألته ، فأجاب :

    " نعم ! اشتريتها مؤخرا ... ما رأيك بها ؟؟ "

    " مظهرها رائع ! "

    " و مزاياها كذلك ! كلفتني الكثير ! "

    مقارنة بسيارتي القديمة فإن أي شيء في سيارة سامر سيبدو مدهشا !
    إذن ... فأحوال أخي المادية جيدة ...
    كم أبدو شيئا صغيرا أمامه ... كم خذلت والدي ّ الذين كانا في الماضي ... يعظمان من شأني و يتوقعان لي مستقبلا مشرفا ...

    شعور جديد تولد هذا اليوم ، يزيدني رغبة فوق رغبة في الرحيل العاجل ...

    ففي الوقت الذي يتمتع فيه سامر بعمل جيد و دخل وفير و مستقبل مضمون ... افتقر أنا لكل شيء ...

    حتى رغد ...

    أصبحت له ...
    ألم شديد شعرت به في معدتي هذه اللحظة ، كان يتكرر علي في الآونة الأخيرة و لكنني لم أزر أي طبيب ...

    استمر معي الألم فترة طويلة و لم أشعر معه بأي رغبة لتناول الطعام المعد على مائدة العشاء ...

    لذا ، ذهبت إلى غرفة شقيقي ناشدا الراحة و الاسترخاء

    في صباح اليوم التالي أردت الذهاب إلى المطبخ حيث يجلس الجميع ...

    قبل دخولي تنحنحت و أصدرت أصواتا من حنجرتي حتى أثير انتباههم لوصولي ، اقصد انتباه رغد لوصولي ...

    " تفضل بني "

    قالت أمي ... فدخلت و أنا حذر في نظراتي ... لم أكن أريد أن أراها ... لكنني رأيتها !

    " صباح الخير جميعا "

    ردوا تحية الصباح و طلبوا مني الجلوس إلى مائدة المطبخ الصغيرة التي يجتمعون حولها

    " تعال وليد ! إننا نخطط لرحلة اليوم ! هل تحتمل الرحلة أم أنك لا تزال متعبا ؟؟ "

    التفت إلى دانة التي طرحت السؤال ، و لم يكن بإمكاني منع عيني من رؤية رغد التي تجلس إلى جوارها

    " أحقا قررتم ذلك ؟ سيكون ذلك رائعا ! "

    أمي قالت و هي تشير إلى المقعد الشاغر :

    " تعال عزيزي ... أعددت ُ فطورا مميزا من أجلك ! "

    نظرت باتجاههم ، لقد كانوا جميعا ينظرون إلي ، بلا استثناء ...

    قلت :

    " سـ ... أذهب إلى غرفة المعيشة "

    و انسحبت من المطبخ ...

    وافتني أمي بعد قليل إلى غرفة المعيشة تحمل أطباق الفطور ...

    " شكرا ... "

    ابتسمت أمي ، و بدأت أنا في تناول وجبتي بهدوء ، بينما هي تراقبني !

    " أمي ... أهناك شيء ؟؟ "

    سألتها بحرج ، قالت بابتسامة :

    " لا عزيزي ... فقط أروي ناظري برؤيتك ... "

    شعرت بالطعام يقف في بلعومي ...

    برؤية من تودين يا والدتي الارتواء ؟؟

    برؤية الخذلان و الفشل ؟؟ الحطام و البقايا ؟؟

    برؤية رجل موصوم بالجريمة ؟؟

    كم خذلتك ! كم كنت فخورة بي في السابق ! إنني الآن شيء يثير النفور و الازدراء في أعين الجميع ...

    " الحمد لله "

    حمدت ربي ، و وضعت الملعقة على الطبق ...

    " لم توقفت ! ألم يعجبك ؟؟ "

    " بلى أماه ... لكني اكتفيت "

    " عزيزي سأخرج إن أزعجك وجودي ... أرجوك أتم وجبتك "

    " لا يا أمي ، لقد اكتفيت و الحمد لله "


    أمي بعد ذلك ، عادت بالأطباق إلى المطبخ ، ثم أقبل الجميع إلى غرفة المعيشة و حاصروني بنظراتهم ... و أسئلتهم حول أموري ...

    أنا كنت اكتفي بإجابات مختصرة ... فلا شيء فيما لدي يستحق الذكر و الاهتمام ...

    و كالبقية كانت رغد تتابعني بعينيها و أذنيها ، في صمت ...

    " ما رأيك بتجربة سيارتي يا وليد ! لنقم بجولة قصيرة ! "

    بدت فكرة ممتازة و منقذة ، فوافقت فورا و نهضت مع سامر ، و خرجنا ...


    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    " هل غضبت مني أمس حقا ! أنا آسفة يا رغد ! كنت أمازحك ! "


    نظرت إلى السقف و قلت :

    " حسنا ، انتهى الأمر الآن "

    ثم إليها و قلت :

    " و لكن لا تنعتيني بالببغاء ثانية ... خصوصا أمام وليد "

    قالت دانة باستغراب :

    " وليد ؟؟ "

    فاضطربت ...

    قالت :

    " تعنين سامر !؟ "

    قلت :

    " وليد أو سامر أوأي كان ... أمام أي كان ! "

    و أشحت بوجهي بعيدا عنها

    فعادت تبرد أظافرها بالمبرد و تغني !

    كنا نجلس في المطبخ ، و للمطبخ نافذة مطلة على ساحة خارجية خلفية تنتهي بالمرآب
    مرآب منزلنا مفتوح من ثلاث جهات ، و يسد جهته الخارجية بوابة كهربائية ...

    أقبلت أمي تحمل سلة الملابس المغسولة و دفعت بها إلي :

    " رغد ... انشريها على الحبال "

    أوه ... يا لعمل المنزل الذي لا ينتهي !

    أردت أن أعترض و أوكل المهمة إلى دانة ، التي تجلس أمامي تبرد أظافرها بنعومة !

    " انشريها أنت يا دانة ! "

    هزت رأسها اعتراضا ، فهممت أن أتذمر !

    لكني لمحت من خلال النافذة بوابة المرآب تنفتح ، و أدركت أنهما قد عادا !
    و بسرعة ابتلعت جملة التذمر قبل أن أتفوه بها و قلت متظاهرة بالاستسلام :

    " حسنا ... لن أؤذي أظافرك ! سأنشرها أنا ! "

    و حملت السلة ، و خرجت للفناء الخلفي ...

    وليد ركن السيارة في المرآب ثم خرج منها هو و سامر ...

    و هاهما الآن يقبلان باتجاهي ...

    سامر نزع نظارته السوداء ...

    و سارا متوازيين جنبا إلى جنب يسبقهما ظلاهما ... و يدوسان عليهما ...

    وليد ... بطوله و عرضه و بنية جسده الضخم ... و الذي اكتسب عدة أرطال منذ لقائي الأخير به قبل شهور ... زادت وجهه امتلاء و جسده عظمة ... و كتفيه ارتفاعا ... و صار يشغل حيزا محترما من هذا الكون و يفرض وجوده فيه !
    يخطو خطا أكاد أسمع صوت الأرض تتألم منها !

    سامر ... بجسمه النحيل ... و قوامه الهزيل... و وجهه الطويل ... المشوه ...
    و خطاه الهادئة البسيطة ... و أنظاره الخجلة التي غالبا ما تكون مدفونة تحت الأرض ...

    شيء ما أحدث في نفسي توترا و انزعاجا ...

    إنهما مختلفان ...

    لماذا تنجرف أنظاري لا إراديا نحو وليد ؟؟؟

    لماذا يشدني التيار إليه هو ؟؟

    حين صارا أمامي مباشرة ، توقف سامر و قال :

    " أأساعدك ؟؟ "

    بينما تابع وليد طريقه مرورا بي ... ثم ابتعد دون أن ينظر إلي ...

    لكنني كنت أراقبه ...

    توقف برهة و استدار مادا يده نحو سامر قائلا :

    " المفتاح "

    مفتاح السيارة كان يسبح في كفه كسمكة في البحر !

    تناول سامر المفتاح منه ، ثم أخذ يساعدني في نشر الملابس على الحبال ... في الحقيقة قام هو بالعمل ... فأنا كنت شاردة و سارحة أفكر ...

    هل هذا هو شريك حياتي حقا ؟؟

    لماذا علي أنا أن أتزوج رجلا مشوها ؟؟

    لقد شغلت الفكرة رأسي حتى ما عدت بقادرة على التركيز في شيء آخر ...

    هل حقا سأتزوج سامر ؟؟
    كم كانا مختلفين ... و هما يسيران جنبا إلى جنب ...

    في وقت الغذاء ، لم أساهم في إعداد المائدة و وافيت البقية متأخرة بضع دقائق ...
    أتدرون ماذا حدث عندما دخلت غرفة المائدة و جلست على مقعدي المعهود ؟؟

    قام وليد ... و غادر الغرفة !

    تلوت معدتي ألما حين رأيته يذهب ... إنه لا يريد أن يجلس معي حول مائدة واحدة!

    الجميع تبادلوا النظرات و حملقوا بي ...

    أمي تبعته ، ثم عادت بعد أقل من دقيقة و قالت :

    " رغد ... خذي أطباقك إلى المطبخ "

    صدمت و اهتز وجداني ... و شعرت بالإهانة ... و بأنني أصبحت شيئا
    لا يرغب وليد في وجوده ... شيئا يزعجه ... و يتحاشى اللقاء به ...

    نعم فأنا ابنة عمه التي كبرت و أصبحت ... شيئا محظورا ..

    رفعت أطباقي و ذهبت إلى المطبخ و انخرطت في بكاء مرير ...

    بعد قليل أتتني دانة تحمل أطباقها هي الأخرى :

    " رغد ! و لم هذه الدموع أيتها الحمقاء ! "

    لم أعرها أذنا صاغية ، فقالت :

    " إنه يشعر بالحرج و الخجل ! تعرفين كيف هو الأمر ! هذا من حسن الأدب ! "

    قلت :

    " لكنني كنت معكم العام الماضي "

    قالت :

    " ربما لم يكن قد اعتاد فكرة أنك ... كبرت ! "

    ليتني لم أكبر !

    تركت أطباقي غير ملموسة و خرجت من المطبخ متوجهة إلى غرفتي ،
    و دانة تشيعني بنظراتها ...

    في الغرفة ... تأملت صورة وليد التي رسمتها قبل شهور ... و انحدرت دموعي ...

    أخذت أتخيله ... و هو واقف إلى جوار سامر ... يفوقه في كل شيء يعجبني ...

    ثم ...
    ثم ...
    أتزوج سامر ! ! ؟؟


    لماذا أقارن بينهما هكذا ؟؟

    وفي العصر ، أتتني دانة ..

    " الم تستعدي بعد ؟ سننطلق الآن ! "

    " إلى أين ؟؟ "

    " أوه رغد هل نسيت ! إلى الشاطئ كما اتفقنا ! "

    بالفعل كنت قد نسيت الفكرة ... و بالرغم من أنني كنت مسرورة جدا بها مسبقا ألا أنها الآن ... لا تعجبني !

    " لا أريد الذهاب "

    حملقت دانة بي و قالت :

    " عفوا ! ألم تكوني أنت المشجعة الأولى ! هل ستبقين في البيت وحدك ؟؟ "

    قلت :

    " هل سيذهب الجميع ؟؟ "

    " بالطبع ! إنهم في انتظارنا فهيا أسرعي ! "

    و ذهبت إلى غرفتها تستبدل ملابسها ...

    أن أبقى وحدي في البيت هي فكرة غير واردة ... لم يكن أمامي إلا الذهاب معهم ...

    توزعنا على سيارتي أبي و سامر ...

    جلس وليد على المقعد المجاور لسامر ، و أنا خلفه ، و دانه إلى جانبي ، و تركنا والدي ّ معا في السيارة الأخرى ...

    وليد و سامر كانا يتبادلان الأحاديث المختلفة تشاركهما دانة ، أما أنا فبقيت صامتة ... أراقب و استمع ... و أشعر بالألم ...

    لم تفتني أي كلمة تفوه بها وليد ... او أي ضحكة أطلقها

    كنت أصغي إليه باهتمام بالغ ! حتى كدت أحفظ و أردد ما يقول !

    عندما وصلنا ، فرشنا بساطا كبيرا و وضعنا أشياءنا و جلسنا عليه ، إلا أن وليد ظل واقفا ... ثم ابتعد ... و سار نحو البحر ...

    إنه لا يريد الجلوس حيث أجلس ...

    لماذا يا وليد ؟؟

    هل تعرفون كم دقيقة في الساعة ؟؟

    ستون طبعا !

    و هل تعرفون كم مرة في الساعة فكرت به ؟

    ستون أيضا !

    و هل تعرفون كم ساعة بقينا هناك ؟؟

    ست ساعات !

    هل أحصيتم كم وليد جال برأسي خلال الرحلة ؟؟

    الثلاثة ، أبي و وليد و سامر ذهبوا للسباحة ، أمي تصف قطع اللحم في الأسياخ و دانة تساعدها ...

    و أنا ، معدتي تئن !

    " رغد ! لم لا تبتلعين أي شيء ريثما يجهز العشاء ؟؟ لم تضرم النار بعد و سنستغرق وقتا طويلا ! "

    نظرت إلى دانة و قلت :

    " لم لا تسرعان ؟ "

    " لا يزال الوقت مبكرا ! أنت من فوّت وجبة الغداء ! "

    لقد كنت جائعة بالفعل ! و فتشت في السلات فلم أجد شيئا يستحق التهامه حتى يجهز طعام العشاء المشوي !

    نظرت من حولي فرأيت مقصفا صغيرا على مقربة منا ...

    " أريد الذهاب إلى هناك ! "

    قالت دانة :

    " اذهبي ! "

    قلت :

    " تعالا معي ! "

    ابتسمت دانة ابتسامتها الساخرة التي تعرفون و قالت :

    " نعامتي الصغيرة ... تخشى من الظلام ...
    و ترجف خوفا ... من فئران نيام ! "

    و هو مطلع أغنية للأطفال !

    غضبت منها فاسترسلت في الضحك ...

    تجاهلتها و خاطبت والدتي :

    " تعالي معي ... "

    أمي مدت يديها الملطختين بعصارة اللحم ، تريني إياهما و قالت :

    " فيما بعد رغد "

    نظرت نحو الشاطئ فوجدت وليد يجلس على أحد المقاعد ... و والدي و سامر لا يزالان يسبحان ...

    التفت إلى دانة و قلت :

    " دعينا نقترب من الشاطئ ... أريد أن أبلل قدمي ! "

    دانة قالت :

    " أنا لا أريد ! اذهبي أنت ِ "

    " لا أريد الذهاب وحدي "

    و عادت تغني :

    " نعامتي الصغيرة ... تخشى من الظلام !! "

    أصبحت لا تطاق ... !

    و أمي منهمكة في إعداد أسياخ اللحم ...

    " اذهبي رغد ... إنهم هناك ! اذهبي عزيزتي ... "

    قالت أمي مشجعة إياي ...

    لم يكن هناك الكثيرون على مقربة منا ... و لكنني ترددت كثيرا ...

    في النهاية أقنعت نفسي بأنهم قريبون من الساحل ، كما و إن وليد يجلس هناك ... و لا داعي لأي خوف ...

    سرت نحوه و أنا أحس بنظرات أمي تتبعني ... فهي تريد لي التخلص من خوفي المبالغ به ... من أماكن لا تستوجب أي خوف أو حذر ...

    كانت أمواج البحر تتلاطم بحرية ... و نسمات الهواء باردة منعشة تغزو صدري الضائق منذ ساعات ... فتفتح شعبه و توسعه ...

    اقتربت من وليد ... و لم يشعر بي

    تجاوزته نحو الماء ... فلم أحس بحركة منه .. التفت فرأيته مغمض العينين ، و ربما نائم !

    سمحت للماء البارد بتبليل قدمي ... و شعرت بانتعاش !

    لوّح سامر لي ... فشعرت بأمان أكثر و تجرأت على خطو خطوتين يمينا و يسارا ... إلا أنني لم ابتعد أكثر من ذلك ... لم أخرج عن الحيز الذي يحيط بوليد و يشعرني بالطمأنينة ...

    و الآن تجرأت على خطوة أكبر ... و جلست على الرمال المبللة و مددت يدي لألامس الأمواج ...

    كان شعورا رائعا !

    أقبل مجموعة من الأطفال بألعابهم و أطواق نجاتهم ، و بدؤوا يلعبون بمرح ... كنت أراقبهم بسرور !

    ليتني أعود صغيرة لألهو معهم !

    التفت للوراء ... إلى وليد ... استعيد ذكريات ظلت عالقة في ذاكرتي ...

    كان وليد يلاعبني كثيرا حينما كنت صغيرة ! و في المرات التي نقوم فيها برحلة إلى الشاطئ ... كان يبقى حارسا لي و لدانة !

    عدت بنظري للأطفال ... أتحسر !

    يبدو أن أصواتهم قد أيقظت وليد من النوم ... سمعت صوته يتنحنح ثم يتحرك ، استدرت للخلف فوجدته يقف و ينظر إلى ما حوله ...

    وليد تحرك مقتربا من البحر ... فنهضت بسرعة و قلت :

    " إلى أين تذهب ؟؟ "

    وليد توقف ، ثم ... قال :

    " لأسبح ... "

    قلت :

    " انتظر ... سأعود لأمي ... "

    في نفس اللحظة أقبل سامر يخرج من الماء نحو اليابسة ...

    " وليد ... تعال يا رجل ! يكفيك نوما ! "

    قال سامر ، فرد وليد :

    " أنا قادم ... لكن ألا يجب أن نشعل الجمر الآن ؟؟ "

    " لا يزال الوقت مبكرا ! "

    و التفت سامر إلي و قال :

    " رغد أخبري أمي بأننا سنقضي ساعات أكثر في السباحة ! "

    قلت :

    " حسنا ! "

    بينما تصرخ معدتي : كلا !

    سامر خرج من الماء ، و صار واقفا إلى جوار وليد ... و قام ببعض التمارين الخفيفة ...

    التفت إلى ناحية البساط الذي نفترشه ، و خطوت متجهة إليه ...

    مجموعة من الناس كانوا يلاحقون كرة قدم ... فيضربها هذا و يركلها ذاك ... يتحركون في طريقي ...

    وقفت في منتصف الطريق لا أجرؤ على المضي قدما ...

    التفت إلى الوراء فوجدت الاثنان يراقباني ...

    و إلى حيث تجلس أمي و أختي ... فإذا بهما أيضا تراقباني ...

    الآن ... تدحرجت الكرة نحوي و اقتربت من قدمي ... و أقبل اللاعبون يركضون نحوها ...

    وصل إلي أحدهم و قال :

    " معذرة يا آنسة "

    أصبت بالذعر ... فجأة ...

    خطوة للوراء ...

    ثم خطوة أخرى ...

    ثم أطلقت ساقي للريح راكضة باضطراب و فزع ...

    إلى حيث جرفني التيار ...

    نحو وليد !
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty الحلقة الثامنة عشرة

    مُساهمة  littledoctor الثلاثاء 19 يوليو 2011 - 0:15


    الحلقةالثامنةعشر
    ---------------

    أفقت من غفوتي القصيرة ...

    كنت أجلس على أريكة بمحاذاة الشاطئ ، تتدلى قدماي في مياه البحر و تعانقان أمواجه الراقصة ...

    الهواء كان منعشا جدا و البحر غاية في الجمال ... منظر لم تره عيناي منذ سنين

    إنها المرة الأولى منذ تسع سنين ، التي يبتهج فيها صدري و أنا بين أهلي و أحبابي ...

    أصوات مجموعة من الأطفال تغلغلت في أعماق أذني و أيقظتني من راحتي النادرة

    ما إن فتحت عينيّ الناعستين حتى تلقتا منظرا جعلني أقف منتصبا فورا !

    كانت رغد ... صغيرتي الحبيبة ... خطيبة أخي الوحيد ... تجلس على الرمال المبللة تعبث بالماء ... إلى جواري تماما !

    نهضت و قد أصابني الروع !

    و سرعان ما هبت هي الأخرى واقفة ، تنظر إلي ...

    وجّهتُ سهام بصري إلى البحر ... ليبتلع أي شعور يفكر في الاستيقاظ في داخل قلبي ... و خطوت مبتعدا عنها

    استوقفتني ، فأخبرتها بأنني ماض للسباحة فقالت بسرعة :

    " انتظر ! سأعود لأمي ... "

    لم أعرف ما إذا كانت تقصد مني مرافقتها أو مراقبتها تحديدا ، إلا أنها حين سارت مبتعدة بقينا أنا و سامر ـ و الذي خرج من الماء للتو و وقف إلى يساري لا يفصلني عنه غير شبرين ـ نراقبها و هي تبتعد ...

    و حين ظهر فتى في طريقها يريد أخذ كرة القدم التي تدحرجت منه نحوها ، اضطربت صغيرتي ... و استدارت نحونا ... و أقبلت مسرعة و أمسكت بذراعي اليمنى و اختبأت خلفها !

    أنا طبعا وقفت كالجدار لا أحس بشيء مما حولي و لا أعرف ماذا يحدث و ماذا علي أن أفعل !

    أردت أن أسحب ذراعي لكنها غرست أظافرها بي و آلمتني ...

    الفتى ذاك كان يحمل الكرة و ينظر بتعجب نحونا

    و أمي و دانه أيضا تنظران بتعجب

    أما النظرات التي لم أعرف ما طبيعتها هي نظرات أخي سامر ...

    " صغيرتي ... صغيرتي ... لا بأس عليك ... اهدئي أرجوك "

    رغد الآن تنظر إلى و قد اغرورقت عيناها بالدموع ، و قالت بانفعال و اضطراب :

    " لماذا لم تأتِ معي ؟ لماذا تركتني وحدي ؟ هل تريد أن يؤذيني أحد بعد ؟ "

    كلمتها هذه جعلت عضلاتي تنقبض جميعها فجأة ، و لا شعوريا مسكت أنا بيديها و شددت عليهما بقوة ...

    لحظة جحيم الذكرى ... و أعيننا تحدق ببعضها البعض بحدة ... من عيني يقدح الشرر الحارق ... و من عينها تنسكب الدموع المجروحة ... و في بؤبؤيها أرى عرضا للشريط المشؤوم اللعين ... و صورة لعمّار يبتسم ... و الحزام يتراقص ...

    " لكنت ُ قتلته "

    نطقت بهذه الجملة لا إراديا و أنا أحدق بها في نظرات ملؤها الشر ... و القهر ...

    لقد شعرت بأشياء تتمزق بداخلي ... و أشياء تعتصر ... و أشياء تتوجع و تصرخ ...

    كيف لي أن أتحمل موقفا كهذا ؟؟

    لو ظل سامر صامتا ، ربما بقيت شهورا واقفا عند نفس النقطة ، إلا أن صوته قطع الحبال المشدودة و أرخى العضلات المنقبضة

    " رغد ... "

    أطلقنا نظراتنا المقيدة ببعضها البعض و سمحنا لها بالانتقال إلى عيني سامر ...

    لا يخفى عليكم الذهول و الحيرة و الدهشة التي كانت تغلف وجه سامر الواقف ينظر إلينا ...

    قال :

    " رغد ... عزيزتي ... "

    و لم ينطق بعدها بجملة واضحة تفسر التعبيرات الغامضة المرسومة على وجهه الحائر ...
    رغد الآن بدأت تمسح دموعها و قد هدأت نوعا ما ...

    الآن ... تصل أمي و أختي ... و تستدير رغد إليهما ، و تنطق بمرارة :

    " قلت لك لا أستطيع ... لا أريد المجيء ... لا أستطيع ... لا تتركوني وحدي "

    و انخرطت في مزيد من البكاء المؤلم

    أمي أحاطتها بذراعيها و أخذت تتمتم بكلمات لم استطع استيعابها من هول ما أنا فيه ...

    ثم رأيتهن هن الثلاثة ، رغد و أمي و دانة ، يبتعدن عائدات من حيث أتين ...

    سامر ظل واقفا لثوان أخرى ، ثم هم باللحاق بهن ... و حانت منه التفاتة إلي ... فرآني و أنا أنهار على الرمال و أضغط بيدي على معدتي و أتأوه ألما ...

    لقد شعرت بأشياء تتمزق و تعصر في أحشائي ... و دوار داهمني دون إنذار مسبق ... و خور و وهن مفاجئ في بدني ... فهويت أرضا ...

    كنت أعرف أن قلبي ينزف من الداخل ، كما تنزف أنسجة جسدي كله من شدة الموقف و قسوته ... و شعرت بالدماء تجري بكل الاتجاهات في جسمي ... و أحسست بها تصعد من جوفي ... و تملأ فمي ... ثم تخرج و تنسكب على الرمال ملونة إياها هي و يدي المرتكزة عليها باللون الأحمر ...
    الآن ... تستطيع عيناي رؤيتها بوضوح ... تماما كما ترى النور ...

    دماء حقيقية خرجت من جوفي ممزوجة بعصارة معدتي المتلوية ألما ...

    " وليد ! "

    رفعت رأسي ، فإذا بي أرى سامر ينظر إلى موضع الدماء بذعر ...

    " ما هذا ؟؟ "

    ما هذا ؟ أظن أنها دماء ! و هي المرة الأولى التي تخرج فيها دمائي من جوفي ... و أنا أشعر بألم حاد جدا في معدتي ...

    ما هذا ؟

    أظن أن هذا عرضٌ لمرض ٍ ما ...

    بعد فترة ... كنا نجلس قرب موقد الجمر ، نستنشق الأدخنة المتصاعدة من المشويات ... و نتلذذ برائحتها الشهية ...

    كان والدي يقلب الأسياخ و يهف الجمر ... و كلما نضج اللحم في أحد الأسياخ دفعه إلى واحد منا ، فيلتهمه بشهية كبيرة ...

    و الآن جاء دوري ...

    " تفضل يا وليد "

    كنت أود مشاركتهم هذه الوجبة اللذيذة التي لم أذق لها مثيلا منذ سنين ... لكن الآلام الحادة في معدتي حالت دون إقبالي على الطعام ...

    " شكرا أبتاه ... لا أستطيع التهامها فمعدتي مضطربة جدا "

    قال سامر :

    " لقد تقيأ دما قبل قليل "

    الجميع ينظر إلى الآن بقلق ...

    ابتسمت و قلت :

    " ربما أكلت شيئا لم تتقبله ! لا تكترثوا "

    أمي قالت بقلق :

    " بني ... عساه خيرا ؟؟ "

    " لا تقلقي أماه ... ستهدأ بالصيام لبعض الوقت "

    ثم حاولت تغيير مجرى الحديث ...

    أبي مد سيخ اللحم المشوي نحو الشخص التالي قائلا :

    " نصيبك يا رغد "

    رغد كانت تجلس على مؤخرة البساط ، بعيدة عن موقد الجمر الذي نجتمع قربه ...

    رغد نهضت ، و أقبلت نحونا و مدت يدها و أخذت السيخ ، ثم همت بالعودة إلى المؤخرة ...

    نهضت أنا و قلت :

    " تفضلي هنا ... أنا سأتمشى قليلا "

    و ابتعدت كي أدع لها المجال لتجلس مكاني ، قرب الجميع ... و تستمتع معهم بوجبة الشواء الشهية ...

    ذهبت أولا نحو سيارة أخي ، و استخرجت علبة السجائر التي كنت أضعها في جيب بنطالي الذي استبدلته بملابس السباحة ... ثم انطلقت إلى البحر ... و جلست على الرمال ... أدخن بشرود

    صوت أبي الجهور كان يصلني خافتا ضاحكا ... إذن فالجميع يستمتعون بوقتهم ... كم أتمنى لو أعود للحياة الدائمة معهم ... ليتني أستطيع ذلك ...

    ليتني أستطيع رمي الماضي في قلب البحر ... و نسيانه ...

    بعد قرابة النصف ساعة جاءتني دانة

    ابتسمت عند رؤيتي لها ، فابتسمت هي الأخرى إلا أنها سرعان ما حملقت بي بتعجب ...

    " أنت تدخّن ؟؟ "

    مرّغت السيجارة التي كانت في يدي في الرمل المبلل ، إلى جوار أختها السابقة ... و ابتسمت ابتسامة واهنة تنم عن الاستسلام و القنوط ...

    " عادة سيئة ... لا خلاص منها ! "

    دانه جلست إلى جانبي و أخذت تراقب الأمواج المتلاطمة ... ثم قالت :

    " لم أكن أعلم بذلك ! لو كان نوّار يدخن لرفضت الارتباط به ! لا أطيق رائحة هذه المحروقة السامة ! "

    قلت ببعض الخجل :

    " معذرة "

    ثم أضافت مداعبة :

    " و على فكرة ... فإن جميع الفتيات مثلي أيضا ! و إن استمررتم في التدخين فسوف تسببون أزمة عزّاب و عوانس ! "

    أطلقتُ ضحكة عفوية على تعليقها خرجت من أعماق صدري ممزوجة ببقايا الدخان!

    قلتُ بعد ذلك :

    " إذن ... هل استعديتما للزفاف ؟؟ "

    بشيء من الخجل قالت :

    " تقريبا ... إنه يريد أن نتزوج بعد عودة والديّ من الحج مباشرة ! أبي يود تأجيل ذلك شهرين أو ثلاثة ... أما والدتي فتراه موعدا مناسبا جدا ، و تريد أن يتزوج سامر و رغد معنا دفعة واحدة ! "

    و هذا خبر ليس فقط يحبس الأنفاس في صدري و يعصر معدتي ، بل و يستل روحي من جسدي ... و لن أعجب إن رأيتها تنسكب على الرمال أمامي كما انسكبت دمائي قبل قليل !

    في هذه اللحظة أقبل سامر و رغد ... لينضموا إلينا

    قال سامر :

    " هل لنا بالانضمام إليكما ؟ تركنا الوالدين يشويان السمك ! "

    قالت دانة ضاحكة :

    " أوه أمي ! من سيلتهم المزيد ؟ أخبرتها ألا تحضر السمك و لكنها مولعة به كثيرا ! "

    و استدارت نحوي :

    " وليد كيف معدتك الآن ؟ ألا تحب أن تتناول بعض السمك المشوي ؟؟ "

    " كلا ، لا طاقة لي بالطعام هذه الليلة "

    و جلس سامر إلى جانبي الآخر ، و رغد إلى جانب دانة ...

    قال :

    " فيم كنتما تتحدثان ؟؟ "

    قالت دانة :

    " فيكما أنت و رغد ! كنت أخبر وليد أنكما حتى الآن لم تتخذا قرارا نهائياحاسما بشأن موعد الزفاف ! "

    سامر ابتسم و قال :

    " أنا جاهر و في انتظار أوامر العروس ! "

    العروس هي رغد ! و رغد هي صغيرتي الحبيبة ... التي كنت أحلم بالزواج منها ذات يوم ... ثم فقدتها للأبد ... فهل لكم أن تتخيلوا حالي هذه اللحظة ؟؟

    قالت دانة :

    " هيا يا رغد ! قولي نعم و دعينا نحتفل سوية ! "

    ثم غيرت النبرة و قالت مداعبة :

    " و لكن كوني واثقة من أنني سأكون الأجمل بالتأكيد ! "

    أذناي طارتا نحوها ، حتى كادتا تلتصقان بشفتيها أو حتى تخترقان أفكارها لأعلم ما ستقوله قبل أن تقوله ... تكلمي رغد ؟؟

    رغد ظلت صامتة ... و أنا أذناي تترقبان بصبر نافذ ... هيا يا رغد قولي أي شيء ... ارمني بسهام الموت واحدا بعد الآخر ...

    اطعنيني بخناجر الغدر و حطمي قفصي الصدري و مزقي الخافق الذي ما فتئ يحبك مذ ضمك إليه طفلة يتيمة وحيدة ... توهم أنها خلقت من أجله فجاءت قذائفك تدمر قلعة الوهم التي بنيتها و عشت بداخلها 15 عاما ... أو يزيد ...

    و أقسم ... أقسم أنك لو تزوجت مع شقيقتي في نفس الليلة ، فإني سأتخلى عنها و أخذلها و أدفن نفسي بعمق آلاف الأميال تحت الأرض ، لئلا أحضر أو أشارك أو أبارك ليلة تزفين فيها إلى غيري ... مهما كان ...

    بعد كل هذه المشاعر التي تصارعت في داخلي في ارتقاب كلمتها التالية ... و أذاني تصغيان باهتمام و تركيز شديدين أكاد معهما أسمع دبيب النمل ...

    بعد كل هذا ... جاءني السهم المباغت التالي :

    " وليد ... ما رأيك ؟؟ "

    أنى لي أن أصف ما أود وصفه و أنا بحال كهذه ؟؟

    تسألينني أنا عن رأيي ؟؟ رأيي في ماذا ؟؟

    في أن تتزوجي شقيقي اليوم أو غدا أو بعد قرن ؟؟

    في أن تذبحيني اليوم أو غدا ... أو بعد قرن ؟؟

    أتشهد أيها البحر ؟؟

    ألا يا ليتك تبتلعني هذه اللحظة ... فأمواجك العاتية ستكون أكثر لطفا و رحمة بحال رجل تسأله حبيبة قلبه : ما رأيك بموعد زفافي !

    تحركت يداي إلى علبة السجائر الموضوعة على الأريكة الجالسة خلفي ، و تناولت واحدة و أشعلتها في محاولة مستميتة للفرار من جملة رغد ، التي كنت قبل ثواني أتوق لسماعها و أرسل أذنيّ نحو لسانها لالتقاط الجملة بسرعة فور خروجها ...

    بدت اللحظة التالية كالساعة بل كالقرن في طولها ..

    سحبت نفسا عابقا بالدخان المنبعث من السيجارة المضغوطة بين شفتي ...

    و أطلقت زفرة قوية ... حسبت معها أن روحي قد انطلقت ، و الدخان قد لوث الكرة الأرضية بكاملها ...

    قلت ... بعدما عثر لساني على بضع كلمات مرمية على جانبية :

    " الأمر عائد إليكما "

    و وقفت ...

    و قلت :

    " معذرة ... سأدخن في مكان آخر "

    و انصرفت عنهم ...

    سرت ُ مبتعدا ، و وقفت موليا إياهم ظهري ... انفث السموم من و إلى صدري و أقاوم آلام قلبي و معدتي ... و أحترق .

    بعد فترة ، انتهت رحلتنا و آن أوان العودة إلى البيت ...

    لم أكن أريد أن أركب سيارة سامر ... فقربه و قربها مني يعني مزيدا من الألم و الاحتراق ، لكنني حين رأيت دانة تركب سيارة والدي ، و رغد تقف عند سيارة سامر ... توجهت تلقائيا و جلست على المقعد الأمامي ، لأمنعها من الجلوس عليه !

    مشوار العودة كان طويلا مملا ... فقد التزمنا الصمت ... و رغد نامت !

    " وصلنا عزيزتي ! "

    قال سامر ذلك و هو يلتفت إلى الوراء ، ليوقظ رغد ...

    كنا قد وصلنا قبل الآخرين ...

    فتحت أنا الباب و هبطت من السيارة ، و رأيت رغد تستفيق ...

    ذهبت إلى مؤخرة السيارة أفرغ حقيبتها من حاجيات الرحلة ، ثم أحملها إلى داخل المنزل ...

    و أقبل سامر يساعدني ، و حين وصلت إلى الباب ، جاءت رغد بمفتاح سامر و فتحته لي ... و انطلقت مسرعة نحو الباب الداخلي تفتحه على مصراعيه لأدخل بما تحمل يداي ، و أتجه نحو المطبخ ...

    وضعت الأشياء في المطبخ و استدرت راغبا في العودة لجلب البقية ... رغد واقفة عند باب المطبخ تراقبني ...

    حين مررت منها ...

    " وليد "

    وقفت ... و عاودني الشعور بالألم في معدتي فجأة ... يكفي أن أسمعها تنطق باسمي حتى تتهيج كل أوجاعي ...

    لم أرد ، و لكنني توقفت عن السير منتظرا سماع ما تود قوله ...

    " وليد "

    عادت تناديني ... تعصرني ...

    " نعم ؟؟ "

    قالت :

    " ألم يعد يهمك أمري ؟؟ "

    فوجئت بسؤالها هذا فالتفت إليها مندهشا ...

    كانت عيناها حمراوين ربما من أثر النوم ... و لكن القلق باد عليهما ...

    " لم تقولين ذلك !؟ "

    قالت :

    " لم لم تبد ِ رأيك بشأن زواجي ؟؟ "

    تصاعدت الدماء المحترقة إلى شرايين وجهي و ربما إلى حلقي لكنني ابتلعتها عنوة

    قلت :

    " إنه أمر يخصكما وحدكما ... و لا شأن لي به "

    رغد هزت رأسها اعتراضا ثم قالت :

    " لكن وليد ... أنا ... "

    و لم تتم الجملة ، إذ أن أخي سامر أقبل يحمل بعض الأغراض ، فسرت أنا خارجا لجلب المتبقي منها ...

    فيما بعد ، و سامر يحمل بطانية و وسادة قاصدا الذهاب للنوم في غرفة الضيوف و تركي أنام في غرفته ، كما أصر ... و قبل أن يخرج من الغرفة توقف و قال :

    " وليد ... هل لي بسؤال ؟ "

    " تفضل ؟؟ "

    تأملني لحظة ثم قال :

    "وليد ... لماذا ... قتلت عمّار ؟؟ "

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    ذهبت مباشرة إلى غرفتي ، قبل أن تحضر أمي و دانه ثم تطلبان مني مساعدتهما في الغسل و التنظيف ...

    فأعمال المنزل هي آخر آخر شيء أفكر بالقيام به في هذه الساعة ، و هذه الحال

    يكاد قلبي ينفطر أسى ... لحقيقة مرة أتجرعها رغما عني

    وليد لم يعد يهتم لأمري ... و لم أعد أعني له ما كنت و أنا طفلة صغيرة ...

    ربما ظن الجميع أنني أويت لفراشي و نمت ... فعادتي أن أنام مبكرة ، إلا أنني قضيت ساعات طويلة في التفكير و الحزن ... و الألم و الدموع أيضا

    لماذا يعاملني وليد بكل هذا الجفاء و يبتعد كلما اقتربت ؟؟

    و دليل آخر ... تكرر صباح اليوم التالي ...

    فقد نهضت متأخرة ... و وجدت الجميع مجتمعين في غرفة المعيشة يتناقشون حول أمور شتى ...

    دخلت الغرفة فتوقف الجميع عن الحديث ، و ألقيت تحية الصباح ... ثم خطوت باتجاه أحد المقاعد راغبة في مشاركتهم أحاديثهم ...

    و الذي حدث هو أن وليد نهض ، و هم بالمغادرة ...

    شعرت ُ بألم حاد في صدري ...

    قلت :

    " كلا ... ابق حيث أنت ... أنا عائدة إلى غرفتي ... اعتذر على إزعاجكم "

    و استدرت بسرعة مماثلة للسرعة التي بها انهمرت دموعي ...
    و غادرت المكان ...

    ذهبت إلى غرفتي و سبحت في بحر دموعي ...

    وافتني أمي بعد قليل و رأتني على هذه الحال

    " رغد يا عزيزتي ... لا تأخذي الأمر بهذه الحساسية ! إنه لا يقصد شيئا ... لكنه الحياء ! "

    انفجرت و تفوهت بجمل لم أفكر فيها إلا بعد خروجها ، من شدة تأثري ...

    قلت :

    " إذا كان وجودي في هذا البيت يزعجه فأنا سأرحل إلى بيت خالتي ... ليأخذ حريته التامة في التجول حيثما يريد "

    أمي صدمت بما قلت ، و حملقت بي باندهاش ...

    " رغد ! كيف تقولين ذلك ؟؟ "

    " إنه يتعمد تجاهلي و تحاشي ّ ... كأنني فتاة غريبة و موبوءة ... ألهذا الحد لم يعد يطيقني ؟ ألم أعد أعني له شيئا ؟؟ ألم يكن يعني لي كل شيء في الماضي ؟؟ "

    و سكت ّ ُ ، التقط بعض الأنفاس و أمسح الدموع بكومة من المناديل متكدسة في يدي ... كنت أبكي بانفعال ...

    والدتي قالت فجأة :

    " و الآن ؟؟ "

    نقلت بصري من كومة المناديل المبللة في يدي ، إلى عيني أمي و نظراتها المقلقة ...

    و الآن ؟؟

    أعتقد أن أمي كانت تلمح إلى شيء ، لم تجرؤ على التصريح به ... و إن قرأت بعض معالمه في عينيها ...

    إنها نفس النظرة التي رمقتني بها تلك الليلة ، ليلة رحيل وليد السابق ، قبل أذان الفجر ...

    و خفت ... من الحقيقة التي لا أريد أن أكتشفها أو يكتشفها أي كان ... حقيقة الشعور بالحرارة التي تتأجج داخلي كلما كان وليد على مقربة ..

    في ذات اليوم ، أصررت على الذهاب إلى بيت خالتي و تناول الغذاء مع عائلتها

    كنت أريد أن أبتعد مسافة تسمح لي بالهدوء ، فنبضاتي لا يمكن أن تهدأ و وليد في مكان قريب ...

    هناك فوجئت بأمر آخر !

    خالتي انفردت بي لبعض الوقت في إحدى الغرف و بدون أية مقدمات سألتني :

    " هل صحيح أنك ... أنك لا ترغبين في الزواج من ابن عمك سامر ؟؟ "

    دهشت و هالني ما سمعت ... قلت بذهول :

    " أنا ؟ من ... قال ذلك ؟؟ "

    خالتي كانت تحدثني بجدية و قلق واضحين ...

    قالت :

    " لقد سمعَتْك سارة تخبرين نهلة بهذا ذات مرة ... و ذكرت الأمر على مسمع مني و من حسام ... و من حينها و هو و أنا معه في جنون ! "

    لم أع ِ الأمر بالسرعة المفروضة ، بل بقيت أحملق بدهشة و بلاهة في عيني خالتي ... و ربما هي فسرت صمتي موافقة على ما تقول ...

    " رغد ... أخبريني بكل شيء ... فإن لم تكوني ترغبين في الزواج من ذلك المشوه فثقي بأنني لن أسمح لهذا الزواج بأن يتم أبدا "

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
    فيما بعد ، كنت أجلس مع نهلة في غرفتها دون وجود سارة ـ لوحدنا أخيرا !

    قلت :

    " و تقولين أنها لا تعي شيئا ؟ إنها أخطر مما ظننت ! يا لجرأتها ... كيف تخبر خالتي و حسام بأمر كهذا !؟ هل أنا قلت ذلك ؟؟ "

    نهلة تنهدت و قالت :

    " هذا ما ترجمه دماغها الصغير ! لقد قلت أنك لا تريدين الزواج الآن ! أخضعتني أمي لاستجواب مكثف ، و أخي حقق معي مطولا بسبب هذا الأمر ! "

    " يا إلهي ! "

    ابتسمت نهلة ابتسامة سخرية ماكرة ، ثم وقفت فجأة و نفخت صدرها هواء ً ، و رفعت كتفيها عاليا ، و قطبت حاجبيها و عبست بشكل غريب مرعب و قالت بنبرة خشنة ـ تقلد حسام :

    " أمي يجب أن تتأكدي من الأمر لأنني إن اكتشفت أنهم أرغموها على هذا الزواج أو استغلوا كونها يتيمة و صغيرة و ضعيفة ، فأقسم بأنني سأشوه النصف الآخر من وجه ذلك اللئيم الماكر "

    قفزت أنا واقفة بغضب ...

    " نهلة ! "

    ألا أنها تابعت تمثيل المشهد :

    " قلت لك يا أمي ... تدخلي و امنعي هذا الارتباط منذ البداية ... أترين أن فتاة في الرابعة عشر هي مدركة بالقدر الكافي لتحديد مصيرها في أمر كهذا ؟؟ كيف تجرءوا على فعل هذا كيف ؟؟ كيف ؟؟ ويل لذاك المشوه مني "

    " يكفي نهلة ... "

    قلت ُ بعصبية ، فعادت نهلة إلى شخصيتها الطبيعية ، و قالت :

    " هذا ما كان يحصل كل يوم ! تعرفين أن حسام يبغض خطيبك من ذلك الحين ! "

    قلت :

    " لا أقبل أن ينعته أحد بالمشوه ... و تشوه وجهه ليس شيئا يستحق أن يعير عليه"

    نهلة جلست على السرير ، و قالت :

    " ليس بسبب التشوه هو ناقم منه ! تعرفين ! إنه بسببك أنت ! لازال مولعا بك ! "

    انزعجت من هذا ... فقد كنت أظن أن الأمر قد انتهى ... لكن ...

    " أرجوك نهلة لنغير الموضوع ... لقد أكدتُ لوالدتك أن سارة فهمت خطأ ... و إن بدا عليها عدم الاقتناع ... لكن لندع الأمر ينتهي الآن ... "

    و أتيت و جلست قربها ... ثم اضطجعتُ مسترخية على السرير ...

    " إذن ... ماذا قررت ؟ مع دانة أم بعدها ؟؟ "

    تنهدت بانزعاج من الموضوع برمته ... قلت :

    " لم أقرر يا نهلة ... لماذا يطاردني الجميع بهذا السؤال ؟؟ "

    نهلة أمسكت بيدي اليمنى و أخذت تحرك خاتم الخطوبة حول إصبعي البنصر و تقول :

    " لأن هذا الخاتم سئم البقاء حول هذا الإصبع ! إنها أربع سنوات يا رغد ! "

    قلت :

    " لكنني لا أزال صغيرة ! ألا ترين ذلك ؟؟ أريد أن أتخرج من الجامعة أولا.. و أريد أن ... تتغير علاقتي بسامر فأنا لا أشعر بشيء مميز تجاهه "

    كنت أنظر إلى السقف ، و لكن رأس ابنة خالتي ظهر أمامي فجأة ... و أجبرني على النظر إلى عينيها ...

    قالت :

    " تقصدين لا تحبينه ... "

    و كان تقريرا إجباريا لا سؤالا ...

    التفت يمينا فأمسكت هي بوجهي و أعادته حيث كان و أجبرتني على النظر إلى عينيها الناطقتين بالحق ...

    " لا تهربي رغد ! أنت ِ لا تحبينه ! "

    استسلمت ... و غضضت بصري ... أتحاشى تلك النظرة الثاقبة الفاهمة ...

    نهلة هي أكثر شخص يفهمني و أبوح إليه بأسراري و كل ما يختلج مشاعري ...

    نهلة مسحت على رأسي بعطف و قالت :

    " رغد ... لا تتزوجيه إذا لم تكوني ترغبين في ذلك ... إنه كالأخ بالنسبة إليك ! أبقيه أخا فأنت بحاجة إليه كأخ لا كزوج ! "

    " نهلة ! ... "

    و ضربت أنفي بإصبعها ضربة خفيفة و هي تقول :

    " أليس كذلك ؟؟ "

    عدت أحدق بها ... في حيرة من أمري ...

    قلت :

    " من أتزوج إذن ؟؟ "

    هي ابتسمت و قالت بمكر :

    " أخي حسام ! "

    رفعت رأسي و صدمت جبينها بجبيني عمدا ثم جلست و أخذت هي تمثل دور المتألمة !

    " آه ... رأسي ! كسر في الجمجمة ! انجدوني ! "

    قلت بنفاذ صبر :

    " قلت لك ِ ! لا تتوبين !"

    قالت و قد بدت عليها الجدية الآن :

    " صدقيني يا رغد ... إنه مهووس بك ! "

    قلت :

    " و الآخر كذلك ! لم تظنينه يلح علي بالزواج ؟ إما أن نتزوج أو يفتش عن وظيفة أخرى تبقيه قربي ! "

    قالت ، تنظر إلي بعين شبه مغمضة و حاجبيها مرفوعين أقصاهما :

    " من مثلك ! عاشقان في وقت واحد ! يا للحظ ! كم أنا مسكينة ! "

    " قلت لك لا تتوبين ! أوه نهلة ! لسوف أطلب من خالتي التفتيش عن عريس لك حتى أتخلص منك كما تخلصت من دانة ! "

    ضحكت نهلة و قالت :

    " سأتزوج من شقيق زوجك حتى آتي للعيش معك ! لن تتخلصي مني ! "

    و استمرت في الضحك ...

    الجملة أثارتني كثيرا ... غضبت و قلت بانفعال لا يتناسب و دعابتها العفوية :

    " قلت لك دعي وليد و شأنه ... لا تأتي بذكر هذا ثانية أ فهمت ِ ؟؟ "

    نهلة ابتلعت ضحكتها و نظرت إلي بشيء من التعجب و الحيرة ...

    " ما الأمر رغد ! كنت أمزح ... لم انفعلت هكذا ؟؟ "

    خجلت من نفسي فأنا لا أعرف لم انفعلت بهذا الشكل بينما هي تمزح ليس إلا ...

    بل ، و حتى لو كان كلامها غير مزاح ... لم علي الانفعال هكذا ؟؟

    اعتقد أن وجهي تورد ... فنظرات نهلة توحي بأنها تلحظ شيئا غريبا على وجهي ...

    التفت نحو اليسار أخفي شيئا مما قد يكون ظاهرا على وجهي دون أن أملك القدرة على مواراته لكن توتري كان أوضح و أفصح من أن يغيب عن ذهن نهلة ... التي تعرفني عز المعرفة ...

    " رغد ... ماذا دهاك ؟؟ "

    " أنا ؟ لا شيء ... لا شيء "

    و الآن استدرت كليا ، و أوليتها ظهري ... بل و سرت نحو المجلة الموضوعة على المنضدة قرب سرير نهلة ... متظاهرة بالبرود ...

    قالت تحاصرني :

    " وليد غائب الآن ؟؟ "

    قلت :

    " لا ... عاد إلينا منذ يوم أمس الأول ... "

    و أمسكت بالمجلة ، و جلست على السرير ، و أخذت أقلب صفحاتها و ألْهي نفسي بالتفرج على الأزياء و المساحيق و العطور ... و حتى الأخبار السياسية و الرياضية ... و صور اللاعبين !

    " أوف ! "

    أغلقت المجلة بسرعة ، بعد أن وقعت عيناي على صورة نوّار يبتسم !

    يا إلهي ! كم أنفر من هذا الشخص ! رغم أنه محبوب من قبل الكثيرين و الكثيرات !

    " ماذا دهاك ؟؟ "

    " إنه ذلك المغرور ! من أمنيات حياتي ... أن أتصفح مجلة ذات يوم ثم لا أجد صورة له فيها ! يا له من شخص بغيض ! أتساءل ما الذي يجذب هؤلاء البشر إليه ؟؟ دانة المسكينة ! "

    " و لم مسكينة ..؟ ألست تقولين أنها تحبه ؟؟ "

    " كثيرا ! إنه سيعود الليلة من رحلته و ستقيم الدنيا و تقعدها من أجله ! لابد أنها الآن تعد أطباق العشاء و الكعك من أجله ! الحمد لله إنني لست معها في المطبخ هذه الساعة ! "

    و ضحكنا بمرح ...

    ثم قالت :

    " و خطيبك سيرحل اليوم ؟ "

    " نعم ... خلال ساعتين "

    " إذا ... ألا يجدر بك أن تكوني معه الآن ؟؟ "

    وقفت ... و سرت في الغرفة بضع خطوات حائرة ... فقد خرجت من منزلي منذ الصباح ، و هاهي الساعة تتجاوز الثالثة ظهرا ... و لابد أن سامر ينتظر عودتي الآن ...

    قلت :

    " إنه مع وليد ... الكل محتفٍ بعودته و مشغول به ! من سيذكرني هذه اللحظة ؟؟ "

    قالت :

    " هل سيرحل وليد عاجلا ؟ "

    " لا .. على ما أظن و أتمنى "

    " تتمنين ؟؟ "


    وقعت ُ في شركي ! قلت محاولة التصحيح و التعديل :

    " أقصد نتمنى جميعا ... فلا أحد يود رحيله و والداي سيحزنان كثيرا جدا كالمرة السابقة و التي سبقتها إن رحل ... أتمنى أن يستقر هنا و يريح الجميع "

    ربما كان الحمرة تعلو وجهي هذه المرة أيضا ...

    و الآن ... أي شيء أشغل يدي به تغطية على اضطرابي هذا ؟ ألا يوجد في الغرفة مجلة أخرى ...؟؟

    وقع بصري على مجموعة زجاجات العطر أمام مرآة الغرفة ، فذهبت أليها أشمها واحدة تلو الأخرى ...

    أقبلت نهلة و وقفت إلى جانبي ...

    قالت :

    " ربما لديه ارتباطات هامة هناك ! عمل ... منزل ... عائلة ... زوجة ! "


    استدرت إليها و قد اكفهر وجهي ... و قلت بسرعة :

    " إنه غير متزوج "

    " أحقا ؟؟ "

    كانت نظراتها تشكيكية مخيفة ! قلت :

    " طبعا ! و هل تظنين أنه سيتزوج دون إبلاغنا ! مستحيل ! ما يبقيه هناك هو العمل ... ليته يجد فرصة للعمل هنا و يستقر معنا ... "

    قالت :

    " لتضمنوا عدم رحيله ... زوجوه ! "

    و أضافت و هي تبتسم بمكر :

    " أنتم الثلاثة في ليلة واحدة ! و نتخلص منكم ! "

    رفعتُ إحدى زجاجات العطر أمام وجهها بغتة و تأهبتُ لرش العطرعلى عينيها !

    " أوه لا لا رغد كنت أمزح ! "

    و فرّت و صرت أطاردها حتى جلسنا على السرير نضحك بشدة !

    بعد قليل ... قلت :

    " علي العودة للبيت ! سامر ينتظر اتصالي ! "

    و قمت ، متوجهة إلى الهاتف الموضوع على مكتب نهلة ...

    و اتصلت بالمنزل ... و إذا بالدماء تتصاعد من جديد و بغزارة إلى وجهي ... و نهلة تقترب مني و تراقبني ...

    " وليد ؟ إنها أنا "

    " ( مرحبا ... رغد ) "

    " إمم .. أود التحدث إلى سامر "

    " ( سامر ... أظنه يستحم الآن ! هل تريدين شيئا ؟ ) "

    " أأأ ... أريد أن يأتي إلي ّ ... هل لا أبلغته بأنني أنتظره ؟ "

    " ( حسنا ) "

    " شكرا "

    " العفو ... صغيرتي "



    و أغلقت السماعة بصعوبة ... فقد كانت يدي ترتجف !

    و بدأت أتنفس بعمق و أشعر بالحر ... و أيضا ... أتصبب عرقا !

    نهلة وقفت أمامي مباشرة تشاهد الاضطراب الذي اعتراني فجأة ... بحيرة و فضول

    " رغد ... "

    " نعم ؟؟ "

    " لماذا تنفعلين كلما جيء بذكر وليد !؟ "

    " أنا ؟؟ من قال ذلك !؟ "

    و مدت نهلة يدها و تحسست جبيني براحتها ...

    " إنك تغلين ! وجهك أحمر ناضج و جبينك مبلل بالعرق ! "

    أربكتني كثيرا كلمات نهلة ... و حاولت التملص من نظراتها لكنها حاصرتني ...

    ابتعدت عنها و ذهبت إلى حيث أضع عباءتي لأرتديها استعدادا للمغادرة !

    " و لكن خطيبك لم يحضر بعد ! "

    " سأستعد ... "

    كنت أريد أن أنشغل بشيء بعيدا عن نظرات نهلة التي تخترق أعماقي ...

    كنت أضبط حجابي مولية إياها ظهري ...

    قالت :

    " خطيبك شاب جيد يستحق فتاة رائعة مثلك ! "

    تابعت ترتيب حجابي دون أن أعير جملتها هذه اهتماما ...

    قالت :

    " و أخي شاب جيد و يستحق فتاة رائعة مثلك ! "

    و لم ألتفت إليها ! حتى لا أدع لها مجالا لفتح الموضوع مجددا !

    و تابعت ارتداء عباءتي ...

    " و وليد شاب جيد و يستحق فتاة رائعة مثلي ! "

    استدرت فجأة نحو نهلة ... باضطراب و توتر و انزعاج جلي شديد ! ...

    اصطدمت نظراتنا الحادة العميقة ... و بقينا لبضع ثوان نحملق في بعضنا البعض ...

    نهلة أوقعت بي ...

    إنها خبيثة !

    كنظراتها التي ترشقني بها الآن ...

    أتت نحوي ... و رفعت يدها و أمسكت بعباءتي و سحبتها ...

    " رغد يا ابنة خالتي العزيزة ... لن تخرجي من هنا حتى أعرف ما حكايتك مع وليد ! "

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
    بعد عشر دقائق كنت أجلس في السيارة إلى جانب سامر ...

    " هل تحبين أن نتجول قليلا قبل العودة ؟؟ "

    " كما تشاء "

    قضينا قرابة الساعة نجول في شوارع المدينة ... و نتبادل الأحاديث ...

    سامر ... و الذي لم يجد الفرصة السانحة قبل الآن لفتح الموضوع ، سرعان ما تطرق إليه ...

    " الوقت يمضي يا رغد ... لقد بدأت أضيق ذرعا بالوحدة هناك ... لا أريد أن أخسر وظيفة ممتازة كهذه ، لكنني لا أريد أن أبقى بعيدا أطول من ذلك ... "

    حرت و لم أجد تعقيبا ملائما ... و ربما صمتي أحبط سامر ... ففقد حماسه للمتابعة بعد بضع جمل ...

    حينما وصلنا إلى المنزل ، وجدنا والدي ّ و وليد يجلسون في الفناء الخارجي ، حول الطاولة الصغيرة القريبة من الشجرة الطويلة ، بجانب الباب الداخلي ...

    كان الجو جميلا ... و العصافير تغرد بحماس على أغصان الشجرة ... و الدخان يتصاعد من أقداح الشاي الموزعة على الطاولة ...

    سامر كان يمسك بيدي ، ثم أطلقها و سار نحوهم بسرعة ...

    " شاي أم وليد ! أين نصيبي ؟؟ "

    و انضم إليهم ...

    ألقيت نظرة على وليد فرأيته ينظر نحوي و لكن سرعان ما بدد نظراته نحو الفراغ ... لم يكن يريد النظر إلي ...

    علي أن أنصرف قبل أن ينهض مغادرا ظانا بأنني سأنضم إليهم ...

    توجهت نحو الباب و دخلت إلى الداخل ...

    كنت بالفعل أتمنى أن أشاركهم ! و لكن لو فعلت ... فبالتأكيد سيغادر وليد ...

    ما أن دخلت حتى وصلتني رائحة الكعك الشهية ! و سرت إلى المطبخ !

    " دانه ! رائحة كعكتك زكية جدا ! دعيني أتذوقها ! "

    " عدت ِ أخيرا ! لا يا عزيزتي ! هذه لنوّار و نوّار فقط ! "

    " و هل سيأكل الكعكة كاملة ! مسكين ! كيف سيلعب إذا انفجرت معدته ؟ "

    نظرت إلي ّ بانزعاج و صرخت :

    " رغد ... انصرفي فورا ! "

    ضحكت و خرجت ، متوجهة إلى غرفتي حيث وضعت حقيبتي و عباءتي ، و وقفت أمام المرآة أتأمل وجهي ...

    لم يكن الإفلات من محاصرة نهلة سهلا ... أي حكاية لي مع وليد ؟؟؟ ما أكثر الحكايات !

    أريد أن أنضم إليهم !

    على الأقل ... سأراقبهم من النافذة !

    و بسرعة خرجت من غرفتي قاصدة الذهاب إلى النافذة المشرفة على الفناء الأمامي ... حيث هم يجلسون ...

    من تتوقعون صادفت في طريقي ؟؟

    نعم وليد !

    دخل للتو ... و حينما رآني توقف برهة ... ثم سار مغيرا طريقه ...

    ربما كان يود القدوم من ناحيتي إلا أنه غير مساره و انعطف ناحية المطبخ ...

    ألهذا الحد لا يريد أن يراني أو حتى يمر من ممر أقف أنا فيه ؟؟

    " وليد "

    ناديته بألم ... إذ أن تصرفه هذا جرحني ...

    لم يلتف إلي ، و رد ببرود :

    " نعم ؟ "

    تحشرج صوتي في حنجرتي ... و بصعوبة نطقت ، فجاء صوتي خفيفا ضعيفا لم أتوقع أنه سمعه ... لكنه سمعه !

    " أريد أن أتحدث إليك "

    " خيرا ؟ "

    كل هذا و هو مدير ظهره إلي ... أمر ضايقني كثيرا ...

    " وليد ... أنا أحدثك ! أنظر نحوي ! "

    استدار وليد بتردد ، و نظر إلى عيني نظرة سريعة ثم طارت أنظاره بعيدا عني ...

    كم آلمني ذلك ...

    قلت :

    " لماذا لا تود التحدث معي ؟؟ "

    بدا مضطربا ثم قال :

    " تفضلي ... قولي ما عندك "

    و تنهد بضيق ...

    قلت بمرارة :

    " إذا كنت لا تود الاستماع إلي ... و لم يعد يهمك أمري ... فلا داعي لقول شيء "

    وليد التزم الصمت ...

    ثم و بعد أن طال الصمت بنا ، استدار راغبا في الانصراف ...

    أنا جن جنوني من إهماله لي بهذا الشكل ... و أسرعت نحوه و قبضت على يده و قلت بحدة و مرارة :

    " انتظر ... "

    وليد سحب يده و استدار نحوي بغضب ... و رأيت النار تشتعل في عينيه ... كان مرعبا جدا ...

    الدموع تغلبت علي الجفون ... و تحررت من قيودها و شقت طريقها بإصرار و شموخ على الخدين ...

    وليد توتّر ... و تلفت يمنة و يسرة ... ثم قال :

    " لماذا تبكين الآن ؟؟ "

    قلت بعدما أغمضت عيني أعصر دموعها ... ثم فتحتهما :

    " لماذا لم تعد تهتم بي ؟ لماذا تتحاشاني ؟ لماذا تعاملني بهذه الطريقة القاسية و كأنني لا أعني لك شيئا ؟؟ "

    الرعب ... و الذعر و الهلع ... أمور أثارتها نظراته الحادة المخيفة التي رماني بها بقسوة ... قبل أن يضربني بكلماته التالية :

    " يا ابنة عمي ... لقد كبرت ِ و لم تعودي الطفلة المدللة التي كنتُ أرعاها ... أنت ِ الآن امرأة بالغة ... و على وشك الزواج ... لدي حدود معك ِ لا يجوز تخطيها ... و لديك سامر ... ليهتم بأمرك من الآن فصاعدا "

    و تركني ... و سار مبتعدا إلى الناحية التي كان يريد سلكها قبل ظهوري أمامه ...

    اختفى وليد ... و اختفت معه آمال واهية كانت تراودني ... وليد الذي تركني قبل تسع سنين ، لم يعد حتى الآن ..

    مسحت بقايا دموعي و آثارها ... و خرجت إلى حيث كان والدي ّ و سامر يجلسون حول الطاولة ...

    أقبلت نحوهم فوقف سامر مبتسما يزيح الكرسي المجاور له إلى الوراء ليفسح المجال لي للجلوس ...

    سامر ... كان دائما يعاملني بلطف و اهتمام بالغ ، و يسعى لإرضائي و إسعادي بشتى الوسائل ...

    اقتربت من سامر و نقلت بصري منه ، و إلى والديّ ، ثم إلى أكواب الشاي و الدخان الصاعد من بعضها ... ثم إلى الخاتم المطوق لإصبعي منذ سنين ... ثم إلى عيني سامر اللتين تراقباني بمحبة و اهتمام ... ثم قلت :

    " سامر ... لقد اقتنعت ... سنحتفل مع دانه "
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty الحلقة التاسعة عشرة

    مُساهمة  littledoctor الثلاثاء 19 يوليو 2011 - 0:38


    الحلقةالتاسعةعشرة
    *****************


    كنت قد دخلت إلى داخل المنزل لإحضار سيجارة ...

    فكلما شعرت بالضيق ، عكفت على التدخين بشراهة ...
    و رؤية رغد و سامر يقبلان نحونا ... و أصابعهما متشابكة جعلت شعبي الهوائية تنقبض و تنسد ...

    سامر جلس معنا ، و ذهبت رغد إلى الداخل ...

    بعد قليل دخلت ُ قاصدا الذهاب إلى غرفة سامر و إحضار السجائر ، فرأيتها أمامي ...

    الغضب الذي كان يسد شعبي مع ذلك الهواء خرج فجأة باندفاع مصبوبا عليها ... فتحدثت معها بقسوة رافضا الإصغاء إلى ما كانت تود إخباري به ...

    الآن أنا في الغرفة أشعر بالندم ...

    لماذا أصبحت أعاملها بهذه الطريقة ؟؟

    أليست هذه هي رغد ... طفلتي الحبيبة المدللة ؟؟

    رغد ...

    أتسمعون ؟؟

    أتدركون ؟؟

    إنها رغد ! رغد !

    حملت سجائري و ذهبت في طريقي إلى الخارج ...

    عند عبوري الممر قرب المطبخ لمحت أختي دانه ، و كانت ترتدي مريلة خاصة بالمطبخ و توشك على المسير نحو الباب ...

    " وليد ! ... أوه سجائر ! "

    ثم مسكت أنفها بإصبعيها كمن يمنع رائحة كريهة من اقتحام أنفه !

    " لن أدخن هنا ! "

    قالت :

    " أنا أيضا ذاهبة لوداع سامر ! رغد الكسولة تركتني أعمل وحدي ! "

    و خرجنا سوية ...

    رغد كانت تجلس قرب سامر ... الذي يبدو على وجهه الانفعال و السرور !

    قالت دانة :


    " آسفة سامر سأودعك الآن و أعود للمطبخ ! "

    و وجهت كلامها إلى رغد :

    " فالكسالى يجلسون هنا ! و لكن بعد أن أتزوج ستقع على رؤوسهم أعمال المنزل رغما عنهم ! "

    سامر ضحك ، و كذلك والدي ... أما رغد فألقت نظرة لا مبالية على دانة ثم أخذت تشرب الشاي ...

    والدتي قالت :

    " بل على رأسي أنا ! فأنتما ستخرجان من هنا في ليلة واحدة ! "

    أنا صعقت ... و اكفهر وجهي ... و حملقت في رغد ... أما دانة فقالت :

    " ماذا ... أمي ؟؟ هل ...؟؟ "

    سامر قال :

    " قررنا أخيرا !! "

    دانة سارت نحو رغد ببهجة فوقفت الأخرى و تعانقتا ...

    " أيتها الخبيثة ! هل تريدين سرقة الأضواء مني ؟؟ "

    و ضحكتا بمرح ...

    ثم عانقت دانة سامر و تمتمت ببعض الكلمات ، ثم ودعته و عادت إلى الداخل ...


    " يجب أن أغادر الآن ! "

    قال ذلك سامر ... فوقف والداي ، فاحتضنهما و قبل رأسيهما ...

    ثم أمسك بيدي رغد ، و ضمها إليه في عناق طويل ...

    كل هذا و أنا واقف كالشجرة التي إلى جانبي ... أشعر بالصواعق تضربني من كل جانب ، و أعجز عن فعل شيء ...

    و الآن ... يقبل الخائن نحوي أنا ... يريد توديعي ...

    ابتعد يا سامر فأنا أشعر برغبة جنونية في ضربك ! و لا أعرف أي قوة امتلكت لحظتها و منعت يدي من أن تحطم وجهه ...

    صافحته و عانقته عناقا باردا خال من أية مشاعر ... و تركته يذهب ...

    بعدما خرج ، تجاوزت الطاولة و من يجلس حولها ، و وقفت بعيدا لئلا أزعج أحدا بدخان سجائري ...

    كنت أسمع أصوات الثلاثة ، أبي و أمي و الخائنة يتحدثون عن أمور الحفلة و الإعداد لها ...

    و كنت أشعر بأن طبقة سميكة من الإسمنت قد صبت على صدري و يبست و كتمت أنفاسه ...

    أمي ذهبت بعد ذلك للمطبخ لتساعد دانة ، و بقي والدي مع رغد ...

    كنت أختلس نظرة ناحيتهما من حين لآخر ... والدي كان يجلس موليا ظهره إلي أما الخائنة فكانت تواجهني

    و لم يحدث أن التفت ُّ إلا و اصطدمت نظراتنا ، فزادت الإسمنت على صدري طبقة بعد طبقة ...

    والدي تلقى مكالمة عبر هاتفة المحمول ، ثم انصرف إلى الداخل ...

    و بقيت صغيرتي وحدها تشرب الشاي ... توقفت عن الالتفات إلى الوراء ... و شردت في اللاشيء الذي لا أراه أمامي ...

    و الآن شعرت بحركة خلفي ... و بقيت كما أنا أرتقب ... و ظهر ظل أمامي يكبر و يكبر ... و الفتاة الواقفة خلفي تقترب و تقترب ... و الآن توقفت ...

    لثوان معدودة ... ظلت رغد واقفة خلفي و أنا لا أملك من الشجاعة و القوة ما يمكنني من الاستدارة إليها ... و لكني أرى ظلها أمامي ... و أرى يدها تتحرك نحوي ... ثم تتراجع ... ثم تستدير ... ثم تنسحب ...

    عندما ابتعدت استدرت أنا للخلف و رأيتها و هي تسير مبتعدة و يدها تمسح ما قد يكون دموعا منسكبة على وجهها ...

    مددت يدي ... أريد أن أمسك بها ... أمسك بظلها ... أمسك بطيفها ... أمسك بدمعها ... أمسك بذرات الهواء التي لامستها ... و اختفت رغد ... و عادت يدي فارغة لم تجني غير الحسرة و الألم ...

    عندها ، تلوّت معدتي أيما تلوي ... و عصرت كما تعصر الملابس المبللة باليدين ...

    في تلك الليلة ، حضر نوّار خطيب شقيقتي و قد جالسته لبعض الوقت ...

    و رغم أنه دمث الخلق ، إلا أن نفسه لا تخلو من الغرور و التعالي ... و قد أحرجني لدى سؤاله لي عن دراستي المزعومة و أعمالي و خبراتي المعدومة !

    و كنت أختصر الإجابات ببعض جمل غامضة ، و سرعان ما انسحبت تاركا الخطيبين يستمتعان بعشائهما ...

    و لشدة الآلام ـ الجسدية منها و النفسية ـ فإنني اكتفيت بقدر يسير من الطعام ... و ذهبت إلى غرفة سامر متحججا بالنعاس ...

    رغد لم تكن قد شاركتنا الوجبة ، فلا أظنها تفكر في فعل ذلك بعد الطريقة الفظة التي عاملتها بها ...

    الندم يقرصني و يوخز جميع أعصابي الحسية ... إضافة إلى آلام المعدة الحادة ...

    و مرة أخرى خرجت الدماء من جوفي و زادت قلقي ... لابد أنني مصاب بمرض ... و لابد لي من مراجعة الطبيب ...

    على السرير تلويت كثيرا حتى قلبت المفارش و البطانيات و الوسائد رأسا على عقب ...

    أفكاري كانت تدور حول رغد ... كيف لي أن أهدأ لحظة واحدة ... و موعد زفافها قد تحدد !

    لو كان باستطاعتي تأجيله قرنا بعد ... فقط قرن واحد ... أضمن فيه أنها تبقى معزولة عن أي رجل ... و تموت دون أن يصل إليها أحد ...

    أخرجت صورة رغد الممزقة و جعلت ألملم أجزاءها ، و أتاملها ، ثم أبعثرها من جديد
    و أعود لتجميعها كالمجنون ...

    نعم مجنون ... لأن تصرف كهذا لا يمكن أن يصدر من كائن عاقل ...

    تركتها ملمومة على المنضدة التي بجواري ... و قمت أذرع الغرفة ذهابا و جيئة كبندول الساعة !

    اقتربت الساعة من الواحدة ليلا ... و أنا ما بين آلم معدتي الحارق و ألم قلبي المحترق ... حتى رغبت في تناول أي شيء من شأنه أن يهدئ الحريق المشتعل بداخلي ...
    و تنفُّس أي شيء يطرد الضيق من صدري ...

    أخذت علبة سجائري ... و خرجت من الغرفة ... تاركا الباب مفتوحا ...

    ذهبت أولا إلى المطبخ و حملت علبة حليب بارد معي فقد لاحظت تأثيره المهدئ على معدتي ، و خرجت إلى الفناء ... و بدأت بشربه و التدخين معا ...

    ~ ~ ~ ~ ~ ~

    لا أستطيع أن أنام و أنا أفكر ... و أفكر و أفكر ... فيما قاله وليد لي ... و الصداع يشتد لحظة بعد أخرى ...

    كم آلمني ... أن أكتشف أنه لم يعد يهتم بي أو يرغب في رعايتي كالسابق ...

    لقد تغير وليد ... و أصبح قاسيا و مخيفا ... و غريبا ...

    كنت أبكي حسرة و مرارة ... فأنا فقدت شيئا كان يشغل حيزا كبيرا من حياتي ...
    و منذ ظهوره ، و أنا في صراع داخلي ...

    بقيت فترة طويلة أتأمل صورته التي رسمتها قبل شهور ... و لم أتمها ...

    و إذا بي أرى نفسي ألّون بياض عينيه باللون الأحمر الدموي ... ! غضبا و حسرة ...

    صار مخيفا ... مرعبا ...

    دانه كانت تمضي وقتا غاية في السعادة و المتعة مع خطيبها الذي تحبه ... و هذا يجعلني أتألم أكثر ... لأنني لا أحظى بالسعادة التي تحظى بها ... و لا أشعر بالمشاعر التي تشعر هي بها تجاه خطيبها ...

    غدا هو يوم دراسة ، و يجب أن أنام الآن و إلا فإنني سأنام في القاعة وسط الزميلات !

    خرجت من غرفتي و في نيتي ابتلاع قرص مسكن من الأقراص الموجودة في الثلاجة ، و فيما أنا أعبر الردهة لاحظتُ باب غرفة سامر مفتوحا ...

    تملكني الفضول !
    سرت بحذر و هدوء نحو الغرفة !
    وقفت على مقربة و أصغيت جيدا ... لم أسمع شيئا ...

    اقتربت أكثر خطوة بعد خطوة ، حتى صرت عند فتحة الباب ، و أطللت برأسي إلى الداخل بتهور ... لكني لم أجد أحدا !

    عندها فتحت الباب على مصراعيه بسرعة ... و بذعر و هلع صحت :

    " وليد ! "

    قفزت و أنا أركض كالمجنونة ... أجول في أنحاء المنزل و في رأسي الاعتقاد الصاعق بأن وليد قد فعلها و رحل خلسة ...

    الدموع تسللت من عيني من شدة ما أنا فيه ، و شعرت برجلي ّ تعجزان عن حملي فصرت أترنح في مشيتي مخطوفة الفؤاد ... منزوعة الروح ...

    و انتهى بي الأمر إلى باب المدخل ...

    وقفت عنده و مسكت قبضته و ركّزت كل ثقلي عليها لتدعمني لئلا أقع ... فإن انفتح الباب ... فلا شك أن وليد قد غادر و تركه مفتوحا ...

    و انفتح الباب و انهرت أنا مع انفتاحه ...

    لقد فعلها و فر خلسة دون وداعي ... خارت قواي و أخذت أبكي و أنحب بصوت عال ...

    " لماذا ؟ لماذا يا وليد لماذا ؟؟ "

    فجأة ... ظهر شيء أمامي !

    كنت أجلس عند الباب بلا حول و لا قوة ... و شعرت بشيء يتحرك فأصابني الذعر الشديد ... فإذا به وليد يظهر في المرأى ...

    " رغد !!؟ "

    لم أصدّق عيني ... هل هذا شبح ؟؟ أم حقيقة ؟؟

    جسم كبير ... طويل عريض ... متخف في الظلام ... يتقدم نحوي ... لا يُرى شيءٌ منه بوضوح غير لهيب السيجارة التي بين إصبعيه ...

    " رغد ... ما ... ماذا تفعلين هنا ...؟؟ "

    و كدمية كهربائية قد فُصِل سلكها عن المكبس ، شللت ُ عن الحركة ...

    حتى رأسي الذي كان ينظر إلى الأعلى ... الأعلى .. حيث موضع عيني وليد ، هوى إلى الأسفل ... متدليا على صدري سامحا للدموع بأن تبلل الأرض ...

    لم أجد في بدني أي مقدار من القوة لتحريك حتى جفوني ...

    وليد وقف مندهشا متوجسا برهة ... ثم جلس القرفصاء أمامي ... و قال بصوت حنون جدا ...

    " صغيرتي ... ؟؟"

    الآن ... كسبت من الطاقة ما مكنني من رفع رأسي للأعلى و النظر إليه ...

    و بقيت أنظر إلى عينيه و تحجبني الدموع عن قراءة ما فيهما ...

    " ما الذي تفعلينه هنا ؟؟ "

    " هل تريد الرحيل دون وداعي ؟؟ "

    لم تخرج الكلمات كالكلمات ... بل خرجت كالبكاء الأجش ...

    " الرحيل ؟؟ من قال ذلك ؟؟ "

    " ألست ... ألست تريد الرحيل ؟؟ "

    " لا ... خرجتُ أدخّن ! ... لكن ... ما الذي تفعلينه أنت هنا في هذا الوقت ؟؟ "

    أخذت نفسا عميقا و أطلقت الكلمات التالية باندفاع و بكاء :

    " ظننت أنك رحلت ... دون علمي و وداعي ... كما فعلت قبل سنين ...
    تركتني وحيدة ... في أبشع أيام حياتي ... "

    مد وليد يده فجأة و بانفعال نحوي ، ثم أوقفها في منتصف الطريق ، و سحبها ثانية ...

    قلت :

    " حتى لو لم أعد أعني لك شيئا ... لا ترحل دون علمي يا وليد ... أرجوك لا تفعل ... عدني بذلك ... "

    وليد ظل صامتا لا يجرؤ على شيء سوى الإصغاء إلي ...

    قلت :

    " عدني بذلك وليد أرجوك ... "

    هز رأسه إيجابا و قال :

    " أعدك .. "

    نظرت إليه بتشكك ... كيف لي أن أثق بوعوده ... ؟؟ ...

    قلت :

    " اقسم "

    وليد تردد قليلا ثم قال :

    " أُقسِم ... لن أرحل دون علمك ... صغيرتي ... "

    شعرت بالراحة لقسمه ... و سحبت نفسا عميقا ليهدئ من روعي ...

    وليد حملق بي قليلا ثم وقف ... و رفع سيجارته إلى فمه و سحب بدوره نفسا عميقا ...

    وقفت أنا ، و سمحت للباب الذي كنت أستند عليه و أحول دون انغلاقه أن ينغلق

    نفث هو الدخان للأعلى ، ثم قال و هو لا يزال ينظر عاليا :

    " لم استيقظت الآن ؟؟ "

    قلت ، و أنا أراقب الدخان يعلو و ينتشر ...

    " لم أنم بعد "

    قال :

    " لم ؟ ألن تذهبي غدا إلى الكلية ؟ "

    قلت :

    " بلى ... لكن ... لدي أرق "

    و صمت ...

    ثم سألته :

    " و أنت ؟ "

    قال :

    " كذلك ، لذا خرجتُ أدخن ... في ساعة كهذه "

    قلت :

    " هل ... يريحك التدخين ؟؟ "

    وليد لم يجب مباشرة ، ثم قال :

    " نعم ... إلى حد ما ... يرخي الأعصاب ... "

    قلت :

    " دعني أجرب ! "

    وليد التفت إلي بدهشة و نظر باستغراب !

    " ماذا ؟؟ "

    " أريد أن أجرب ! "

    اعتقد أنها ابتسامة تلك التي ظهرت على إحدى زاويتي فمه !

    قال :

    " هل تعنين ما تقولين ؟؟ "

    " نعم ... أتسمح ؟؟ "

    وليد هز رأسه اعتراضا و قال :

    " لا ... لا أسمح "

    " لم ؟ "

    " لا أسمح لشيء كهذا بدخول صدرك ... "

    " لكنه يدخل صدرك ! "

    قال :

    " أنا صدري اعتاد على حمل السموم و الهموم ... "

    ثم رمى بالسيجارة أرضا و سحقها تحت حذائه ...

    و علت وجهه علامات التألم ، و ضغط بيده على بطنه و قال :

    " لندخل "

    و حينما دخلنا ، قال :

    " تصبحين على خير "

    و اتجه نحو المطبخ ...

    أنا تبعته إلى هناك فرأيته يخرج علبة حليب بارد و يجلس عند الطاولة و يرشف منها ...

    و بعد رشفة أو رشفتين سمعته يتأوه ... و يسند رأسه إلى الطاولة في وضع يوحي للناظر إليه بأنه يتألم ...

    دخلت المطبخ ... فأحس بوجودي ... فرفع رأسه و نظر إلي ...

    " ألن تخلدي للنوم ؟ الوقت متأخر "

    شعرت بقلق شديد عليه ... قلت :

    " ما بك ؟؟ "

    أبعد نظره عني و قال :

    " لا شيء "

    لكني كنت أرى الألم باد على وجهه ... و عاد يشرب الحليب جرعة بعد جرعة ...

    " وليد ... هل أنت مريض ؟؟ "

    تنهد بنفاذ صبر و شرب بقية الحليب دفعة واحدة ، ثم نهض ... و خطا نحوي ...

    " تصبحين على خير "

    و تجاوزني ، و ذهب إلى غرفة سامر ... و أغلق الباب ...

    ~ ~ ~ ~ ~ ~

    صحوت من النوم على صوت والدتي توقظني من أجل تأدية صلاة الفجر ...

    كنت قد نمت قبل ساعة و نصف ، و أشعر بإعياء شديد ...

    أفقت من النوم فوجدتها واقفة قربي ... نهضت و ذهبت للتوضؤ ، و عندما عدت وجدتها لا تزال واقفة عند نفس المكان تنظر إلى المنضدة ...

    ما إن أحست بوجودي حتى استدارت نحوي بسرعة ، و قالت :

    " والدك ينتظرك ... "

    ثم خرجت من الغرفة ....

    ألقيت نظرة على المنضدة التي كانت أمي تراقبها قبل مجيئي ... فإذا بي أرى صورة رغد الممزقة ... التي نسيتُ إعادتها إلى محفظتي ليلا ...

    شعرت بالقلق ... لابد أن أمي رأت الصورة واضحة ... و لابد أن شكوكا قد راودتها

    إلا إذا كان احتفاظ رجل بصورة ممزقة لطفلة كان متعلقا بها بجنون ... هو أمر مألوف و مشهد تراه كل يوم ... !

    أدينا الصلاة في مسجد قريب و عدت إلى السرير و نمت بسرعة قياسية ...

    عندما نهضت ، كان ذلك قبيل الظهر و لم يكن في البيت غير والدتي ، فوالدي في مكتبه ، و رغد في الكلية ، و دانه مدعوة للغداء في مطعم ، مع خطيبها ...

    أمي لم تشر إلى أي شيء بحيال تلك الصورة ... لذا ، تجاهلت الأمر ... و أقنعت نفسي بأنها نسيت أمرها ...

    لم أرَ صغيرتي ذلك النهار ، إذ يبدو أنها عادت من الكلية عصرا و ذهبت للنوم مباشرة في وقت كنت أنا فيها مشغول بشيء أو بآخر ....

    و في الليل ... و قبل ذهابي إلى غرفة المائدة لتناول العشاء ، مررت بالمطبخ فرأيت صغيرتي تأكل وجبتها منفردة هناك ...

    عندما رأتني توقفت عن الأكل و انخفضت بعينيها إلى مستوى الأطباق ... في انتظار مغادرتي ...

    آلمني أن أراها وحيدة هكذا فيما نحن مجتمعون معا ... قلت :

    " تعالي و انضمي إلينا "

    رغد حملقت بي قليلا متشككة ثم سألت :

    " ألا يزعجك ذلك ؟؟ "

    قلت :

    " لا ... صغيرتي "

    و سرعان ما حملت أطباقها و طارت إلى غرفة المائدة ... بمنتهى البساطة !

    فيما نحن نتحدث عن أمور شتى ، قال والدي :

    " أيمكنك يا وليد اصطحاب رغد من و إلى الجامعة يوميا ؟؟ إن تفعل تزيح عن عاتقي مشوارا مربكا "

    و لأنه لم يكن لدي ما أقوم به ، لم أجد حجة تمنعني من الموافقة ... لكن بعض الاستياء ظهر على وجه والدتي ... أنساني إياه البهجة التي ظهرت على وجه رغد ... أو ربما توهمت أنها ظهرت على وجه رغد !

    في اليوم التالي كان علي أن أنهض باكرا من أجل هذه المهمة ، و رافقتنا والدتي هذه المرة ....

    المشوار كان يستغرق قرابة العشرين دقيقة .

    رغد كانت تركب المقعد الخلفي لي ، ذهابا و إيابا ... و كانت تلتزم الصمت معظم المشوار إلا عن تعليقات بسيطة عابرة ...

    في المساء ، كنا نقضي أوقاتا ممتعة في مشاهدة أحد الأفلام ، أو مزعجة في متابعة الأخبار و ما آلت إليه الأوضاع الأخيرة ، أو محرقة في الحديث عن الزفاف المرتقب ...

    أتناول وجباتي معها ... آخذها إلى الجامعة أو أي مكان تود ... أتبادل بعض الأحاديث معها بشأن دراستها و ما إلى ذلك ... أتفرج على لوحاتها الجديدة ...
    أرافقها هي و دانة و أمي إلى الأسواق ... أنصت باهتمام كلما تحدثت و أراقبها دون أن أشعر كلما تحركت ...

    كل هذا ... قد أثار جنوني ... و ذكريات الماضي ... فصرت أشعر بأنها عادت لي ... طفلتي الحبيبة التي أعشقها و أعشق رعايتها ...

    أخذني جنوني إلى التفكير بعدم الرحيل ...

    كيف لي أن أبتعد عنها و أنا متعلق بها بجنون ...

    كيف لي أن أسمح للمسافات و الزمن بتفريقنا ؟؟؟
    إنني سأبقى حيث تكون رغد ... لأنه لا شيء في هذه الدنيا يهمني أكثر منها هي ...
    سأبحث عن عمل ، و استقر هنا إلى جانبك ...

    سأبقى قربك يا رغد ... نعم قربك يا صغيرتي الحبيبة ...

    ثم ... و باتصال هاتفي واحد من سامر ... يتحطم كل شيء ، و أسقط من برج الأوهام الطرية ، إلى أرض الواقع القاسية الصلبة ... و يتدمر كل شيء ...

    لم تكن صغيرتي تملك هاتفا في غرفتها ، لذلك فإن مكالماتها تكون على مرأى و مسمع من الجميع ... و كلما تحدثت إلى سامر غمرتني رغبة في تقطيع أسلاك الهاتف و الكهرباء ... في المنزل برمته !

    في أحد الأيام ، كنت ذاهبا لإحضارها من الجامعة ، و صادف أن الشارع كان مزحوما و شبه مسدود بسبب حادث مروري ...

    طال بي المشوار و أنا أسير ببطء شديد بسبب الحادث ... و عوضا عن الوصول خلال 20 دقيقة وصلت بعد 40 دقيقة على الأقل ...

    عادة ما تكون صغيرتي تنتظرني عند الموقف حيث تقف الطالبات ، إلا أنني الآن لم أجدها ...

    انتظرت بضع دقائق ، لكنها لم تخرج ... وقفت في مكاني حائرا

    ثم اتجهت إلى الحارس و أخبرته بأنني أنتظر قريبتي و لم أرها ، فطلب اسمها ثم اتصل برقم ما ، و بعدها بدقيقتين رأيت رغد تخرج من البوابة ... مع بعض الفتيات ...

    كنت لا أزال واقفا قرب الحارس ، نظرت هي باتجاهي و ظلت واقفة حيث هي ... و تتحدث إلى زميلاتها ...

    شكرت الحارس ثم تقدمت ُ إليها فودعتهن و أتت نحوي ...

    " أنا آسف ... تأخرت ُ بعض الشيء "

    " بل كثيرا "

    قالت بغضب ... ثم سارت نحو السيارة ...

    بعدما اتخذنا مقعدينا ، و قبل أن ننطلق عدت ُ أقول :

    " آسف صغيرتي ... "

    و لكنها لم تجب ، و فتحت نافذة السيارة لأقصى حد ... يبدو أنها مستاءة و غاضبة !

    و نحن نسير بالسيارة مررت من حارس الأمن ذاته فألقيت التحية عبر النافذة و انطلقت ...

    " كيف تلقي تحية على شخص بغيض و غير مهذب كهذا ؟؟ "

    تعجّبت من سؤالها ! قلت :

    " لم تقولين عنه ذلك ؟؟ "

    " كلما خرجت ُ لأرى ما إذا كنت َ قد وصلت َ أم لا ، وجدته ينظر باتجاه المدخل ... كان أجدر بك أن تصفعه ... لقد كنت أخرج فأجد والدي في انتظاري هنا كل يوم ... إياك و أن تتأخر ثانية "

    يا له من أسلوب !

    قلت :

    " حاضر ... أنا آسف "

    صمتت برهة ثم قالت :

    " و كذلك ابق هاتفك المحمول مشغلا ، كلما اتصلت وجدته مغلقا "

    و أخرجت هاتفي من جيبي فاكتشفت أنه كان مغلقا سهوا ...

    " حسنا ... لم انتبه له "

    و أيضا صمتت برهة ثم عادت تقول :

    " و لا تخرج من السيارة ... ابق حيث أنت و أنا سآتي إليك "

    عجبا لأمر هذه الفتاة ! قلت :

    " و لم ؟؟ "

    قالت بعصبية :

    " افعل ذلك فقط ... مفهوم ؟؟ "


    قلت باستسلام :

    " مفهوم ... سيدتي !! "

    لحظتها اجتاحتني رغبة بالضحك ، كتمتها عنوة !

    و توقفت عن الكلام ...

    و طوال الوقت ظلت صامتة بشكل لم يرحني ... لابد أنها لا تزال غاضبة لأنني تأخرت ...

    حينما شارفنا على بلوغ المنزل ... راودتني فكرة استحسنها قلبي و استسخفها عقلي ... لكنني قبل أن أقع في دوامة التردد طرحت السؤال التالي :

    " هل ... هل ترغبين ببعض البوظة ؟؟ "

    طبعا السؤال كان غاية في السخف و الحماقة ... لكنني كنت أسيرا للذكريات ... ففي تلك الأيام ... كنت أغدق العطاء بالبوظة و غيرها على صغيرتي كلما غضبت لإرضائها !

    شعرت بالندم لأنني تفوهت بهذه الجملة الغبية ... و كنت على وشك الاعتذار إلا أن رغد قالت بمرح و على غير ما توقعت :

    " نعم ... بالتأكيد ! "

    أوقفت السيارة عند محل لبيع البوظة ، قريب من المنزل ... و سألتها :

    " أي نوع تفضلين ؟؟ "

    قالت :

    " هل ستتركني وحدي ؟؟ سآتي معك "

    و فتحت الباب هامة بالنزول

    دخلنا المحل ، و كان يحوي عددا من الناس ، ما جعل رغد تسير شبه ملتصقة بي ...

    بعد ذلك ... انتهى بنا المطاف إلى المنزل ، و لو تركت الساحة لأحلامي لأخذتني مع صغيرتي في نزهة ... كما في السابق ...

    إلا أنني طردتها بعيدا و عدت بالصغيرة إلى المنزل ... و أنا مسرور و مرتاح ... فرائحة الماضي أنعشت رئتي ...

    ليت الأقدار لم تفرقني عنك يا رغد ...

    ليتك تعودين إلي !

    ليتنا نتناول البوظة أو البطاطا المقلية سوية ... كل يوم ...

    ما أجملها من لحظات ...

    و نحن نحمل البوظة اللذيذة برضا و سرور دخلنا إلى داخل المنزل ، ثم إلى غرفة المعيشة ... حيث فوجئت بالنار تصهر ما بيدي ... و ما بصدري ... و ما بجوفي و داخلي ...

    هناك كان سامر يجلس مع والدي ّ و دانة ...

    حضر على غير توقع و دون سابق إبلاغ ...

    حينما رآنا نهض بسرور و جاء يرحب بنا ...

    نصيبي من الترحيب كان محدودا ... مقابل نصيب الفتاة التي تقف إلى جواري ... تحمل البوظة في يد ، و الحقيبة في اليد الأخرى ...

    السعادة المؤقتة التي أوهمت نفسي بها تلاشت نهائيا ... و أنا أرى سامر يطوقها بذراعيه ...

    " اشتقت إليك عروسي ! "

    البوظة وقعت و لوثت الأرض ...

    بل قلبي هو من وقع أرضا و لوثت دماؤه الكرة الأرضية بأكملها ...

    انثنيت نحو البوظة المنصهرة أود التقاطها ...

    " دعها بني ، أنا سأرفعها "

    و أقبلت أمي لتنظف ما تلوث ...

    " ملابسك تلوثت وليد "

    " حقا ؟ سأذهب لتغييرها "

    أهي ملابسي من تأذت ؟؟

    و انصرفت مسرعا ... لا يحركني شيء غير الغضب و الغيرة المشتعلة في صدري ... و رغبة مجنونة في أن أوسع سامر ضربا ... إن بقيت انظر إليه دقيقة أخرى بعد ...

    محال أن أبقى في هذا المنزل ليلة أخرى ... و الليلة بالذات ... سأرحل و بلا عودة .

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    بدأت أشعر بأن وليد يهتم بي ... إلى حد ما ... و هو شعور جعلني أحلق في السماء ...

    و اليوم ، تأخر عن موعد حضوره للجامعة عصرا ، و بعدما وصل خرجت أنا و بعض زميلاتي كل واحدة في طريقها لسيارتها ...

    وليد كان يقف قرب حارس البوابة ... و هو شخص غير محترم ... نبغضه جميعنا..

    رأتني إحدى زميلاتي أنظر ناحية وليد فسألتني :

    " إلى من تنظرين !؟ "

    قلت باستياء :

    " من تظنين ؟ الحارس ؟ طبعا إلى ابن عمّي "

    قالت و هي تنظر إليه :

    " تعنين هذا الرجل ؟؟ "

    " نعم "

    قالت :

    " واو ! كل هذا ابن عمك !؟ حجم عائلي ! "

    و ضحكت هي و فتيات أخريات ضحكات خفيفة !

    و قالت أخرى :

    " ما شاء الله ! مع أنك صغيرة الحجم ! أنت و ثلاث أخريات معك مطلوبات من أجل التوازن ! "

    و ضحكن كلهن !

    قلت بغضب :

    " مهلا فليس هذا هو خطيبي "

    ثم ودعتهن على عجل و سرت نحوه ...

    عندما عدنا إلى البيت و نحن نأكل البوظة باستمتاع ، وجدت سامر هناك فدهشت ...

    لم يكن قد أبلغنا بأنه قادم ، كما و أنه غير معتاد على الحضور نهاية أسبوعين متتاليين !

    أخبرني في وقت لاحق بأنه اشتاق إلي .. و يريد أن نتحدث عن الزفاف المرتقب ، و الذي لم يسعه الوقت للحديث حوله في المرة الماضية ...

    قضينا أمسية عائلية هادئة لم يشاركنا فيها وليد معللا بآلام معدته المزعجة ...

    أظن أن السبب هو التدخين !

    في اليوم التالي ، أيقظتني أمي لتأدية صلاة الفجر ...

    عندما رأيتُ عينيها حمراوين متورمتي الجفون ، سألت بقلق :

    " أمي .. ماذا هناك ؟؟ "

    أمي مسحت براحتها على رأسي و قالت بحزن :

    " رحل وليد "

    جن جنوني ...

    و قفزت ... و ركضت خارجة من غرفتي ... إلى غرفة سامر ... فوجدتها خالية ... و جلت بأنحاء المنزل غير مصدقة و غير مقتنعة ... لا يمكن أن يكون قد رحل !

    لقد وعد بألاّ يرحل دون وداعي ...

    أقسم على ذلك ...

    تدفقت دموعي كمياه السد المتهدم ... تجري بعنف و تدمر كل أمل تصادفه في طريقها ... باب المنزل كان موصدا... والدي و سامر قد ذهبا للمسجد ... فتحت الباب ... و خرجت للفناء مندفعة ... ثم إلى البوابة الخارجية ... فتحت منها القدر الذي يكفي لأن أرى الموقف خال ٍ من أي سيارات ... استدرت ... و هرولت أقصد المرآب ... والدتي أوقفتني ... و أمسكت بكتفي ...

    " لا داعي يا رغد ... لقد ودعنا قبل قليل ... "

    لا !

    لا يمكن أن يفعل ذلك !

    لا يمكن أن يختفي من جديد ...

    صعقت ... و انتفضت أطرافي ... و صحت :

    " لماذا لم يودعني ؟؟ "

    أمي هزت رأسها بأسى ...

    صرخت :

    " لماذا يفعل بي هذا ؟؟ لماذا ؟؟ لماذا ؟؟ "

    و مسكت بعضدي أمي بقوة و انفعال ... و زمجرت بقوة و عصبية و بكاء أجش :

    " لماذا يعاملني بهذا الشكل ؟؟؟ لقد وعد بألا يرحل دون وداعي ... إنه كاذب ... كاذب ... كان يسخر مني ... كان يستغفنلي و يهديني البوظة ! ...
    كما فعل سابقا

    أنا أكرهه يا أمي ... أكرهه ... أكرهه ... أكرهه ... "
    littledoctor
    littledoctor
    مشرف المنتدى الأجتماعى
    مشرف المنتدى الأجتماعى


    المساهمات : 303
    تاريخ التسجيل : 10/05/2010

    رواية.. أنت لي Empty الحلقة العشرون

    مُساهمة  littledoctor الثلاثاء 19 يوليو 2011 - 1:14

    الحلقةالعشرون
    *************


    لم يكن العثور على مزرعة نديم بالأمر السهل ... قضيت وقتا لا بأس به في التفتيش ، خصوصا و أنا أقدم إلى هذه المدينة للمرة الأولى .
    المدينة الشمالية هي مدينة زراعية تكثر فيها الحقول و المزارع ، و بها من المناظر الطبيعية الخلابة ما يبهج النفس المهمومة و يطرد عنها الحزن ...

    كان الوقت ضحى عندما وصلت أخيرا إلى مزرعة نديم بعد مساعدة البعض .

    كنت مرهقا جدا ، فأنا لم أنم لحظة واحدة منذ نهضت صباح الأمس ... و لم أهدأ دقيقة واحدة مذ رأيت الخائنين يتعانقان أمامي..
    عدا عن هذا ، فإن معدتي لم ترحم بحالي و عذبتني أشد العذاب طوال هذه الساعات

    كانت مساحة المزرعة صغيرة ، محاطة بالسياج ، و بها الكثير من الأشجار المثمرة ...
    ركنت سيارتي جانبا و دخلت عبر البوابة الكبيرة المفتوحة ...
    كنت أسير ببطء و أراقب ما حولي ، و رأيت منزلا صغيرا في آخرها .
    فيما أنا أسير نحو المنزل لمحت سيدة تقف عند الأشجار ، و إلى جانبها عدة صناديق خشبية مليئة بالثمار ..
    كانت السيدة تقطف الثمار و تضعها في تلك الصناديق . و كانت ترتدي جلبابا واسعا و تلف رأسها بوشاح طويل ...
    اقتربت ببطء من السيدة و أصدرت نحنحة قوية للفت انتباهها .

    السيدة استدارت نحوي و نظرت إلي بتساؤل ، و من الوهلة الأولى توقعت أن تكون امرأة أجنبية ، في الأربعينات من العمر .

    قلت :
    " معذرة سيدتي ، إنني أبحث عن مزرعة السيد نديم وجيه و عائلته "
    قالت السيدة :
    " من أنت ؟؟ "
    أجبت :
    " أنا صديق قديم له ، أدعى وليد شاكر "
    تهلل وجه السيدة ، و قالت :
    " أنت صديق نديم ؟؟ "
    قلت :
    " نعم ... في الواقع كنت زميلا له في ... "
    و صمت ّ لحظة ، ثم تابعت :

    " في السجن "

    قالت :

    " أنا زوجة نديم ... أحقا تعرفه ؟ "

    " نعم ... سيدتي و هو من دلّني إليكم "

    قالت :

    " و أين هو الآن ؟؟ ألا يزال في السجن ؟؟ "

    صعقت لدى سماعي هذا السؤال و رفعت بصري إليها فوجدتها تكاد تخترقني بنظراتها القوية المهتمة جدا و القلقة ...

    عادت تكرر بخشية :

    " أما زال في السجن ؟؟ "

    رباه ! لقد قتِل نديم قبل سنين ! ألم يخبروا أهله بذلك ؟؟ بم أجيب هذه السيدة الآن ؟؟

    السيدة رفعت يدها إلى صدرها كمن يتوقع خبرا سيئا ، قرأته في عيني ...

    أنا هربت بعيني ... نحو أشياء عدة ... إلا أنني في النهاية عدت أواجه نظراتها الملهوفة ... و قلت بنبرة حزينة :

    " البقاء لله "

    السيدة هلعت ... و انفتحت حدقتاها على مصراعيهما و انفغر فاها ...

    ثم ضربت على صدرها ... و رأسها ... و صرخت :

    " يا ويلي "

    أنا كنت أريد أن ... أعتذر عن نقل خبر مفجع كهذا ... و لكني لم أعثر على الكلمات الملائمة ... كما و أنني شغلت بحالة السيدة المفجوعة ...
    فجأة ... ترنحت السيدة و هوت أرضا !

    اقتربت منها و قلت بصوت خائف قوي :

    " سيدتي ! "

    و ظهر لي أنها فقدت الوعي ...

    عدت أنادي دون جدوى ... ارتبكت و لم أعرف ما أفعل ...

    تلفت يمنة و يسرة و لم أجد أحدا ، و ناديت بأعلى صوتي :

    " أيسمعني أحد ؟؟ ساعدوني ... "

    و لم أسمع أو أرى أي تجاوب ... لم يكن في المزرعة على ما يبدو غير هذه السيدة ...

    ركضت بسرعة نحو ذلك المنزل و أنا أنادي :

    " أمن أحد هنا ؟ أرجوكم ساعدوني "

    وقفت أمام المنزل ثانية ، ثم اقتحمته !

    كنت أنادي و استنجد ... و كانت أبواب المنزل مفتوحة ...

    فجأة وصلني صوت ٌ من خلف أحد الأبواب :

    " من هناك ؟؟ "

    قلت بسرعة و اضطراب :

    " أسرعوا ... السيدة في الخارج فقدت وعيها "

    اندفع الباب منفتحا فجأة و بقوة كادت تصدّع الجدار الذي اصطدم به ، و انطلق من الداخل شهاب ٌ ذهبي !

    " أمي ! "

    صرخت الفتاة الشقراء التي ظهرت مسرعة و ركضت مسرعة كالبرق نحو الخارج و أنا ... أتبعها ...

    وصلنا إلى حيث السيدة ، و بدأت الفتاة تصيح و تصرخ بذعر ...

    " أمي ... أمي ... ردي علي أرجوك ... "

    و هوت إلى جانبها تحاول إيقاظها

    أنا وقفت ُ مذهولا مسلوب الإرادة و التفكير ...

    الفتاة أخذت تنادي بصوت قوي :

    " خالي ... تعال بسرعة "

    تلفت أنا من حولي و لم أر أحدا ...

    نهضت الفتاة الشقراء بسرعة و ركضت مبتعدة و هي تنادي

    " خالي ... أسرع "

    يا إلهي ... هل ماتت السيدة ؟؟

    إنني من تسبب في موتها ...

    ماذا أفعل الآن ؟؟

    لحظة شعرت ُ فيها برغبة قوية في الهروب ...

    إلا أن رجليّ لم تسعفاني ...

    ظهرت الآن الفتاة الشقراء ، تمسك بيد رجل عجوز أشقر ، تجبره على الركض ، و هو لا يقوى عليه ...

    و أخيرا وصلا إلينا ... في نفس اللحظة التي بدأت فيها السيدة تفتح عينيها ...

    أقبلت الفتاة بسرعة لمساعدة أمها في الجلوس و هي تقول بفزع :

    " أمي ... ماذا جرى لك ؟؟ "

    السيدة بدت متعبة و منهارة ، وضعت رأسها على صدر ابنتها و أغمضت عينيها ...

    الفتاة نظرت الآن و لأول مرة نحوي أنا !

    " من أنت ؟؟ ماذا حدث ؟؟ "

    أنا ارتبكت و بدأت أتأتئ....

    الرجل العجوز اقترب من السيدة و قال :

    " ليندا ! ماذا جرى لك ؟؟ "

    قالت الفتاة :

    " يجب أن نأخذها إلى المستوصف يا خالي هيا بسرعة "

    و تعاونا الاثنان على إسنادها ...

    قال العجوز :

    " السيارة في المؤخرة ! "

    قالت الفتاة :

    " أوه كلا ! "

    حينها أنا تدخلت و قلت :

    " أيمكنني المساعدة ؟؟ لدي سيارة تقف بالخارج ... على مقربة "

    نظر العجوز إلى ، و كأنه ينتبه لوجودي الآن فقط ، و قال :

    " من أنت ؟؟ "

    قلت :

    " أنا ... وليد شاكر ... صديق نديم "

    الفتاة نظرت إلي باهتمام ، إلا أن والدتها تأوهت ، فأهملت الفتاة نظراتها إلي و نادت :

    " أمي ... تماسكي أرجوك ... "

    قلت :

    " تعالوا معي ... "

    و لم يتردد الآخرون كثيرا ، بل ساروا خلفي مباشرة ...

    وُضعت السيدة في السيارة ، و جلس الرجل العجوز إلى جانبي ، ثم ذهبت الفتاة مسرعة و عادت خلال ثواني ، و جلست إلى جانب أمها على المقاعد الخلفية

    تولّى العجوز إرشادي إلى أقرب مستوصف من المزرعة ، و هناك تم إسعاف السيدة و إجراء اللازم ...

    الأحداث جرت بسرعة مدهشة ، حتى أنني لا أذكر بقية التفاصيل !

    قال الطبيب :

    " نوبة قلبية ... يجب أن تنقل للمستشفى من أجل الملاحظة و العلاج "

    رباه !
    هل تسببت ُ دون قصد ٍ مني في نوبة قلبية لزوجة صديقي ؟؟
    كم أنا نادم على الحضور ... بل نادم على تذكر وصيتك يا نديم ... فعوضا عن مساعدة عائلتك هاأنا أتسبب بمرض زوجتك !

    الذي حدث هو أن صحة السيدة تحسنت شيئا فشيئا ، و رفضت هي الذهاب للمستشفى و أصرت على العودة إلى البيت ...

    بصعوبة أقنعتها ابنتها بالبقاء بعض الوقت ، حتى تتحسن أكثر ...

    تُركت السيدة في غرفة للملاحظة ، و بقينا أنا و العجوز في على مقربة ...

    الآن تخرج الفتاة من الغرفة ، و تأتي نحونا

    العجوز يبادر بالسؤال :

    " كيف هي ؟؟ "

    " نائمة ، لكنها أفضل "

    و بعدها تنظر إلي أنا ...

    غضضت أنا بصري ... فسألتني :

    " من أنت ؟؟ "

    أجبت :

    " وليد شاكر ... كنت أحد أصدقاء السيد نديم وجيه "

    قالت :

    " إنه والدي "

    قلت :

    " نعم ... عرفت "

    قالت :

    " و لم جئت لمزرعتنا ؟ ألا تعرف أن أبي في السجن منذ زمن ؟؟ "

    صمت ... ما ذا بإمكاني القول ؟؟

    قالت :

    " بم أخبرت أمي ؟؟ "

    و أيضا بقيت صامتا ...

    قالت :

    " والدي قُتِل ... أليس كذلك ؟؟ "

    رفعت نظري إليها مندهشا ... و متندما ... و أسِفا ... و كم كانت تعبيرات وجهها تنم عن القوة و الجرأة ...

    ثم نظرت إلى الرجل العجوز ... فرأيته هو الآخر يحملق بي ...

    قلت :

    " أنا ... آسف ... "

    خشيت أن تأتي ردة فعل الفتاة كأمها لكنني عجبت من هذه القوة و الصمود اللذين تملكاها ... قالت :

    " كنت أتوقع ذلك ... "

    ثم انصرفت عائدة نحو الغرفة ...

    بعد ذلك بدأ العجوز يستجوبني ... و سردت عليه بعض أخبار نديم و أوضاعه في السجن قبل موته ... و علمت أنهم منعوا من زيارته و لم يبلغوا بوفاته ...

    و كم أثار ذلك حزني و حنقي ...

    أبعد العذاب الذي صبوه عليه كل تلك المدة ، يقتلونه و يدفنونه ثم لا يبلغون أهله حتى بأنه مات !؟

    أ تركوا العائلة تعيش مرتقبة عودته فيما هو رميم تحت الأرض ..؟؟

    طال الانتظار ، و لم أعرف ... أعلي الذهاب و تركهم ؟؟ أم علي البقاء و مساعدتهم ؟

    و لكنني آثرت البقاء ... من باب الأدب و الوفاء لصديقي الراحل ...

    بعد فترة ، اشتد علي الألم ، و التعب و بدأت أحس بالدوار ...

    لم أكن قد تناولت شيئا بعد تلك البوظة الأخيرة ... لذلك أحس باضطراب ...
    و قد لاحظ العجوز اضطرابي و وهني ، إذ كنت أسند رأسي إلى الحائط القائم خلف المقعد الذي أجلس عليه ..

    " هل أنت على ما يرام ؟؟ "

    سألني العجوز ... أجبت :

    " أشعر بالإعياء ... "

    قمت بصعوبة ، بالكاد أحمل نفسي و سرت خطى متعثرة حتى وصلت إلى عيادة الطبيب ...

    انهرت على السرير هناك و قلت :

    " أنا مرهق ... ساعدني ... "

    اشتد بي الدوار و بدأت أتقيأ ... عصارة ممزوجة بالدم ...

    بعد أربعين دقيقة من العلاج شعرت بتحسن كبير ... و شكرت الطبيب ...

    الطبيب سألني عدة أسئلة عرف منها عن آلام معدتي المتكررة و الدماء التي تخرج من جوفي ،
    فأجرى لي بعض الفحوص ثم رتب لإرسالي إلى قسم المناظير لإجراء منظرة لمعدتي ...

    الرجل العجوز كان يأتي للاطمئنان علي بين الفينة و الأخرى ...

    " أ أنت بخير يا هذا ؟ "

    " أنا بحال أفضل الآن . شكرا لسؤالك أيها العم ، ماذا عن السيدة ؟ "

    " لا تزال نائمة و يريد الطبيب نقلها إلى مستشفى أكبر ، لكن ظروفنا لا تسمح بذلك "

    و الآن دخلت الممرضة في الغرفة التي كنت ُ أنا فيها و قالت :

    " هيا يا سيد ، سنأخذك إلى قسم المناظير "

    الرجل العجوز نقل بصره بيني و بينها في تساؤل ، فقلت :

    " سأعود بسرعة "

    و ذهبنا إلى قسم المناظير و تم إجراء منظرة لمعدتي ... و بعد الفراغ من ذلك قال لي الطبيب :

    " إنها قرحة نازفة ... في معدتك أيها السيد "

    خمس ساعات مضت و نحن في ذلك المستوصف ، ننتظر تحسن السيدة زوجة نديم كي نغادر

    وصف لي الطبيب أدوية اقتنيتها من صيدلية مجاورة ، بسعر باهظ ... كما و أنني دفعت مبلغا كبيرا نسبيا من أجل مستحقات الطبيب و الفحوص و المنظرة
    أتساءل ، أي مبلغ خسرت عائلة نديم يا ترى ؟؟

    أقف الآن عند المخرج ، و أرى الفتاة ابنة نديم تدفع كرسي العجلات الذي تجلس عليه والدتها ، و إلى جانبهم العجوز الطيب .

    حينما صاروا قربي ، انطلقت نحو السيارة و أنا أقول :

    " من هنا رجاءً "

    أخذ الثلاثة يتبادلون النظرات ، ثم نظروا إلي ...

    في أعينهم كانت آثار الدموع واضحة ، كما علامات الحيرة و التردد ...

    قلت :

    " سأوصلكم إلى المزرعة ... إن لم يكن لديكم مانع ؟؟ "

    وصلنا إلى المزرعة و طلب مني العجوز أن أوقف السيارة في الداخل ، أمام المنزل مباشرة

    قام الاثنان بمساعدة السيدة على السير حتى دخلوا المنزل ، و أنا واقف أراقب إلى جانب سيارتي ... بعد قليل حضر العجوز و ناداني :

    " تفضل بالدخول يا ... ما قلت اسمك ؟ "

    " وليد ... وليد شاكر أيها العم "

    " تفضل يا وليد شاكر "

    ترددت قليلا ، إلا أنني آثرت البقاء معهم لبعض الوقت ، إذ لابد أنهم يودون معرفة شيء من تفاصيل موت نديم ، رحمه الله

    المنزل كان صغيرا و بسيطا ، و أثاثه عادي و قديم ، ما يعطي الزائر انطباعا عن المستوى المادي البسيط الذي تعيش به هذه العائلة الصغيرة .

    أخذني العجوز إلى الصالة الرئيسية في المنزل ، و بعد أن جلست بدأ يرحب بي ...

    " أهلا بك ... نحن شاكرون لك صنيعك النبيل "

    قلت :

    " لا داعي لأي شكر أيها العم ، لم أفعل شيئا "

    قال :

    " و كيف تشعر الآن ؟؟ هل تحسنت ؟؟ "

    " كثيرا و لله الحمد ، كل ما في الأمر أنني قضيت ساعات طويلة بلا نوم و لا طعام لذا داهمني الدوار و الإعياء ! "

    قال :

    " نعم أجل ... الطعام "

    و نهض و ذهب إلى غرفة مجاورة ، و عاد مع الفتاة ...

    الفتاة ألقت تحية علي ، و نطقت ببعض كلمات الترحيب ، ثم استأذنت ...

    و أخذنا أنا و العجوز نتحدث عن أمور متفرقة ، أتى ذكر نديم و مأساة وفاته في معرضها ...


    " لقد كنا نتوقع ذلك ، فجميع من سجنوا معه بلغتنا أنباء وفاتهم ، كل هذه السنين و نحن لسنا على يقين من حياته أو موته ... ليندا لم تفقد الأمل في عودته ذات يوم "

    كم شعرت بالأسى ... لأجل هذه العائلة البائسة ... التي عاشت محرومة من معيلها كل تلك السنين ، و بعد كل هذا الانتظار تكتشف أنه مات !

    كيف يفعلون هذا ؟؟ يسجنونه و يعذبونه و يقتلونه ، ثم لا يخبرون أهله بأنه مات ؟؟

    قلت :

    " يوم وفاته ... طلب مني نديم أن أزور عائلته و أطمئن على أحوال أهله ... كان ذلك قبل سنين ... أربع تقريبا ... إلا أنني ... "

    العجوز كان يراقبني باهتمام شعرت معه بالخجل ، و برغبة في الاختفاء في الحال !

    قال :

    " هانحن نعيش حياتنا و الحمد لله .. أدعوه أن يحفظ لي صحتي و قوتي لأرعى أختي و ابنتها "

    و هنا دخلت ( ابنتها ) تحمل صينية ملأى بالطعام ...

    وضعت الصينية على الطاولة الماثلة أمامي و عادت ترحب بي ... ثم قالت :

    " تفضل يا سيد وليد "

    و انصرفت

    شعرتُ بالخجل ... فأنا وسط عائلة غريبة علي ... أناس لم يسبق لي رؤيتهم قبل اليوم ... و هم على ما يبدو كرماء !

    " تفضل يا بني ... طعام خفيف لحين موعد العشاء "

    دهشت ! قلت :

    " العشاء !؟ "

    " نعم .. فأنت ستتناول عشاءك معنا هذه الليلة "

    " أوه كلا ... إنني ... إنني سأنصرف بعد قليل "

    و أصر العجوز على استضافتي ليس فقط على العشاء ، بل و للمبيت عندهم هذه الليلة !

    العشاء كان لذيذا جدا ، علمت أن الفتاة هي التي أعدته ! كما علمت أن حالة السيدة قد تحسنت كثيرا ، و لذا فإنها و ابنتها كذلك شاركتانا الجلسة و الأحاديث بعد الوجبة .

    الثلاثة يبدون متشابهين في المظهر ! جميعهم من السلاسة الشقراء !

    السيدة كانت تمطرني بالأسئلة عن نديم و ما حصل معه ، و أنا أحاول الإجابة بالقليل الذي لا يسبب لها انتكاسة ، إلا أنها مع ذلك أخذت تبكي ، و تبعتها ابنتها ...

    قالت الابنة بانفعال و هي لا تملك منع نفسها عن البكاء :

    " أرجوك يا أمي توقفي عن البكاء ... كنت تعرفين أنه لن يعود ... جميعنا نعلم أنهم و لا شك قتلوه ... الظلمة القساة الحقرة ... الأوغاد المجرمون ... احرقهم يا رب جميعا ... انتقم منهم فأنت العزيز ذو الانتقام ... و افعل بهم ما فعلوه بنا ... و أفظع "

    أما أنا فقد كنت أردد دعوتها عليهم في صدري ...

    يا رب انتقم منهم جميعا ...

    عاد بي شريط الذكريات إلى سنين السجن ... و عذاب السجن ... و الزنزانة ... و الطعام الرديء ... و الأسرّة المهترئة ... و الحشرات ! ... و الرائحة العفنة ... التي اختزنت في ذاكرة أنفي ! أكاد أشمها !

    رفعت يدي إلى أنفي كمن يريد منع رائحة كريهة من التسلل إلى تجويف أنفه ، فلامست أصابعي الحفرة الصغيرة التي تركها السجن علامة عليه ... شعرت بنار تتأجج في صدري ... نار كنت أخالها قد خمدت بعد هذه الشهور التي قضيتها خارج السجن ... إلا أنني ... و أنا أرى المناحة و البؤس و الدموع المنسكبة من أعين الأرملة و اليتيمة ... و أتذكر نديم و هو يحتضر ... و الكدمات و الجروح التي كانت تغطي جسمه أكثر من شعيرات جلده ... عقدت العزم على ألا تواتيني فرصة للنيل منهم إلا و اقتنصتها ...

    و من خلال الساعات التي قضيتها في تبادل الأحاديث معهم ، شعرت بقربي لهم و قربهم مني ... و كأنني وسط عائلتي ، و كأنني أعرفهم من سنين ...

    لقد ألفت ُ هذه العائلة و أحببتها في الله !

    في اليوم التالي ، و رغم أنني نمت باكرا كما نامت العائلة ، استيقظت قرابة الساعة الحادية عشرة ...

    كنت قد نمت في غرفة صغيرة في الطابق السفلي للمنزل مفترشا فراشا أرضيا بسيطا و ملتحفا ببطانية ثقيلة .

    على الأقل ، وفرت كلفة ليلة واحدة كنت سأبيتها في فندق أو ما شابه ...

    نهضت و خرجت من الغرفة و أنا أتنحنح ...

    بعد قليل ، كنت أقف في الصالة الرئيسية وحيدا ، تلفت من حولي فلم أشعر بأي حركة توحي بوجود كائن حي على مقربة مني !

    مضيت نحو المخرج ، و خرجت من المنزل راغبا في استنشاق الهواء العليل العابق برائحة الأشجار و الزهور ...

    كم كان منعشا و باعثا للنشاط !

    أخذت أتجول سيرا حول المنزل و في ممرات المزرعة ... و أتأمل الجمال الطبيعي من حولي ، و أستمع إلى غناء العصافير و أشاهد استعراضاتها الجميلة في السماء ...

    المكان كان غاية في الروعة ... و أي امرئ يقضي هنا سويعات معدودة ، لا شك أنه سيخرج بنفس مبتهجة و نفسية مرتاحة !

    فيما أنا أسير ... وجدت السيدة و الفتاة على مقربة ...

    كانتا ترتديان ملابس سوداء ... ربما حدادا على تأكيد موت نديم ، رحمه الله ... و كانتا تسحبان صناديق مليئة بالثمار ... تجرانها جرا ... إلى حيث تقف سيارة حوض زرقاء ، يعلو حوضها الرجل العجوز ،و يقوم بترتيب صناديق الثمار المكشوفة ، التي ترفعها السيدة و الفتاة متعاونتين و تضعانها في الحوض .
    تفعلان ذلك ، ثم تعودان لجر المزيد من الصناديق ...

    اقتربت من السيارة و ألقيت التحية على العجوز المنهمك في ترتيب الصناديق ، و يبدو أنه لم يسمع !

    تبعت السيدتين إلى حيث وجدت مجموعة من الصناديق المليئة بالثمار تنتظر دورها للشحن في السيارة ...

    و هاهما تسيران نحوي و تجر كل واحدة منهما صندوقا جديدا ...

    " صـ باح الخير "

    حييتهما فتركتا الصندوقين و ردتا التحية ، ثم قالت السيدة :

    " هل نمت جيدا ؟ أتمنى ألا يكون الفراش قد أتعبك ؟؟ "

    قلت :

    " على العكس ... نمت بعمق ... شكرا لكم جميعا "

    السيدة قالت مخاطبة ابنتها :

    " أروى اذهبي و أعدي الفطور لضيفنا "

    الفتاة نظرت إلى الصندوق ثم إلى أمها و قالت :

    " حسنا "

    و همت بالذهاب ...

    أنا قلت :

    " شكرا لكن لا داعي لذلك ... لا أشعر بالجوع الآن "

    قالت السيدة :

    " بلى ! سيكون فطورك جاهزا خلال دقائق ، و معذرة فأخي مشغول الآن لكن تصرف بحرية "

    ثم التفتت إلى الفتاة و قالت :

    " هيا أروى "

    الفتاة ذهبت في طريقها إلى المنزل ... و السيدة تابعت سحب صندوقها ...

    سرت أنا نحو الصندوق الآخر ، و حملته و نقلته إلى حوض السيارة ... فيما هي لا تزال تجر صندوقها !

    الآن انتبه العجوز إلي !

    " صباح الخير أيها العم "

    " أوه ! شاكر ... نهضت إذن ! لابد أنك كنت متعبا جدا ! صباح الخير "

    وضعت الصندوق في السيارة و قلت :

    " كنت ، لكنني الآن بحالة ممتازة و الحمد لله . شكرا لكم . اسمي وليد أيها العم !"

    سحب العجوز الصندوق ليصفه بنظام قرب أخوته ثم قال :

    " أجل تذكرت ! وليد . سآخذ هذه إلى السوق ، أتفضل انتظاري أو مرافقتي ؟ "

    نظرت ناحية السيدة المقبلة تجر الصندوق ، ثم إلى العجوز و قلت :

    " أفضل مساعدتكم ! "

    ثم بدأت بنقل الصناديق واحدا تلو الآخر ... و طلبت من العجوز أن يطلب من السيدة أن ترتاح ، فقد عاشت أزمة قلبية يوم أمس !

    أقبلت الفتاة بعد ذلك ، و رأتني أحمل أحد الصناديق ... فتعجبت ! ثم قالت :

    " طعامك جاهز أيها السيد ... تفضل إلى المنزل "

    و مضت نحو ما تبقى من الصناديق و جرّت أحدها ...

    وضعت ما بيدي في حوض السيارة ، و عدت ناحية الصناديق ...

    كانت الفتاة تجر صندوقها بجهد ... قلت :

    " دعي الأمر لي سيدتي أستطيع نقلها جميعا وحدي دون عناء "

    فتركت صندوقها و تنحت جانبا ، فحملته و نقلته إلى السيارة ، و سارت هي من بعدي حتى صارت واقفة إلى جوار والدتها ...

    انتهيت من مهمتي ، فشكرني الجميع ثم قالت السيدة الأم :

    " لقد برد فطورك ! أرجوك تفضل لتناوله "

    شعرت بالخجل ، و نظرت نحو الأرض بحياء ، فنادت السيدة على العجوز

    " إلياس ... تعال لتكرم ضيفنا ! "

    نزل العجوز أرضا ، و رافقنا نحو المنزل ...

    هناك جلست عند المائدة أتناول فطوري الشهي ، و إلى جانبي العجوز يشرب الشاي ، بينما السيدة و ابنتها تراقباننا عن بعد و تتابعان أحاديثنا !

    في معرض الحديث ، قال العجوز :

    " ليتني أعود لمثل شبابك و قوتك ! اخبرني ... ماذا تعمل ؟؟ "

    توقفت عن مضغ اللقمة الموجودة في فمي ، و ابتلعتها كما هي !

    قلت :

    " في الواقع أيها العم الطيب ... أنا عاطل عن العمل ! "

    دهش العجوز ، فأخبرته بأن تخرجي من السجن حال دون قبولي في الوظائف التي حاولت الالتحاق بها ، و أخبرته إنني هنا في المدينة الشمالية للبحث عن عمل ...

    قال :

    " شبّان هذه الأيام يحبون الوظائف المكتبية و الإدارية التي لا تتطلب منهم سوى الجلوس و تقليب الأوراق ! سيصعب عليك العثور على وظيفة كهذه في هذه المدينة ! "

    قلت :

    " سأجرب ! فإن فشلت ، عدت ُ من حيث أتيت ! "

    قال :

    " إذن ... ما هي خطتك الآن ؟؟ "

    قلت :

    " سأذهب إلى قلب المدينة ، استأجر شقة صغيرة ، و أبحث عن وظيفة ... عسى الله أن يوفقني هذه المرة "

    بعد ذلك رافقت العجوز إلى السوق ، حيث قام ببيع الثمار على أحد تجار الخضار و الفاكهة ، ثم عدنا إلى المزرعة ....

    حينما وصلت ، و فيما أنا في طريقي إلى سيارتي ، لمحت السيدتين واقفتين عند الأشجار ، تقطفان الثمار و تجمعانها في السلات و الصناديق ...

    نظرت إلى العجوز السائر جواري و قلت :

    " ألا يساعدكم أحد في العناية بهذه المزرعة ؟؟ "

    قال :

    " كلا ! نحن الثلاثة من يعتني بها ، لكننا نستأجر بعض العمال لقطف الثمار أو التنظيف أو ما إلى ذلك من حين لآخر ! "

    يا للحياة الشاقة التي تعيشها هذه العائلة !

    لو تعلم يا نديم ... !

    قلت :

    " دعوني أساعدكم قبل المغادرة ! "

    و بدأت العمل !

    قطفنا كميات كبيرة من الثمار ، و وزعناها على الصناديق ، و تركناها قرب بعضها البعض ، لحين الغد ، حيث سيتم نقلها إلى السيارة من جديد ...

    بعد ذلك قمنا بجمع الأوراق و الثمار المتساقطة و تنظيف الأرض !

    كل ذلك استغرق منا ساعات من العمل ، و كلما حاول العجوز ثنيي أو الاعتذار ، قلت له :

    " هذا واجبي ، و نديم يستحق أكثر من ذلك "

    بعد ذلك ، دخلنا إلى المنزل و من ثم تناولت وجبة الغداء المتأخرة مع العجوز الطيب ... ، شكرته على حسن ضيافته و وعدته بالعودة لزيارتهم كلما أمكنني ...
    و خرجت من المنزل و ركبت سيارتي الواقفة أمام المنزل ، و سرت بها ...

    عبرت على مجموعة الصناديق ، و فكرت ... في العناء الذي ستلاقيه السيدتان غدا في نقلها إلى السيارة الزرقاء ... غدا و بعده و كل يوم ... اعتقد أن من واجبي تقديم المزيد من المساعدة لهذه العائلة التي أوصاني صديقي الراحل بها خيرا

    أوقفت السيارة و عمدت إلى الصناديق و جعلت انقلها إلى السيارة الزرقاء المركونة على مقربة ، واحدا تلو الآخر ... دون علم أحد !

    الشمس كانت على وشك المغيب ... لم أكن أشعر بأي تعب أو إعياء يذكر ، كما و أن آلام معدتي قد اختفت تقريبا بعد العلاج السحري الذي وصفه لي الطبيب ! أو ربما العلاج السحري في هذه المزرعة الجميلة و مناظر الطبيعة الخلابة ، و الهواء المنعش ...

    كم أنا سعيد لأنني استطعت خلال الساعات الماضية طرد آلامي الجسدية و النفسية ... و أفكاري المهمومة ... بما فيها الخائنة رغد !

    رغد ...

    ما تراك تفعلين الآن ؟؟؟

    و ما تراك فعلت ِ بعد علمك برحيلي ؟؟

    ما تراك فاعلة إن علمت ِ أنني لن أعود إليك مرة أخرى ... و أنني في سبيل الابتعاد عنك مستعد لهجر أهلي للأبد ؟؟؟

    " ماذا تفعل ! "

    روعتُ فجأة حين سمعت صوتا آت ٍ من خلفي ، و استدرت بفزع !

    كانت ابنة نديم !

    كنت أحمل الصندوق على ذراعي و أسير نحو السيارة الزرقاء ، و أفكر برغد !

    ثم وجدت نفسي في موقف لا أحسد عليه ، أمام ابنة نديم ... تنظر نحوي بدهشة !

    تتأتأتُ في الحديث ، قلت :

    " أأأ ... فكرت في ... بما أنني لازلت هنا ... يمكنني المساعدة قبل ... معذرة فأنا لم أقصد سوءا ! "

    و خفضت بصري نحو الأرض ...

    شعرت بثقل الصندوق فوق يدي ، فرفعته أكثر ، ثم اعتذرت ، و ذهبت إلى السيارة لأضعه فيها ...

    الفتاة تبعتني ، و أخذت تنظر إلى الصناديق الموضوعة في السيارة بتعجب !

    قالت :

    " لم كلّفت نفسك عناء كل هذا !؟ لم يكن واجبا عليك ذلك ! "

    قلت :

    " بلى ... من واجبي و من دواعي سروري أيضا ! نديم كان صديقي الحميم في السجن ... ليتني أملك أكثر من هذا لأفعله من أجله ... و أجل عائلته "

    الفتاة قالت بعد صمت قصير :

    " شكرا لك ... أنت رجل نبيل "


    و صمتت تارة أخرى ، ثم قالت :

    " لماذا دخلت السجن ؟؟ "

    و لما لم تجد مني جوابا ، قالت :

    " اعتذر ... تجاهل سؤالي إن كان يزعجك ... "

    أنا كنت في غاية الاضطراب ، هناك مواقف كثيرة في الحياة لا أعرف التصرف حيالها ، و هذا أحدها !

    سرت إلى الصناديق و تابعت عملي بصمت و هدوء ، و إن كان داخلي متوترا مضطربا ، و الفتاة واقفة على مقربة !

    متى تنقشعين !؟

    يبدو أنها امرأة قوية و جريئة !

    ربما لأن أمها ـ و كذلك خالها ـ من أصل بلدة أخرى ... ذات طباع و شخصيات أخرى ... غريبة و مختلفة عما تعودت أنا عليه !

    بعد فراغي من نقل الصناديق ، قالت لي :

    " شكرا لك يا سيد وليد ... والدي يعرف كيف يختار أصدقاءه ... "

    قلت بخجل :

    " العفو ... سيدتي "

    ثم ابتعدت و أنا أقول :

    " مع السلامة "

    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
    " وقعت ِ أخيرا ! "

    صاحت نهلة بصوتها العالي و هي تشير بإصبعها نحوي ، و تضيق الحصار علي !

    تلفت من حولي و قلت :

    " نهلة أرجوك ! اخفضي صوتك ! لابد أن أمي تسمعه في المطبخ ! "

    نهلة أقبلت نحوي و هي لا تزال تمد بسبابتها نحوي حتى تكاد تفقأ عيني !

    قالت بحدة و مكر :

    " اعترفي يا رغد ... لن يجدي الإنكار أو المواراة ! أنت مهووسة بابن عمّك ! "

    مددت يدي و أمسكت بعنقها و ضغطت عليه !

    " سأخنقك ِ يا نهلة ّ "


    نهلة الأخرى طوقت عنقي بيديها و قالت تمثل دور المخنوقة :

    " سأنطق بالحق حتى النفَس الأخير ... رغد تحب ابن عمّها وليد... دون أن تدرك اللهم إني بلّغت ، اللهم فاشهد ! "

    و بالفعل كدتُ أخنق هذه الفتاة !

    طرقُ على الباب منع جريمتي من الوقوع !

    تركت عنق ابن خالتي و مضيت ُ لفتح الباب ... كانت دانه !

    " رغد ... وليد على الهاتف ! إن كنت ِ ترغبين بإلقاء التحية ! "

    حدّقت ُ بها لثوان شبة واعية لما قالت ، ثم انطلقت مسرعة إلى حيث كانت والدتي تمسك بسماعة الهاتف و تتحدث إلى وليد ...

    عندما رأتني أمي قالت له :

    " بني ... هذه رغد ترغب في التحدث معك "

    و مدت السماعة إلي ...

    أخذت السماعة و ألصقتها في إذني و فمي ! بقيت صامتة لثانيتين ، ثم قلت :

    " وليد ؟؟ "

    أستوثق من كونه هو من على الطرف الآخر ...

    صوت وليد وصلني خافتا مترددا و هو يقول :

    " مرحبا ... صغيرتي "

    بمجرد أن سمعت صوته ، انفجرت !

    قلت بصرخة منطلقة مندفعة قوية حادة مجنونة :

    " كذّاااااااااااااب "

    و أعدت السماعة بسرعة إلى والدتي ، و جريت نحو غرفتي ، و صفعت الباب و أوصدته بانفعال !

    نهلة أخذت تنظر إلي بذهول و استغراب ...

    " رغد !؟؟ "

    صرخت بانفعال ...

    " رغد تكره وليد .... أفهمت ِ ؟؟ تكرهه ... تكرهه ... تكرهه "

    و لم أتمالك منع دموعي من الانسياب بغزارة من محجري ...

    و مضيت إلى سريري فجلست و سحبت الوسادة ، و غمرت وجهي فيها ... حتى كدت اختنق !


    بعد قليل ، نهلة ربتت على كتفي و قالت :

    " نعم ... مفهوم "
    أبعدت أنا الوسادة عن وجهي و تنفست الصعداء ... و سمحت لنظرات نهلة باختراقي مباشرة ... الدموع كانت تجري بانسياب مبللة كل ما تصادفه في طريقها ...

    " عزيزتي ... "

    ما أن قالت نهلة ذلك حتى انهرت تماما ... و رميت برأسي في حضنها و طوقتها بذراعي باستسلام و أسى ... قلت و أنا في غمرة الحزن ... في لحظة صدق و اعتراف

    " لماذا رحل دون وداعي ؟؟ لماذا كذب علي ؟؟ لماذا كذبوا كلهم علي ؟؟ أخبروني بأنه لن يعود ... لكنه عاد ... لكنه تركني ... لم يعد يهتم بي ... لأنني سأتزوج سامر ... لكني لا أحب سامر ... لا أحبه ... "

    و أبعدت ُ وجهي عن حضنها و نظرت إليها باستنجاد مرير ...

    " نهلة ... أنا ... لا أحب سامر ... أنا ... لا أريد أن أتزوج منه "

    نهلة وضعت يدها بسرعة على فمي لكتم كلماتي ، و تلفتت ، ثم عادت تنظر إلي ...

    قالت :

    " اخفضي صوتك ... "

    شعرت باليأس و فقدِ الأمل ... و طأطأت برأسي أرضا باستسلام لحكم القدر ...

    كيف لي أن أقول هذا ... و لا تفصلني عن موعد الزفاف غير أسابيع ؟؟

    لا يحق لي حتى مجرد التفكير ... فقد قضي الأمر ... و انتهى كل شيء ...

    بعدما هدأت من نوبة بكائي ... و لزمت و نهلة الصمت لعدة دقائق ، قالت هي :

    " رغد ... لم يفت الأوان بعد ... دعي أمي تتدخل و توقف هذا الزواج في الحال "

    هززت رأسي نفيا و اعتراضا و قلت بعدها :

    " لا ... كلا كلا ... نهلة إياك و الإقدام على هذا ... "

    " لكن يا رغد ... "

    " أرجوك نهلة ... لا تفسدي علي الأمور ... لقد فات الأوان ... و انتهى كل شيء ... لا تضعيني في موقف كهذا مع أمي و سامر و الجميع ... "

    نهلة أمسكت بيدي و قالت :

    " لكن... أنت لا تحبين سامر ! إنك لا ترغبين في الزواج منه ! كيف تربطين مصيرك به ؟ "

    " قدري و نصيبي "

    " و وليد ؟؟ "

    وقفت ببطء ... و استسلام ... و أنا أتذكر تلك الليلة ، حين وعدني و أقسم بألا يرحل دون علمي ، ثم نقض الوعد و القسم ... مستغفلا إياي بعلبة بوظة !

    قلت :

    " لم يعد له وجود ... أو داع للوجود "

    طُرق الباب مجددا ، فتوجهت لفتحه فإذا بها أمي ...

    أمي حملقت في عيني المحمرتين برهة ثم قالت :

    " رغد ... أهناك شيء ؟؟ "

    واريت أنظاري تحت الأرض ، و قلت :

    " لا ... لا شيء "

    و حين رفعت نظري إليها وجدتها تنظر إلي بتشكك ...

    هربت من نظراتها و نظرت إلى ابنة خالتي ... و التي بدورها قالت :

    " يجب أن أذهب الآن ... "

    و ذهبت إلى المرآة ترتب حجابها و عباءتها ...

    قلت :

    " نهلة ! كلا لن تذهبي الآن ! "

    قالت :

    " لدى سارة دروس تستصعبها و هي تنتظرني لتعليمها الآن ! ... "

    قالت أمي :

    " لا يزال الوقت مبكرا ... ابقي للعشاء معنا "

    ابتسمت نهلة و قالت و هي تحرك يدها عند نحرها :

    " ستذبحني سارة إن تأخرت أكثر ! "

    رافقتها إلى الباب الخارجي ، و قلت لها قبل أن تنصرف :

    " نهلة ... لا تذكري ما دار بيننا على مسمع من أحد ... أرجوك "

    نهلة ابتسمت ابتسامة مطمئنة ، ثم غادرت ...

    عندما عدت إلى غرفتي وجدت دانة هناك !

    ما أن رأتني حتى بادرت بسؤالي :

    " بربك رغد ! ماذا تقصدين من تصرفك الأحمق هذا ؟؟ لقد كادت السماعة أن تتصدع من صرختك ! أخشى أن تكوني قد أحرقت الأسلاك بين المدينتين ! "

    لم يكن لدي مزاج مناسب للجدال مع دانة هذه الساعة ، قلت بنفس ٍ متضايقة:

    " أخرجي دانة ، أريد البقاء وحدي "

    دانة نظرت إلي باستنكار ، ثم قالت :

    " لا تطاقين يا رغد ! متى أتزوج و أتخلص منك ! "

    ثم مضت مغادرة ، و قبل أن تخرج قلت :

    " قريبا يا ابنة عمي ... ماذا بعد ؟؟ أهذا يكفي ؟؟ "

    و صفعتُ الباب خلفها ...

    اعتقد أن تصرفاتي لم تكن لائقة لهذا اليوم ، بل و منذ رحيل وليد و أنا في حالة عجيبة ... عصبية دائما ، حزينة دائما ، ضائقة الصدر ... منعزلة في غرفتي ... فاقدة الاهتمام بأي شيء من حولي حتى الرسم ...

    و مع مرور الأيام ازدادت حالتي سوءا ... و بدأ العد التنازلي لموعد الزفاف ... لموعد النهاية ... لموعد الحلقة الأخيرة من مسلسل حياتي التعيسة ...

    لو كان لي أم ... لو كان لي أم تخصني أنا ... لا تكون هي أم سامر ... لكنت أخبرتها بكل ما يختلج صدري من مشاعر ...

    لكنت أخبرتها بما أريد و ما لا أريد ...

    أمي هذه ، أم سامر خطيبي ... العريس المتلهف للزفاف ، و إن حاولتْ التحدث معي ، أتحاشاها و اخفي في صدري ما لم أعد قادرة على كتمانه ...

    كيف لي أن أخبرها بأنني لا أريد أن أتزوج من ابنها ، الذي خطبت ُ له منذ أربع سنين !؟

    كيف سيكون موقفي من سامر ... و أبي ...و الجميع ...

    و لماذا أفعل هذا بهم ؟؟

    أيكون هذا جزاء من آووني و رعوني كل هذه السنين ، التي لم أشعر فيها أبدا بأنني يتيمة الأبوين ...؟؟

    عدا عن ذلك ...

    فأي رجل سأتزوج ما لم أتزوج سامر ؟؟ من سأعطيه ثقتي المطلقة مثله ... ؟

    حسام الذي لا يختلف عنه كثيرا ؟؟

    أم ... وليد ...الذي ...

    الذي ... لم أعد أعني له شيئا ...؟؟

    وليد ... الكذاب !
    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~

    كذاب !

    كلمة قاسية هزتني و أربكتني حتى كدت معها أوقع هاتفي من يدي ...
    لها الحق بنعتي بهذه الصفة .. ألم أعدها ألا أرحل بدون علمها ثم رحلت ؟؟؟
    لكن لماذا تأثرت ْ هي كثيرا من ذلك ؟؟
    ماذا كان يفرق لديها ... بقائي من رحيلي ؟؟
    أم تظنني سأبقى أرعاها و أدللها كما كنت في السابق ، فيما هي زوجة لأخي !

    الخائنان !

    كنت في سيارتي في طريقي إلى الشقة الصغيرة التي استأجرتها ، و دفعت مبلغا لا بأس به لأجل ذلك ، على الرغم من نقودي المحدودة التي تتضاءل يوما بعد يوم .

    بحثت جاهدا عن وظيفة في هذه البلدة ، و كلما صادفت أعلانا عن وظيفة شاغرة في الصحف بادرت بالاتصال ، رغم أنني لا استوفي شيئا من الشروط المطلوبة ...

    كانت أيام سبعة قد انقضت منذ وصولي إلى هذه البلدة ، و هي فترة قصيرة طبعا ، إلا أنني شعرت بملل و وحدة قاتلين ... و فكرت في العودة إلى مزرعة نديم !

    إنني أشعر بأن أهل نديم هم أهلي ... و إن لهم حق واجب علي ... و علي تأديته ...

    لذا ، فإنني غادرت الشقة ، ذهبت إليهم ... في اليوم التالي .

    عندما وصلت ، كانت ابنة نديم هي أول من التقيت به ...

    الفتاة كانت جالسة بين مجموعة من الصناديق الخشبية ، منهمكة في إصلاح و تجبير كسورها بالمطرقة و المسامير !

    ألقيت التحية فلم تسمعني ، فعدت أحيي بصوت مرتفع فانتبهت لي ...

    رمت الفتاة بالمطرقة جانبا و نهضت واقفة و قالت :

    " مرحبا بك أيها السيد النبيل ... "

    هبطت ببصري أرضا و قلت :

    " كيف أحوالكم ؟ "

    " الحمد لله . ماذا عنك ؟ "

    " بخير سيدتي . ... هل العم إلياس موجود ؟ "

    " خالي ذهب لجلب بعض الأشياء ... سيعود قريبا ... تفضل "

    و أرادت مني أن اتبعها إلى المنزل ، لكنني قلت :

    " سوف أنتظر العم ... إذا لم يكن في ذلك ما يزعجكما ؟ "

    قالت :

    " لا بأس ، أهلا بك ... سوف أخبر والدتي عن مقدمك "

    و ذهبت مسرعة إلى المنزل ...

    أنا جعلت أتأمل طابور الصناديق المكسورة التي تنتظر دورها في التجبير !

    إنها مهمة شاقة لا تناسب المرأة !

    أليس كذلك ؟؟

    بعد قليل أتت السيدة الأم مع ابنتها ، ترحب بي بحرارة و كأنها تعرفني منذ زمن !

    شعرت بالخجل من ذلك ، و لكن يبدو أنه وضع مألوف لدى هذه العائلة الغريبة !

    قلت و أنا أنظر ناحية الصناديق :

    " دعاني أتولى ذلك "

    طبعا السيدتان اعترضتا ألا أنني قلت :

    " ريثما يعود العم إلياس "

    و رغم أنها المرة الأولى التي أقوم فيها باستخدام المطرقة و المسامير ، ألا أنني أتقنت العمل !

    في الواقع ، شعرت بالخزي من نفسي ... فأنا عاطل عن العمل أتسكع في المدن و الشوارع ، بينما تقوم فتاة شابة في العشرينات بإصلاح كسور صناديق خشبية ، و قطف الثمار ، و حمل الصناديق الثقيلة ، و الحرث و الزرع و ما إلى ذلك ...

    أمر مخز بالفعل !

    بعد قليل وصل العم إلياس و ما أن رآني حتى أسرع نحوي يريد أخذ المطرقة من يدي ...

    قلت :

    " مرحبا أيها العم الطيب ! لا تقلق ... إنه عمل يسعدني كثيرا ! "

    اعتقد أنه شعر بالخجل ، و رحب بي بحرارة تفوق حرارة ترحيب الأخريين ، و تمتم بعبارات الشكر و بسيل من الدعوات و الأماني !

    أنهيت عملي خلال ساعة ... أمطرني الجميع بكلمات الشكر اللانهائية ... شعرت حينها بأنني شخص ذو قيمة و أهمية و قدرة على العمل و إفادة الآخرين ... بعد شهور التفاهة و البطالة و التشتت التي قضيتها ...

    قال العجوز :

    " أعطاك الله القوة و الصحة يا بني ، آمل أن تكون قد وفقت في العثور على وظيفة تلائمك ؟؟ "

    قلت :

    " ليس بعد ! "

    قال :

    " إذن ؟؟ "

    قلت :

    " هل ... أجد عندكم عملا مقابل المأوى و الطعام فقط ، إلى أن أجد وظيفة ملائمة ؟؟ "

    ستة أسابيع مضت منذ أن اقتحمت عالم الفلاحة ، و أصبحت مزارعا !

    شيء لم أكن أحلم به أو أتخيله حتى يمر ببالي مرورا عابرا ... فقد كنت أحلم بأن أصبح رجل أعمال مهم ... مثل صديقي سيف ...

    في كل صباح ، كنت أقوم بحرث الأرض ، و زرع البذور ، و قطف الثمار و تنظيف المزرعة ، و إصلاح كل مكسور ، الصناديق ... أنابيب المياه ، الأغصان !
    و قبيل الظهيرة أذهب لبيع ثمار اليوم في سوق الفاكهة ، و حين أعود أتابع العمل في هذا الشيء أو ذاك ... عمل شبه مستمر حتى غروب الشمس ...

    وجباتي الثلاث كنت أتناولها إما مع العم إلياس أو في الغرفة الجانبية التي خصصت لي ، خارج المنزل ...

    رغم أنه كان عملا شاقا ألا أنني سررت به كثيرا بل و وجدت فيه ذاتي التائهة ... و تعلقت بعائلتي الجديدة كما تعلقت هي بي ...

    أما عن صحتي ، فقد تحسنت كثيرا مع تحسن نفسيتي ، و اختفت الآلام تقريبا و كسبت عدة أرطال من الوزن !

    و أفضل ما في الأمر ... أنني تقريبا أقلعت ُ عن التدخين !

    اليوم تلقيت اتصالا من والدي يخبرني فيه بأنه و أمي سيسافران لأداء الحج بعد الغد ، و يرغبان في رؤيتي ... أمر يتطلب مني العودة إلى المنزل رغما عني ...
    أمر ٌ و إن كان صعبا فإن علي تحمله من أجل رؤيتهما ... ليلة واحدة فقط ثم أرحل عن ذلك المنزل و من به !

    هكذا كان تفكيري قبل أن يقول أبي :

    " و لأن سامر لا يستطيع أخذ إجازة لكونه حجز أجازته بعد عودتنا من أجل الزواج ، فلا بد من بقائك هنا حتى نعود ! "

    قلبت الأفكار في رأسي و وجدتها مهمة يصعب علي تحملها ، فقلت :

    " لا أستطيع ذلك يا أبتي ... سآتي من أجل تحيتكما فقط ... "

    قال :

    " و من يبقى لرعاية المنزل و الفتاتين إذن ؟؟ "

    أنا ؟؟

    أأعود أنا لأرعى تلك الخائنة من جديد ، و أعيش معها أيام استعدادها للزفاف ؟؟
    لم تبق غير أسابيع ثلاثة عن ذلك الموعد المشؤوم ! إنني أفضل السفر إلى المريخ أو المشتري على العودة إليها ... ومشاهدتها عروسا تودع العزوبية !

    " لا يمكنني ... يا أبي ... "

    " في حال كهذه ... لا أملك غير تأجيل حجي للعام المقبل ! "

    " أوه كلا أبي ... مادمتما قد عقدتما العزم ... فتوكلا على الله ! "

    " و الفتاتان ؟؟ أ أتركهما وحدهما في البيت ؟؟ مستحيل طبعا "

    أشياء كثيرة تبدو مستحيلة جدا ، ألا أنك حين توضع في وجه التيار ، تجد نفسك مضطرا لتنفيذها رغما عن أنفك ، مستقيما كان أو معقوفا !
    خلاصة القول ، رضخت للأمر ... و وافقت على العودة إلى جهنم,
    كنت أرتب أشيائي في حقيبة سيارتي حين أقبل العم و معه الآنسة أروى ، ابنة نديم و وقفا يراقباني ...

    قال العم :
    " نحن محزونون لفراقك ... أرجوك أن تعود إلينا من جديد فوجودك عنى الكثير "
    ابتسمت له بفرح ، و قلت :
    " بالطبع سأعود يا عمي ، إن شاء الله ... ما أن يعود والداي من الحج حتى أوافيكم من جديد ... هنا عملي و في أي قطر من أقطار الأرض لن أجد الراحة كما أجدها هنا "
    و هي حقيقة أدركها ... تماما
    قالت أروى :
    " نتمنى أن تحضر عائلتك لزيارتنا ذات يوم ! هلا ّ فعلت ؟؟ "
    قلت :
    " سأرى ما إذا كان ذلك ممكنا ... "
    قالت :
    " ألديك شقيقات؟"
    قلت :
    " نعم ، واحدة فقط ، و شقيق واحد فقط أيضا "
    قالت :
    " أحضرها لزيارتنا ذات يوم ... سيعجبها المكان كثيرا "
    " أنا واثق من ذلك"
    و أغلقت حقيبة سيارتي ، ثم فتحت الباب و قلت مودعا :
    " نلتقي على خير إن شاء الله بعد أسبوعين ... دعوا الأعمال الشاقة لأنجزها حين أعود "
    و ابتسم العم ، و كذلك ابتسمت أروى ... ثم لوّحت بيدها مودعة ... !

    أروى نديم ... فتاة قوية ... شخصية مميزة تستحق التقدير ... !
    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
    أجلس أمام التلفاز في غرفة الضيوف أشاهد برنامجا ترفيهيا ، عل ّ ذلك يفيد في طرد الأفكار التعيسة من رأسي ...

    تركت الجميع مجتمعين في غرفة المعيشة يتناقشون بشأن العرس ، و أنا أشاهد برنامجا سخيفا لا أهدف منه إلا شغل نفسي بشيء أبعد ما يكون عن ... وليد .

    في أي لحظة قد يصل ...

    لا لست أرتقب حضوره ، فلم يعد يهمني ذلك ، بل على العكس ، لازلت ألح على سامر ليبقى هو معنا خلال الأسبوعين اللذين سيغيبهما والداي ... في الحج ...

    أقبل سامر الآن يحمل كأس عصير برتقال ، يقدمه لي !

    " عروسي ... تفضلي هذا "

    أخذت العصير و شكرته و قلت :
    " لم تحضره بنفسك ! ؟ "

    ابتسم و قال :
    " عروسي و أحب تدليلها ! لم تجلسين وحدك هنا ؟ إننا نشرب العصير في غرفة المعيشة و نتحدث بشأن الحفلة ! "
    ازدردت شيئا من العصير ، ثم وضعته على المنضدة التي بجانبي و عدت أتابع البرنامج متظاهرة بالاهتمام و الاندماج ...
    سامر جلس على المقعد المجاور و أخذ يشاهد البرنامج بضع دقائق ، و أظنه استسخفه !

    قال :
    " لو كان باستطاعتي الحصول على إجازة أطول ، لكنت بقيت هذين الأسبوعين معك ... "

    قلت في نفسي :
    ألا يكفي أنني عشت منذ طفولتي معك ، و سأقضي بقية حياتي معك ... ؟؟ إنهما أسبوعان ليس إلا ! ألا تسأم منّي !!؟؟

    الآن أمسك بيدي و قال :
    " ثلاثة أسابيع فقط ... كم أنا متلهف لذلك الحين ! "
    سحبت يدي من بين يديه و أمسكت بكأس العصير ، و رشفت رشفتين ، و أبقيته بين يدي حتى لا يعود لمسكي !
    قال :
    " فيم تفكرين ؟؟ "
    التفت إليه أخيرا ... إذ أنني طوال الوقت كنت أتظاهر بمتابعة البرنامج ، قلت :
    " مندمجة مع التلفاز ! "
    سامر هز رأسه تكذيبا ، و قال :
    " بل أنت في مكان آخر ! "
    لم أستطع نفي الحقيقة ... فنظرت إلى كأس العصير ، و جعلت أهزه بعض الشيء ...

    قال سامر :
    " تختلفين عن دانة ... فهي متحمسة جدا للعرس ! أهناك ما يقلقك عزيزتي ؟؟ "

    التزمت الصمت ، ما عساي أن أقول ؟؟؟
    نعم هناك ما يكاد يخنقني !
    أنا لا أريد الزواج منك ! هلا ّ أعفيتني من هذه المهمة الأبدية لو سمحت ؟؟
    سامر أمسك بيدي الممسكتين بكأس العصير و قال :

    " لا تقلقي ! كل شيء سيكون على ما يرام ! و ستكونين أجمل من دانه حتما ! "
    في هذه اللحظة سمعنا تنحنحا فالتفتنا ناحية الباب ، و رأينا دانة تقف و تراقبنا باستنكار ... !

    بمجرد أن نظرنا إليها قالت بحنق :
    " سامر ! الويل لك ! من هي الأجمل مني ؟؟ سأريك ! "

    سامر ضحك و سحب يديه عن يدي و قال :
    " أنا أعني فتاة أخرى تدعى دانة ستتزوج في نفس ليلتنا ! "

    قالت دانة :
    " آه نعم صدّقتك ! أجل أعرفها ... و لها شقيق اسمه سامر ستقتله بعد دقيقتين ، و آخر اسمه وليد وصل إلى البيت قبل دقيقتين ! "
    جفلت ، و توجس فؤادي خيفة ... سأل سامر منفعلا :
    " هل وصل وليد حقا ؟؟ "
    قالت :
    " نعم وصل ! إنه في غرفة المعيشة ! "

    عادة ً ما أحس بالحرارة لدى ذكر وليد على مسمعي أو في خاطري ، إلا أنني الآن شعرت بالبرودة !
    البرودة في رجلي بالتحديد ... لأن كأس العصير البارد انزلق من يدي المرتعشتين و انسكب محتواه على ملابسي و رجلي !

    دانة لاحظت وقوع الكأس من يدي ، قالت :
    " ماذا فعلتِ ! أوه ... العصير الذي تعبت ُ في إعداده ! "
    وقفت أنا و وقف سامر و أخذت أحدق في البقعة التي ظهرت على ملابسي !
    أهذا وقته ؟؟
    سامر قال :
    " فداك ! "
    ثم التفت إلى دانة و قال ...
    " إلى وليد ! "
    و ذهب مسرعا ليحيي شقيقه ...
    دانة قالت و هي تنظر إلى ملابسي بشيء من السخرية :
    " ألن تأتي لتحيته ؟؟ "
    قلت :
    " سأبدل ملابسي ... "
    و مضيت نحو الباب فلما صرت قربها قلت :
    " أرجو أن تغلقي باب غرفة الضيوف فأنا لا أضع حجابي "

    دانة ذهبت إلى غرفة الضيوف ، فدخلت و أغلقت الباب ، بينما صعدت أنا ليس فقط لتبديل ملابسي ، بل و للاستحمام ، و غسل ملابسي ، و غسل عباءتي أيضا ، و عصرها ، و كيها كذلك !
    شغلت نفسي بكل شيء و أي شيء يؤجل موعد اللقاء المحتوم ...
    من قال أنني أريد أن أذهب للقائه ؟؟ من قال أنني أتحرق شوقا لرؤيته ؟؟
    أنا لا أريد رؤية وجهه ثانية ... أبدا !
    مضت ساعة و نصف ، و أنا في غرفتي أؤدي كل ما تقاعست عن تأديته خلال الأسابيع الماضية !

    ألست ُ عروسا على وشك الزواج ؟؟

    لا ألام إذن إن أنا اعتنيت ببشرة وجهي ، و وضعت عليها الكريمات و المرطبات و المعالجات كلها واحدا تلو الآخر !
    و بعدما فرغت منها ، و قفت أمام المرآة ... مصرة على تجريب علبة الماكياج الجديدة التي اقتنيتها مؤخرا !
    أليس هذا من حقي ؟؟؟
    طرق الباب و سمعت صوت دانة تناديني فأذنت لها بالدخول ...
    دخلت و فوجئت بما كنت أصنع ! نظرت إلي بتعجب ... و قالت :
    " بربك ! ما ذا تفعلين ؟؟ "
    قلت و أنا أمشط رموش عيني بدقة :
    " أتزين ! ما ترين !؟ "
    قالت :
    " تتزينين ! الآن ؟؟ "
    قلت :
    " ماذا في ذلك ؟؟
    قالت :
    " ألن تأتي لإلقاء التحية على وليد ؟؟ إنه يسأل عنك ! "
    قلت :
    " و أنا هكذا ؟ لا طبعا ... بلغيه تحياتي ... "

    ثم انغمست في تلوين وجهي كما ألون لوحة أرسمها ... بمهارة ...
    دانة كانت تحدثني باستنكار ، إلا أنها في النهاية تركتني و انصرفت ، و بمجرد ذهابها أقفلت الباب ، و رميت بالفرشاة جانبا و ارتميت على سريري ....
    لماذا أتصرف بهذا الشكل الغبي ؟؟
    لم أعد أفهم نفسي ... ألم أكن متلهفة لرؤيته ؟؟
    ماذا جرى لي الآن ؟؟

    جلست ، و نظرت من حولي فوجدت لوحات رسمي المتراكمة فوق بعضها البعض ... ذهبت إليها و استخرجت منها صورة وليد ... ذي العينين الحمراوين و الأنف المعقوف ...

    لماذا لا يزال هنا معي ؟؟ لمَ لمْ أتخلص من هذه الصورة ؟؟
    لماذا لا أحس بالحرارة الآن ؟؟
    كم كان شعورا جميلا ... رائعا ...
    و انتهى ...

    و إن ْ هربت كل تلك المدة لم يكن باستطاعتي البقاء حبيسة الغرفة دون أن يستغرب البقية ذلك و يقلقون ...
    أتت أمي إلي ، فتحت الباب لها فنظرتْ إلي ببعض الدهشة !
    " رغد ... أتنوين استقبال أو زيارة إحدى صديقاتك ؟؟ "
    " أنا ؟؟ لا أبدا "
    " إذن ... لم هذه الزينة ! "
    حتى أنتِ يا أمي ؟؟
    هل يجب أن أتزين فقط و فقط حين أقابل صديقاتي ؟؟ لماذا تبقى دانة بكامل زينتها معظم الأوقات !
    قلت :
    " هل هذا عيب !؟ أم ممنوع ؟؟ "
    قالت :
    " لا لم أقصد ، لكنك لا تفعلين هذا في العادة إلا لسبب ! "
    قلت "
    " كيف أبدو ؟"
    قالت :
    " جميلة طبعا ... لكن أو لن تأتي ... لتحية وليد ؟؟ "
    صمت أنا لبرهة ثم قلت :
    " لم يرغب في وداعي, إذن ... لا أرغب في استقباله, أنا لا أطيق مجالسة الكذابين "

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس 21 نوفمبر 2024 - 8:58